علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ عبدالهادي الفضلي
عن الكاتب :
الشيخ الدكتور عبدالهادي الفضلي، من مواليد العام 1935م بقرية (صبخة العرب) إحدى القرى القريبة من البصرة بالعراق، جمع بين الدراسة التقليدية الحوزوية والدراسة الأكاديمية، فنال البكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية ثم درجة الدكتوراه في اللغة العربية في النحو والصرف والعروض بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، له العديد من المؤلفات والمساهمات على الصعيدين الحوزوي والأكاديمي.rnتوفي في العام 2013 بعد صراع طويل مع المرض.

أسلوب البحث (6)

نفاة الاستصلاح وأدلتهم:

أما نفاة الاستصلاح وفي مقدمتهم الشافعي فأهم ما استدلوا به:

1 - إيمانهم بكمال الشريعة واستيفائها لحاجات الناس "ولو كانت مصالح الناس تحتاج إلى أكثر مما شرعه ومما أرشد إلى الاهتداء به لبينه ولم يتركه لأنه سبحانه قال على سبيل الاستنكار: "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" (1).

والجواب على هذا الاستدلال أن مثبتي الاستصلاح لا ينكرون وفاء الشريعة بحاجات الناس وإن أنكروا وفاء النصوص بها، فهم يعتبرون العقول من وسائل إدراكها كالنصوص على حد سواء، واهتداء العقول إليها إنما هو بهداية الله عز وجل لها، فالعقول إذن كاشفة وليس بمشرعة.

 

2 - ما يستفاد من قول الغزالي وهو يرد على من يريد اعتبار الاستصلاح أصلا خامسًا "من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطروحة، ومن صار إليها فقد شرع، كما أن من استحسن فقد شرع، وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودًا بالكتاب والسنة والإجماع فليس خارجًا من هذه الأصول، لكنه لا يسمى قياسًا بل مصلحة مرسلة إذ القياس أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الإمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة، وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة" (2).

والجواب الذي يصلح - لمثبتي الاستصلاح - التمسك به. إن حصر معرفة المصلحة التي تحفظ مقاصد الشرع بالكتاب والسنة والإجماع لا دليل عليه لما سبق من إثبات كاشفية العقل وإدراكه للمصالح والمفاسد المستلزم لإدراك حكم الشارع بها. ومع إمكان الإدراك فليس هناك ما يمنع من وقوعه أحيانًا، وعلى أي حال فالمسألة مبنائية.

 

3 - ما ذكره الآمدي في كتابه الأحكام من أن "المصالح على ما بيّنا، منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها، وإلى ما عهد منه إلغاؤها، والمرسلة مترددة بين ذينك القسمين، وليس إلحاقها بأحدهما أولى من إلحاقها بالآخر، فامتنع الاحتجاج بالمرسل دون شاهد بالاعتبار يبين أنه من قبيل المعتبر دون الملغى" (3).

وموضع الفجوة في هذا الاستدلال اعتبار المصلحة مترددة بين القسمين إذا أريد من ترددها ترددها بين ما دل على الاعتبار من النصوص، وما دل على الإلغاء لافتراض القائلين بالاستصلاح أن النصوص غير متعرضة لها اعتبارًا أو إلغاء، وإنما اكتشفوا اعتبارها من قبل الشارع بدليل العقل، فهي إذن معتبرة من الشارع ولكن من غير ما عهد منه، فهي قسم ثالث في عرض ذينك القسمين، وإن شئت أن تقول أن الاعتبار على قسمين: معهود من الشرع بطريق النصوص، ومعهود منه بطريق العقل، وهذه من القسم الثاني وليست بأحد القسمين اللذين ذكرهما الآمدي ليقال: "وليس إلحاقها بأحدهما أولى من إلحاقهما بالآخر".

 

تلخيص وتعقيب:

وخلاصة ما انتهينا إليه أن تعاريف المصالح المرسلة مختلفة، فبعضها ينص على استفادة المصلحة من النصوص والقواعد العامة، كما هو مقتضى استفادة الدواليبي والطوفي. ومقتضى هذا النوع من التعاريف إلحاقها بالسنة، والاجتهاد فيها إنما يكون من قبيل تحقيق المناط بقسمه الأول، أي تطبيق الكبرى على صغراها بعد التماسها - أعني الصغرى - بالطرق المجعولة من الشارع ذلك، ولا يضر في ذلك كونها غير منصوص عليها بالذات، إذًا يكفي في إلحاقها بالسنة دخولها تحت مفاهيمها العامة، ومتى اشترطنا في السنة أن تكون خاصة لتكون مصدرًا من مصادر التشريع، فعدها - بناء على هذه التعاريف - في مقابل السنة لا يعرف له وجه.

 

وأما على تعاريفها الأخر فينحصر إدراكها بالعقل. والذي ينبغي أن يقال عنها أنها تختلف من حيث الحجية باختلاف ذلك الإدراك، فإن كان ذلك الإدراك كاملًا - أي إدراكًا للمصلحة بجميع ما يتعلق بها في عوالم تأثيرها في مقام جعل الحكم لها من قبل المشرع - فهي حجة، إذ ليس وراء القطع، كما سبق تكراره، مجال لتساؤل أو استفهام، يقول المحقق القمي: "والمصالح إما معتبرة في الشارع وبالحكم القطعي من العقل من جهة إدراك مصلحة خالية من المفسدة كحفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، فقد اعتبر الشارع صيانتها وترك ما يؤدي إلى فسادها (4)... الخ".

 

ولكن القول بحجيتها هنا لا يجعلها دليلًا مستقلًّا في مقابل العقل، بل هي نفس ما عرضناه سابقًا في مبحث حجيته. وإن لم يكن إدراكه لها كاملًا بأن كان قد أدرك المصلحة، واحتمل وجود مزاحم لها يمنع من جعل الحكم، أو احتمل أنها فاقدة لبعض شرائط الجعل كما هو الغالب فيها، بل لا يتوفر الإدراك الكامل إلا في حالات نادرة وهي التي تكون المصلحة ذاتية - كما سبق - فإن القول بحجيتها - أعني هذا النوع من المصالح المرسلة - مما يحتاج إلى دليل، وليس لدينا من الأدلة ما يصلح لإثبات ذلك، لما قلناه من أن الإدراك الناقص - وهو الذي لا يشكل الرؤية الكاملة - ليست حجيته ذاتية، بل هي محتاجة إلى الجعل والأدلة غير وافية بإثباته. والشك في الحجية كاف للقطع بعدمها لتقومها بالعلم، وقد مر إيضاح ذلك كله. وبهذا يتضح أن الشيعة لا يقولون بالمصالح المرسلة إلا ما رجع منها إلى العقل على سبيل الجزم، كما هو مقتضى مبناهم الذي عرضناه في دليل العقل وما عداه فهو ليس بحجة، فنسبة الأستاذ الخفيف القول بها إلى الشيعة ليس بصحيح على إطلاقه".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصادر التشريع، ص 78.

(2) المستصفى، ج 1 ص 143 وما بعدها.

(3) مصادر التشريع، ص 79 نقلًا عنه.

(4) القوانين المحكمة، ج 2 ص 92.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد