مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ عبدالهادي الفضلي
عن الكاتب :
الشيخ الدكتور عبدالهادي الفضلي، من مواليد العام 1935م بقرية (صبخة العرب) إحدى القرى القريبة من البصرة بالعراق، جمع بين الدراسة التقليدية الحوزوية والدراسة الأكاديمية، فنال البكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية ثم درجة الدكتوراه في اللغة العربية في النحو والصرف والعروض بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، له العديد من المؤلفات والمساهمات على الصعيدين الحوزوي والأكاديمي.rnتوفي في العام 2013 بعد صراع طويل مع المرض.

إمكانية تفوق المسلمين مدنيًّا (1)

 

الشيخ عبد الهادي الفضلي .. 

قد لا يتأتّى لنا أن ننطلق في الحديث عن موضوعنا هذا إلاّ بعد أن نمهّد له بما يحدد مفهوم الحضارة في لغتنا العربية المعاصرة ، وذلك لنتبيّن محور البحث بوضوح وجلاء، فنتحرّك منه وإليه في مسيرة توصلنا إلى غايتنا دونما عثار أو تعثّر .

كذلك لابدّ لنا من أن نمهّد له بما يكشف لنا عن مدى نجاح التجربة التاريخية للحضارة الإسلامية، لما يلقيه هذا النجاح من ضوء على ما نحن بصدد الإعراب عنه من إمكانية صمود المسلمين أمام إثارات ومؤثرات التحدي الحضاري الغربي القائم، و لما يساعد عليه من تمتين الرجاء وتقوية الأمل في نفوس المسلمين، وهو يحدوهم إلى أن يضعوا حضارتهم في مركزها الطبيعي الذي يمنحها التقدّم والازدهار مرة أخرى، لكي تخرج من هذا الواقع المعاش وهي أقوى قدرة وأمضى إرادة على تحقيق رسالتها التي هي النهوض بالبشرية إلى مستويات أعلى في العطاء الفكري المثمر، ومستويات أعلى في التجسيد الحي للعدالة الإنسانية في واقع هذا العالم المضطرب الذي يعاني غير قليل من عدم وضوح المستقبل وما سيصير إليه هذا الإنسان بسبب تفاعله مع ما يفرزه هذا الصراع الحضاري الراهن، فأقول :

إن لكلمة (حضارة) في لغتنا العربية المعاصرة معنيين، أحدهما قديم، يمتدّ في بدايات استعمالها فيه ـ كما يبدو من التعريف المعجمي له ـ إلى بدايات استعمال اللغة العربية الجاهلية، وثانيهما حديث معاصر، انتقل إليها بتأثير التفاعل الاجتماعي والتقارض اللغوي بين مجتمعنا العربي والمجتمعات الغربية، وبين لغتنا العربية واللغات الأوربية، وبخاصة الإنجليزية والفرنسية، وعن طريق الترجمة العلمية لمصطلحات ومفاهيم العلوم الإنسانية والاجتماعية .

وفي ضوء هذا لنا أن نسمي المعنى القديم بالمعنى اللغوي، والمعنى الحديث بالمعنى العلمي .

وفي تعريف المعنى اللغوي لا يختلف معجم عربي عن معجم عربي آخر في أن مفهوم الحضارة يقابل مفهوم البداوة، وأن كلمة حضارة تضاد كلمة بداوة، وكذلك مشتقاتهما، فكلمة (حاضرة) تضاد كلمة (بادية)، ومفهوم (حضر) يقابل مفهوم (بدو)، لأن أجدادنا العرب كانوا يقولون في قديم استخداماتهم اللغوية الاجتماعية، وكذلك في جديدها المعاصر لمن لا يزال يعيش في امتداد ذلك الواقع القديم: (فلان من أهل الحاضرة) و (فلان من أهل البادية) و (فلان حضري) و (فلان بدوي) .

ومنه أفاد المعجم العربي حيث يقول في تعريفاته لمشتقات هذا الجذر اللغوي: (الحضر خلاف البدو) و (الحاضر خلاف البادي) و (الحضارة خلاف البداوة) و (الحاضرة خلاف البادية)..

وهذه المقابلة والمضادة تعني أن تعريف أحد المتقابلين والمتضادين يلزمه تعريف الآخر بسلب معناه عنه، فَلْنَرَ ـ في ضوء هذا ـ ماذا تعني البداوة لنعرف من خلال سلب معناها معنى الحضارة .

يقول المعجم: البداوة: هي الإقامة في البادية .

وعلى أساس منه، وفي ضوء ما ذكرنا، عرّف المعجم الحضارة بالإقامة في الحاضرة أو الحضر .

ويعرّف المعجم العربي الحضر بأنه: المدن والقرى والأرياف .

وتعلل تسمية الإقامة في المدن والقرى والأرياف بالحضارة ـ كما يستنتج من التعريفات المعجمية ـ لأن أهلها حضروا الأمصار وسكنوا الديار التي يكون لهم بها قرار .

وبالمقابلة فالبداوة تعني التنقّل والترحّل في البادية .

وعليه : فإننا إذا حاولنا أن نستخدم لغة الجغرافيا الحديثة، نقول: الحضارة تعني الاستقرار الاستيطاني، وبخلافها البداوة فإنها تعني عدم الاستقرار الاستيطاني .

وفي التعبير المعجمي المتقدّم (لهم بها قرار) ملمح إلى هذا المعنى .

ومن المعلوم ـ تاريخيًا ـ أن من أهم معطيات الاستقرار الاستيطاني، أو بالأحرى: أن من أهم مستلزماته، هو التمدّن .

فهذا الملمح الذي أشرتُ إليه يشير إلى المعنى الحديث للحضارة الذي هو التمدّن .

وقد يكون لطريقة الاختصار التي التزمها المعجميون العرب القدامى في تعريفاتهم لمعاني الألفاظ تأثير على ذلك .

والحضارة بهذا المعنى تعطي أنها مرحلة متقدّمة من مراحل التطوّر الإنساني، وصل إليها الإنسان بعد أن قطع أكثر من مرحلة في طور البدائية والبدوية .

 

ومن أبرز من أشار إلى مراحل تطوّر الجنس البشري هو العالم الأنثروبولوجي لويس موركن في كتابه عن (المجتمع القديم) الذي نشره في عام 1877 م، والذي عنونه بـ (بحوث في التقدّم البشري منذ عهد التوحّش وخلال فترة البربرية إلى فترة المدنية)، فقد قسّم المراحل إلى ثلاث، هي :

1ـ مرحلة التوحّش، وهي مرحلة الجمع والصيد .

2ـ المرحلة البربرية، وهي مرحلة الزراعة المستقرّة .

3ـ مرحلة المدنية، وهي المرحلة التي اخترع فيها الإنسان حروف الكتابة، وعرف الكتابة فانتقل بها من المرحلة البربرية الأمّية إلى بداية التمدّن .

ومن أهم عناصر ومقوّمات التمدّن :

1ـ العقلانية في التفكير .

2ـ الخلقية الفاضلة في السلوك .

3ـ العمران الفنّي في التصميم والإنشاء .

4ـ استثمار موارد الطبيعة زراعيًا وصناعيًا .

5ـ إنشاء المؤسسات الثقافية .

 

ومن هنا أضافت المعاجم اللغوية العربية الحديثة هذا العنوان لدلالة الحضارة .

ففي (الهادي): «الحضارة: خلاف البداوة، ويقال: فلان من أهل الحضارة، أي من سكان المدن والقرى .

والحضارة في معناها الحديث هي التمدّن».

وفي (الصحاح: معجم اللغة والعلوم): «الحضارة: Civilization  ضد البداوة، وتقابل الهمجية والوحشية، وهي مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني .

(و) جملة مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي التي تنتقل من جيل إلى جيل في مجتمع أو مجتمعات متشابهة ».

ويقول البروفسور دينكن ميتشيل Pr . Duncan Mitchell في (معجم علم الاجتماع ـ ترجمة د . الحسن) ـ ص 67 ط2 ـ: «إن جميع التعاريف الأنثروبولوجية لاصطلاح الحضارة تأثرت بطريقة أو أخرى بتعريف البروفسور إدوارد تايلر Edward Tylor للحضارة»، الذي عرف بأنه «اهتمّ بدراسة الحضارة البشرية أكثر من اهتمامه بأي موضوع آخر».

عرّف تايلر الحضارة: «بأنها ذلك الكل المعقّد الذي يتكوّن من مجموعة المعتقدات والأفكار والآراء والقيم والمقاييس والمعارف والفنون والفلسفة والأديان والقوانين والأخلاق وجميع القابليات والمهارات التي اكتسبها الإنسان من مجتمعه».

ويمكننا أن نعرف الحضارة بتعريف آخر يجمع التعريفين القديم والحديث وباختصار، وذلك بأن نقول: الحضارة: هي التوطّن .

فهو يقابل البداوة لأنها لا توطّن فيها، ذلك أن البدوي في البادية في تنقّل دائم لالتماس مواضع النجع حيث مساقط الغيث ومنابت الكلأ، ولأن التوطّن تستتبعه اللوازم التي ذكرتها في أعلاه كعناصر للتمدّن .

وهنا لابدّ من الإشارة ـ تمهيدًا للموضوع أيضًا ـ إلى أن علماء الاجتماع وكذلك علماء الأنثروبولوجي ينقسمون إلى فريقين في المقارنة بين مفهوم الحضارة ومفهوم المدنيّة، وبالتالي بين مفهومي التحضّر والتمدّن، فريق يرادف بينهما، فالحضارة ـ في رأيه ـ هي المدنيّة، والمدنيّة تعني الحضارة، وفريق يفارق بينهما، ومنه ما ذهب إليه بعضهم حيث عرّف الحضارة بذلك «الكل المعقّد الذي يشمل المعرفة، المعتقدات، الفنون، الأخلاق، والقوانين والعادات التي اكتسبها الإنسان من مجتمعه .

أما المدنيّة فهي جميع المنجزات أو مجموعة الإنجازات التي تميّز طابع الحياة في المدينة المنظّمة أو الدولة المنظّمة» .

كما حاول الدكتور ألفريد فيبر Alfred Weber التمييز بين الحضارة والمدنيّة، فقال: «من الضروري التمييز بين ثلاث عمليات، وهي: عملية المجتمع، عملية المدنية، وعملية الحضارة .

فالعملية الاجتماعية لها نتائج تنعكس في إنتاج أنواع مختلفة من البنيات الاجتماعية التي لها أصل واحد وطريقة واحدة في التغير من شكل لآخر.. فالعائلة ـ مثلاً ـ تتحوّل في جميع المجتمعات الإنسانية من عائلة ممتدة إلى عائلة نووية .

بعملية المدنية يعني الدكتور فيبر نمو فروع المعرفة، وتقدّم سبل السيطرة الفنية على القوى الطبيعية، ذلك التقدّم المتماسك الذي له نظام منتظم ينتقل من شعب لآخر .

أما عملية الحضارة فإنها لا تسير في خط واضح المعالم، كما تسير عملية المجتمع وعملية المدنية .

فالحضارة لا يمكن أن تفهم إلاّ إذا درست دراسة تاريخية تقتفي تطوّر أجزاء الحضارة وعلاقتها الواحدة بالأخرى» .

وقد نستطيع أن نقول ـ بعد أن عرفنا أنّ كلاًّ من الحضارة والمدنيّة مرحلة متقدّمة في تطوّر المجتمع البشري ـ إن التقدّم الإنساني يقوم على دعامتين، هما :

1ـ التقدّم في الجانب الثقافي: الفلسفة والأدب والفن .

2ـ التقدّم في الجانب التقني: الآلة والعمران واستثمار الطبيعة .

ولنا أن نسمي الأول الجانب الحضاري، ونسمي الثاني الجانب المدني، فنعرّف ونميّز بين الحضارة والمدنيّة .

وإذا أردنا الاختصار بالعبارة نقول :

ـ الحضارة هي الجانب المعنوي للحياة .

ـ والمدنيّة هي الجانب المادي للحياة .

في ضوء هذه التّفرقة نستطيع أن نتعرّف الفرق بين واقع حضارتنا الإسلامية المعاصرة، وواقع الحضارة الغربية المعاصرة، وبيسر ووضوح .

وسيأتي هذا فيما بعد، على أن أسمح لنفسي بأن أستعمل كلمة (الحضارة) قبل الوصول إلى مفترق الطريقين بين الحضارتين بمعناها العام، والشامل لمعناها الخاص ومعنى المدنيّة الخاص .

 

كما ينبغي أن نضع في عرفاننا وحسباننا أن الحضارات تتفاوت فيما بينها، فلكل حضارة :

ـ نطاقها Aired

ـ وطبقاتها Couches

ـ ولغاتها Languages

وفي هدي هذا التفاوت نستطيع أن نتميّز الحضارة الإسلامية من سواها .

ومن المعلوم أن الحضارة الإسلامية نشأت في بداياتها الأولى في المدينة المنورة، وتمثّلت في التالي :

1ـ العقيدة الإسلامية، التي هي ـ في واقعها ـ نظرة عقلانية عن الكون والحياة والإنسان .

2ـ التشريع الإسلامي، الذي هو نظام حياة الإنسان المسلم فردًا ومجتمعًا ودولةً .

3ـ النظام الأخلاقي الإسلامي، الذي يرتفع بسلوك الإنسان المسلم إلى مستوى الفضيلة، وربطه بمبدأ الخير الأسمى، وهو رضا الله تعالى .

4ـ الدولة الإسلامية ، التي هي تطبيق لما تقدّم في واقع حياة المسلمين .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة