المترجم: عدنان أحمد الحاجي
نحن البشر نعتقد بأننا نتحكم بشكل كامل في قراراتنا وسلوكياتنا. ولكن في العمق، هناك قوى خارجة عن سيطرتنا الواعية على طريقة تفكيرنا وتصرفاتنا وأفكارنا(1): وهذه القوى هي جيناتنا.
منذ خمسينيات القرن الماضي(2) تناول باحثون دراسة تأثير الجينات في صحة الإنسان(3). وقد دفع ذلك الأطباء والباحثين وأصحاب القرار(4) إلى الدعوة إلى توظيف الطب الدقيق(5) لتشخيص الأمراض وعلاجها، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى تحسينات أسرع على صحة المرضى(6).
لكن تأثير الجينات في الخصائص العقلية والسلوكية (المعروفة بالسيكولوجيا) لم تُولَ الاهتمام الكافي.
الدراسات التي أجريها [الكلام للمؤلف](7) تتناول مدى تأثير الجينات في السيكولوجيا والسلوك البشري. فيما يلي بعض الطرق المحددة التي يمكن لعلماء النفس من خلالها توظيف نظرية الصراع (النزاع) الجيني(9،8) لفهم السلوك البشري بشكل أفضل - وربما لتعزيز علاجات الاضطربات النفسية.
ما علاقة الجينات بالسيكولوجيا؟
تقترح نظرية النزاع الجيني(10) أنه على الرغم من امتزاج جيناتنا معًا لتكويننا كما نحن، إلا أنها تحتفظ بعلامات (بصمات) تشير إلى ما إذا كانت قد أتت من الأم أو من الأب. هذه العلامات تجعل الجينات إما أن تتعاون أو أن تتصارع مع بعضها البعض أثناء نمونا وتطورنا كأجنّة في أرحام أمهاتنا(11). تركز الأبحاث التي تتناول النزاع الجيني في المقام الأول على الحمل، حيث إن هذه هي إحدى المرات القليلة في التطور البشري التي يمكن فيها ملاحظة تأثير مجموعات مختلفة من الجينات بشكل بارز في شخص واحد.
عادةً ما يكون لجينات الأم والأب استراتيجيات مثالية مختلفة لنمو الجنين وتطوره. على الرغم من أن الجينات من الأم والأب تجد في نهاية المطاف طرقًا للتعاون مع بعضها البعض مما يؤدي إلى نمو وتطور طبيعيين للجنين، فإن هذه الجينات تستفيد، وذلك بدفع نمو الجنين ليكون أكثر انسجامًا مع ما يكون أكثر مثالية بالنسبة لكل من الأم والأب الذي جاء منهما. تحاول جينات الأم المحافظة على صحة الأم مع إبقاء موارد كافية لحمل آخر في المستقبل، بينما تستفيد جينات الأب من أخذ الجنين جميع موارد أمه لنفسه.
عندما لا تكون الجينات قادرة على التوفيق بين تلك المحاولتين [من الأم والأب]، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى مخرجات غير مرغوب فيها، كالإعاقة الجسدية والذهنية (التخلف العقلي) التي يصاب بها الطفل.
يرى بعض الباحثين أن الجينات تعمل لمصلحتها الذاتية. https://youtu.be/LtmAHmTLYy0?si=8EimMRvRniHfPcyU
على الرغم من أن النزاع الجيني هو حالة طبيعية، إلا أن تأثيره لم يُهتمّ به إلى حد كبير من ناحية تأثيره في السيكولوجيا والسلوك. أحد الأسباب هو أن الباحثين يفترضون أن التعاون الجيني ضروري لصحة الفرد ورفاهيته(12). سبب آخر هو أن معظم الصفات البشرية تتحكم فيها الكثير من الجينات. على سبيل المثال، الطول يُحدد من قبل توليفة من 10 آلاف متحور جيني(13)، ويُحدد لون البشرة من خلال أكثر من 150 جينًا(14).
الطبيعة المعقدة للسيكولوجيا والسلوك تجعل من الصعب تحديد التأثير الفريد لجين واحد، ناهيك عن تحديد مِن أيٍّ مِنَ الأبوين [من الأم أو من الأب؟] جاء. خذ على سبيل المثال الاكتئاب. احتمال الإصابة بالاكتئاب لا يتأثر بـ 200 جين مختلف(15) فحسب، بل يتأثر أيضًا بعوامل البيئة (التنشئة) مثل سوء معاملة الأطفال وضغوط الحياة النفسية(16). وقد درس الباحثون أيضًا تفاعلات معقدة مماثلة للاضطرابات المرتبطة بالتوتر والقلق.
متلازمتا برادر - ويلي(17) وأنغلمان(18)
عندما يدرس الباحثون النزاع الجيني، فإنهم عادة ما يركزون على ارتباطه بالأمراض(19)، ويوثقون عن غير قصد تأثير النزاع الجيني في السيكولوجيا والسلوك.
على وجه التحديد، درس الباحثون كيف ترتبط الحالات المتطرفة للنزاع الجيني - مثلًا، في حالة عندما يُفعَّل تأثير نوع واحد من الجينات من الوالدين بشكل كامل، بينما يُعطل تأثير المجموعة الأخرى من الجينات تمامًا - بالتغيرات في السلوك من خلال دراسة الذين يعانون من متلازمة برادر - ويلي ومتلازمة أنجلمان.
تعد متلازمتا برادر - ويلي وأنجلمان من الاضطرابات الوراثية النادرة التي تؤثر في حوالي 1 من كل 10 آلاف إلى واحد من كل 30 ألفًا (20) وواحد من كل 12 ألفًا إلى واحد من كل 20 ألف شخص حول العالم(21)، على التوالي [بالنسبة للمتلازمتين]. لا يوجد حاليًّا علاج طويل الأمد متاح لأيّ من هاتين المتلازمتين.
تظهر هاتان المتلازمتان في المرضى الذين يفتقرون إلى نسخة واحدة من الجين الموجود على الكروموسوم 15 اللازم للنمو والتطور المتوازن(22). الشخص الذي يرث فقط نسخة الجين من والده، سوف يصاب بمتلازمة أنجلمان، في حين أن الذي لديه فقط نسخة الجين من والدته سيصاب بمتلازمة برادر - ويلي.
الأعراض الجسدية المميزة لمتلازمة أنجلمان تشمل التأخر الكبير في النمو، والإعاقات الذهنية وصعوبة الحركة وصعوبات في الأكل والإفراط في التبسم. أما الأعراض الجسدية المميزة لمتلازمة برادر – ويلي، تشمل تقلص قوة العضلات واضطراب التغذية (الانتقائية في الغذاء(23)، ونقص الهرمونات وقصر القامة والإفراط الشديد في تناول الطعام في مرحلة الطفولة).
تمثل هاتان المتلازمتان إحدى الحالات القليلة التي يمكن فيها ملاحظة تأثير جين واحد مفقود بشكل واضح. على الرغم من أن متلازمة أنغلمان(24) وبرادر - ويلي(25) ترتبطان باضطرابات اللغة والاضطرابات المعرفية واضطربات الأكل والنوم، إلا أنهما ترتبطان أيضًا باختلافات واضحة في السيكولوجيا والسلوك.
على سبيل المثال، يبتسم الأطفال المصابون بمتلازمة أنغلمان ويضحكون(26) ويرغبون عمومًا في الانحراط في التفاعلات الاجتماعية(27). وترتبط هذه السلوكيات بزيادة القدرة على الحصول على الموارد واهتمام المحيطين بهم(28).
من ناحية أخرى، يعاني الأطفال المصابون بمتلازمة برادر - ويلي من نوبات غضب(29) وقلق(30) ويواجهون صعوبات في المواقف الاجتماعية(28). وترتبط هذه السلوكيات بزيادة الصعوبات التي تواجهها الأمهات في وقت مبكر من حياة الطفل، مما قد يؤدي إلى تأخير موعد إنجاب الأم لطفل آخر. وهذا من شأنه أن يزيد من حصول الطفل على الموارد مثل الغذاء وانتباه الوالدين واهتمامهما(28)..
النزاع الجيني في السيكولوجيا والسلوك
تسلط متلازمة أنعلمان ومتلازمة برادر - ويلي الضوء على أهمية دراسة تأثير النزاع الجيني في السيكولوجيا والسلوك. وقد وثق الباحثون الاختلافات في المزاج والتواصل الاجتماعي والصحة النفسية والتعلق بين الطفل ووالديه(31) في هذه الاضطرابات.
الاختلافات في العمليات النفسية بين هاتين المتلازمتين تشبه التأثيرات المقترحة للنزاع الجيني. يؤثر النزاع الجيني في مدى التعلق بين الطفل ووالديه من خلال تحديد مدى استجابة وحساسية العلاقة بين الوالدين والطفل(32) من خلال الاختلافات في السلوك واحتياجات الطفل إلى الموارد. تبدأ هذه العلاقة بالتشكل والطفل في الرحم(33) وتساعد في معايرة مدى تفاعله مع المواقف الاجتماعية المختلفة(34). على الرغم من أن معايرة الاستجابات هذه تبدأ على مستوى بيولوجي خالص في الرحم، إلا أنها تؤدي إلى أنماط فريدة من السلوكيات الاجتماعية(35) التي تؤثر في كل شيء بدءًا من كيفية إدارتنا للتوتر(36) وحتى شخصياتنا(37).
وبما أن معظم الباحثين لا يأخذون في الحسبان تأثير النزاع الجيني في السلوك البشري، فإن الكثير من هذه الأبحاث لا تزال نظرية. كان على الباحثين أن يجدوا أوجه تشابه بين التخصصات لمعرفة كيفية تأثير العملية البيولوجية للنزاع الجيني في العمليات النفسية. إن البحث في متلازمتي أجغلمان وبرادر - ويلي هو مجرد مثال واحد حول كيف يمكن لدمج إطار النزاع الوراثي في البحث النفسي أن يوفر للباحثين وسيلة لدراسة كيفية تأثير بيولوجيتنا فينا وجعلنا بشرًا بشكل فريد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر من داخل النص وخارجه
1- https://homework.study.com/explanation/what-is-conscious-control.html
2- http://https://jamanetwork.com/journals/jama/article-abstract/409274
3- https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1002/ajhb.20663
5- https://obamawhitehouse.archives.gov/precision-medicine
6- https://www.healthaffairs.org/doi/10.1377/hlthaff.2017.1624
7- http://https://scholar.google.com/citations?user=YBPxHqkAAAAJ&hl=en&oi=ao
8- https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/17456916241227152
9- "بما أن الجينات قادرة على الإيثار الفردي، فإنها ستنتج صراعًا داخليًّا بين الجينات في جينوم الفرد الواحد، تسمى هذه الظاهرة بالنزاع الجيني الداخلي، وتنشأ عندما يروج أحد الجينات للتكرار الخاص به على حساب الجينات الأخرى في الجينوم؛ ولتوضيح الفكرة قام المؤلف إيغبرت لي بتشبيه الجينوم بمجلس الجينات أي أن كل جين له مصلحته الشخصية لكن عندما يقوم جين بعمل يؤذي الجينات الأخرى تجتمع كل الجينات لتقمع الجين المضر". مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:
https://ar.wikipedia.org/wiki/التطور_من_المفهوم_الجيني
10- http://https://www.journals.uchicago.edu/doi/10.1086/418300
11- https://adnan-alhajji.blogspot.com/2022/12/blog-post_42.html?m=1
12- http://https://www.cdc.gov/genomics-and-health/about/genetic-disorders.html#
14- https://karger.com/spp/article/35/2/65/826910/Influence-of-Ethnicities-and-Skin-Color-Variations
15- http://https://www.nature.com/articles/s41380-023-01957-9
16- https://www.frontiersin.org/journals/psychiatry/articles/10.3389/fpsyt.2014.00048/full
18- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/متلازمة_أنجيلمان
20- http://https://www.mdpi.com/2073-4425/10/9/713
21- http://https://medlineplus.gov/genetics/condition/angelman-syndrome/#frequency
22- https://www.nature.com/scitable/topicpage/imprinting-and-genetic-disease-angelman-prader-willi-923/
23- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/اضطراب_التغذية
24- https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/j.1365-2788.1995.tb00477.x
27- http://https://www.nature.com/articles/s41598-023-30199-6
28- https://academic.oup.com/emph/article/2014/1/32/1843905
29- http://https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1002/ajmg.a.40480
30- https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/jir.12707
31- http://https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/jir.12635
32- https://link.springer.com/chapter/10.1007/978-3-642-17426-1_8
33- http://https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0306453012001916?via%3Dihub
34- http://https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S014976341000196X?via%3Dihub
35- https://royalsocietypublishing.org/doi/10.1098/rstb.2006.1942
36- https://www.annualreviews.org/content/journals/10.1146/annurev-psych-122216-011732
المصدر الرئيس
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان