علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

محدودية القدرة الإلهية!!

الشيخ جعفر السبحاني

[نص الشبهة]

إنَّ الفِطْرة البشرية تقضي بأَنَّ الكمال المطلق الذي ينجَذِب إليه الإِنسان في بعض الأَحايين قادر على كل شيء ممكن ، ولا يتبادر إلى الأذهان أَبداً ـ لولا تشكيك المُشَكّكين ـ أَنَّ لقدرته حدوداً أَو أَنّه قادر على شيء دون شيء ، ولقد كان المسلمون في الصدر الأَول على هذه العقيدة إستِلهاماً من كتاب الله العزيز ، النّاص على عمومية قدرة الله سبحانه.

حتى وصل أَمر الأَبحاث الكلامية إلى شيوخ المعتزلة فجاؤوا بتفاصيل في سعة قدرته سبحانه نشير إليها على وجه الإجمال.

1 ـ قال النَّظَّام (1) : إِنَّه تعالى لا يقدر على القبيح.

2 ـ و قال عَبَّاد بن سليمان الصَّيْمُري (2) : لا يقدر على خلاف معلومه.

3 ـ و قال البلخي (3) : لا يقدر على مِثْل مقدور عبده.

4 ـ و قال الجُبّائِيّان (4) : لا يقدر على عَيْن مقدور العبد.

وربما نُسب إلى الحكماء أَنَّه سبحانه لا يقدر على أَكثر من الواحد ولا يصدر منه إِلاّ شيء واحد و هو العقل.

[جواب الشبهة]

هذه صورة تاريخية عن نشأة هذا الرأي ، أَيْ تقييد قدرة الله. ويبدو أنّ أكثَر هؤلاء تأثّروا بالآراء الدخيلة الوافدة إلى بلاد الإِسلام في عصر نهضة الترجمة. وستوافيك شبهاتهم وتحليلها بعد استعراض أَدلة القائلين بعموم قدرته.

أَدلة القائلين بعموم القدرة الإِلهية :

إِنَّ المقصود من عموم قدرته سبحانه هو سعتها لكل شيء ممكن. بمعنى أنَّه تعالى قادر على خلق كل ما يكون ممكناً لذاته غير ممتنع كذلك. وقد استدل المحققون عليه بقولهم :

«إنَّ المقتضي موجود والمانع مفقود. أما الأول فلأن المقتضي لكونه تعالى قادراً هو ذاته ، ونسبتُها إلى الجميع متساوية لكونها منزهة عن الزمان والمكان والجهة فليس شيء أَقرب إليه من شيء حتى تتعلق به القدرة دون الآخر.

وأَما الثاني فلأَن المقتضي لكون الشيء مقدوراً هو إمكانه ، والإِمكان مشترك بين الكل فتكون صفة المقدورية أَيضاً مشتركة بين الممكنات وهو المطلوب».

ويمكن توضيح ذلك الدليل بالبيان التالي :

إن موانع عموم قدرته يمكن أنْ تكون أحد الأمور التالية :

أولاً ـ أنْ لا يكون الشيء ممكناً بالذات ، مثل اجتماع النقيضَيْن أو الضِدَّين.

ثانياً ـ أَنْ يكون هناك مانع من نفوذ قدرته وشمولها للجميع. وهذا كما إذا كان في مقابله قدرةٌ مضاهيةٌ ومعارضةٌ لقدرته.

ثالثاً ـ أنْ تكون ذاته غيرَ متساوية بالنسبة إلى الأَشياء.

والعوامل الثلاثة منتفية بِرُمَّتِها. أما الأَول ، فلأن المقصودَ من عموم قدرته هو شمولُها لكل أَمر ممكن دون الممتنع بالذات، فلا تتعلق القدرة الإِلهية به أَبداً ، لا لقصور في الفاعل بل لقصور في المورد. وأَما الثاني ، فلأن القُدرة المُضاهِيَة المعارِضَة لقُدْرته مرفوضة بما ثَبَتَ ويثْبُتُ في محله من وَحْدَةِ الواجبِ سبحانه ذاتاً وعدم مثيل له في صفحِة الوجود ، وأما القُدرة المُمْكِنَة فليست مُزاحِمَة لقدرته إذ هي مَخلوقةٌ له.

وأما الثالث ، فلأَن تَنَزُّهَه عن كلّ قيد وشرط وجهة ومكان يجعله متساوياً بالنسبة إلى كل ممكن بالذات فلا وجه لأن يقع بعضُ الممكنات في إِطار قدرته دون الآخر. فإن التبعيض في قدرته سبحانه رَهْن كونِ بعضِ الأشياءِ قريبةً إليه دون بعضها الآخر ، كالإِنسان الذي يعيش في مكان وزمان خاص. فإِنَّ الأشياء الغابرةِ أو المستقبَلَة خارجةٌ عن حَوْزة قدرته، لمحدودية ذاته بالقيود الزمانية والمكانية. وأَما المجرد التام الخالق لكل الأَزمنة والأَمكنة والجواهر والأَعراض فلا معنى لأن تكون ذاتُه قريبة إلى واحد وبعيدة عن الآخر.

هذا توضيح ذلك البرهان.

وهناك برهان آخر :

أروع وأبْهى مما ذُكر يبتنى على عدم تناهي ذاته سبحانه في الجمال والكمال وحاصله أنَّ وجوده سبحانه غير محدود ولا متناه ، بمعنى أَنَّه وجود مُطْلَق لا يَحُدُّه شيء من الحدود العقلية والخارجية. وما هو غير متناه في الوجود ، غير متناه في الكمال والجمال ، لأَن منبع الكمال هو الوجود ، فعدم التّناهي في جانب الوجود يُلازم عدمه في جانب الكمال ، وأيّ كمال أروع وأبهى من القدرة فهي غير متناهية تبعاً لعدم تناهي كماله ، فيثبت سعة قدرته لكل ممكن بالذات.

سعة قدرته سبحانه بمعنى آخر :

إِنَّ لِسَعَةِ قدرته سبحانه معنيين أَحدهما ما تعرفت عليه ، والثاني ما طرحه الحكماء في كتبهم. وحاصلُه أنَّ الظواهرَ الكونية ، مجرَّدَها ومادّيَّها ، ذاتَها وفعلَها ، تنتهي إلى قدرته سبحانه. فكما أنَّه لا شريك له في ذاته ، لا شريك له في فاعليته. فكلُّ ما يُطلَق عليه كلمةُ الموجود فهو مخلوق لله سبحانه مباشرةً أو على نحو الأسباب والمُسبَّبات ، فالكل يستند إليه لا محالة.

والمخالف لهذا المعنى من سعة القدرة هم الثنوية الذين جعلوا فاعل الخير غير فاعل الشر ، وعامةُ المعتزلة الذين صيروا الإِنسان فاعلاً مستقلاً في أَفعاله.

وأَما قول الحكماء بكون الصادر عن الله سبحانه هو العقل الأول ومنه صدر العقل الثاني إلى أَنْ تنتهي دائرة الوجود إلى المادة والهَيُولى ، فالظاهر أَنها فرضية لا تخالف انتهاء الموجودات إلى الله سبحانه عن طريق الأَسباب والمسبّبات ، والتفصيل موكول إلى محله.

النصوص الدينية وسعة قدرته سبحانه :

لقد تضافرت النصوص من الكتاب والسنة على سعة قدرته وإِطلاقها ، نذكر منها :

قوله سبحانه : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } [الأحزاب: 27]. و قوله سبحانه : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]. و قوله سبحانه : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44].

وقال الإِمام الصادق ( عليه السَّلام ) : « الأَشياء له سواء ، علماً و قدرةً و سلطاناً وملكاً » (6).

وقال الإِمام موسى بن جعفر ( عليه السَّلام ) : « هو القادرُ الذي لا يَعْجَزْ » (7).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ هو إبراهيم بن سَيَّار بن هاني النَّظّام المتوفى عام 231 هـ . وكان عهده عهد ازدهار الترجمات الأَجنبية للآراء الوافدة إلى بلاد الإِسلام. ومن المظنون أَنَّه تأثر بتلك الآراء والأَفكار.

2 ـ وقد نقل عنه القول بكون دلالة الألفاظ ذاتية لا وضعية ولم نقف على ترجمته في المعاجم.

وقد ذكر العلامة الحلي نظريته في قدرته سبحانه في « نهج المسترشدين ». لا حظ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين ، ص 189.

3 ـ هو أبو القاسم الكعبي المتوفي عام 317 هـ .

4 ـ وهما الشيخ أبو علي محمد بن عبدالوهاب المتوفي عام 303 هـ .وابنه أبو هاشم عبد السلام بن محمد المتوفي عام 321 هـ . وكانا من رؤساء المعتزلة وأَقطابهم ولهما آراء خاصة يخالفان فيها سائر شيوخها.

5 ـ توحيد الصدوق ، ص 131.

6 ـ توحيد الصدوق ، ص 76.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد