لـمَّا وقف عددٌ من نقاد الحداثة في الغرب أمام ظاهرة الكسل الفكري نبّهوا إلى التعامل مع التنظير كواجب فلسفيّ وأخلاقي في الآن عينه. كان هوسرل يقول في هذا الصدد: إنَّ من واجب أي شخص لو أراد أن يصير فيلسوفاً أو مفكراً أن ينعطف ولو مرة واحدة في حياته على ذاته. وفي داخل ذاته عليه أن يحاول قلب كل المعارف المقبولة، ويسعى إلى معاودة بنائها، بحث تغدو الفلسفة – عنده – مسألة شخصيَّة تسير به نحو ما هو كوني.
وحده من أخذته الغفلة يرفض الإنصات لمساءلة نفسه، ويُعرض عن الإصغاء لكلام الغير. فالمساءلة إجراء إبداعي، وهي أيضاً وأساساً مكوِّن جوهري لبنيَّة الفكر. ما يعني أن مهمة المنظِّر لا تنجز شروطها من دون الاستقواء على ما صنعته يداه ولو كان عملاً جليلاً. أما حين تتوقف مهمة التفكير عند حدود المعاينة والتحرِّي والوصف بذريعة ترفّع المفكر عن التحيُّز مخافة التورط في “الأدلجة”، فمن المحتمل ينزاح الفكر عن صراطه، وينأى المفكر عن البلاغ المبين. فلا يعود للتنظير حالئذٍ من قيمته الأصليَّة إلا الغلاف الخارجي لمبادرته ومسعاه.
فإذا كان التفكّر مخاطرة لا تتوقّف عن الخوض في لجة “الخلق المتجدد” للأفكار، فإن مهمّة المنظِّر وسط الفراغ الحاصل تلزمه مشقّة البذل لكي يصل إلى النقطة التي ينتزع فيها الفهم من مختبر التجربة التي هو فيها. ذلك بأن التنظير لا يرقى إلى الفعليَّة ما لم يتحيَّز المنظِّر في مكان ما من الاحتدام، حيث تولد الفكرة كحاصل طبيعي للمساجلة والاختبار. فالتفكر لا ينمو إلا بضدّه، لتكون الحصيلة تزويد صاحبه بمعرفة لا قبل له بها، وبما لا علم له به من قبل.
لا مناص لمجتمع التفكير في بلادنا العربيَّة والإسلاميَّة إلا أن يتحرَّر من غواية مفاهيم استورثها في غفلة من زمن، ثم استيقنها ليبتني نظامه المعرفي. كانت ثنائيات كمثل العقل والوحي، والإيمان والإلحاد، والغيب والواقع، والدين الدنيا، والحادث والفكرة أشبه بحُجُب شيَّأت العقل وأوْهَنَت الفكر، ثم حالت بين المثقف واستقلاله الفكري حتى أسكنته كهف الغربة.
احتلَّت أفهام الحداثة المساحة العظمى من تمرينات التنظير في مجتمعاتنا سحابة الاحتدام غير المتكافئ مع الخطبة الفلسفيَّة الغربيَّة. لقد تحولت تلك الخطبة مع الوقت إلى مركز جاذبيَّة ثم إلى مرجعيَّة تثير الأرض ولا تسقى الحرث لتظهر بعدئذٍ على هيئة نظام معرفي يلقي بظلِّه الثقيل على جغرافيات الشرق منذ حملة بونابرت وإلى يومنا هذا. غفل التنظير العربي والإسلامي عن حقيقة أن للمفاهيم ترابًا خاصًّا تولد منه وتضمحل فيه. شأنها في هذا شأن الموجودات كلها. والمفاهيم ليست إلا حاصل تنظيري لحدثٍ ما. هي وليدة الحدث ومؤسِّسة لولاداته المتجددة في آن. وعليه فالحادث التاريخي أمر متغيّر وعارض ومتهافت مهما ترسخت جذوره في الواقع. فالمفاهيم والتعريفات، لا تتخذ مسارها – كما يُظن- على خط مستقيم، وإنما تشكل دائرة رؤية وعبرة. فليس المهم مجرد نحت المفاهيم وإنشاء الأفكار، وإنما في الكيفيَّة التي توصلنا تلك المفاهيم والأفكار، إلى الغاية الأساس. أي إلى النقطة التي نستطيع أن نغادر فيها كهف الفكرة الصمَّاء.
البيِّنُ في الصورة الراهنة أن التفكير العربي – الإسلامي لم يفارق الانفتاح على التفكُّر الخلاَّق، بل هو في كثير من أحواله أشد تكيفاً مع إيقاعاتها، ولو نحن قرأناه من ثلاثة أوجه:
ـ الأول: يتماهى مع الحداثة ومنجزاتها تماهياً ختاميًاً لا محل فيه لمساءلة أو رجعة.
ـ والثاني: يتبدَّى على صورة إعراضات غالباً ما تعود إلى دواع افترضتها الامتداد الاستعماري بأحقابه المختلفة. وبحكم كون هذه الإعراضات ذات منشأ انفعالي فإنها لم تكد تؤتي أُكْلَها حتى تروح تذوي إلى محابسها الإيديولوجيَّة.
ـ الثالث: هو ما يجيئنا على هيئة محاولات ووعود، ثم لا يلبث بعد هنيهة حتى يظهر لنا فقْرَه وقصورَه عن مجاوزة مشكلات الانسداد الحضاري.
في زحمة الحداثة الفائضة التي تستغرق عالمنا اليوم يجد التنظير حجته في أربع ضرورات:
الأولى: تاريخيَّة، أوجبتها التحولات الختاميَّة للقرن الماضي، مثلما توجبها اليوم وقائع العقد الأول من القرن الجاري.
الثانية: توحيديَّة، ويفترضها التشظِّي الذي يعصف بالبلاد العربيَّة والإسلاميَّة. وَتَبَعاً لهذا التشظّي وكحاصل له، ينحدر كل ما هو سامٍ ومتعالٍ إلى ما هو أدنى.
الثالثة: معرفيَّة، وتتأتى من الحاجة إلى استيلاد معارف مستحدثة من شأنها تحفيز الحفر الإبداعي في عالم الأفكار، والعمل على إنشاء المفاهيم انطلاقاً من فلسفة عمليَّة ترى أن كل مسألة لا يُبنى عليها عمل فالخوض فيها غير مستحسن ولا يعوَّل عليه. ذلك بأن العلم المعتبر – كما في المأثور – هو العلم الباعث على العمل.
الرابعة: عملانيَّة، وتقوم على تخصيب بيئات التفكير في المنتديات الفكريَّة والجامعات والمعاهد ومؤسّسات البحث العلمي. وهو ما يمكن أن يترجم عبر تنظيم حلقات تفكير تستحث على تنشيط الجهود التنظيريَّة، وغايتها تفكيك اللَّبس المتراكم في الوعي العربي الإسلامي خلال أزمنة الاحتدام مع مركزيَّة الغرب بصيغتها الكولونياليَّة والاستشراقيَّة. مثلما يفتح باب الإجابة على تساؤل مؤسِّس عما لو تيسَّر لنا تكوين فهم صائب عن غربٍ أنتج من العلوم والمعارف ما يثير الاندهاش من الفنون والقيم وتقنيات العيش، وجاءنا في الوقت عينه بما لا حصر له من صنوف الهيمنة الاستعماريَّة العنف والغزو والحروب المستدامة.
من أخص العناصر الدافعة إلى العمل التنظيري جلاء حقيقة أنّ لمعارف الغرب حواضن في المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة تتلقى تلك المعارف وترعاها، ثم لتعيد إنتاجها على النحو الذي تريده لها مرجعيَّة التفكير الغربي نفسه. بيان ذلك، أن عقل الغرب المكتفي بذاته يجد لدى نخب تاريخيَّة واسعة في مجتمعاتنا من يتماهى معه في خطبته ومنطقه، من يمتثل إلى معارفه المستحدثة.
هذا حال من جاز أن يُنظر إليهم وهم على نصاب «الاستغراب السلبي». وتلك ظاهرة عميقة في تاريخنا الحديث نجمت من تفاعل مركّب بين دهشة العربي بحداثة الغرب، وطريقة تعامله معها. فبنتيجة هذا التركيب على الإجمال، بدا المستغرِب والمسلم كما لو كان مستدرجاً للقبول بمنظومة الغرب وخصوصياتها، وتالياً كامتداد محلي لها. أما حاصل الأمر، فكان أدنى إلى استيطان معرفي لا يفتأ أن يستعيد أسئلة الغرب وأجوبته على نحو التسليم المسبق بصوابيتها. ولسنا نغالي لو قلنا إن “الاستغراب السلبي” الذي نقصده لوصف أحوال شطر وازن من مثقفي العالم الإسلامي، هو فكر أنتجته الدهشة، ووسَّعته الترجمة، ورسَّخته الهيمنة، ثم لترتضيه نخب وازنة من مجتمعاتنا فتتخذه سبيلاً لفهم ذاتها وفهم غيرها، فضلاً عن فهم العالم من حولها في الآن عينه.
مقتضى التعامل مع مثل هذا السياق كتحدٍ معرفي، إجراء تحويل جوهري في بنية التفكير. أما مصداق هذا التحويل فمن خلال تسييل المبادرة التنظيريَّة عبر استقراء متبصِّر لأحوال الغرب مقروناً بإرادة نقديَّة تتغيّأ تبديد القناعات التي تزامنت مع تدفقات الحداثة؛ خصوصاً لـمَّا أنشأت هذه الأخيرة القابل العربي الإسلامي على هَدْي كلماتها ورؤاها من دون أن تُحِلَّ فيه ما هو بنَّاء من أنوارها الأولى.
يفضي الكلام على واجبيَّة التنظير، لدى تناهيه إلى الأسماع اليوم، إلى الاستغراب من غير وجه:
أولاً: لأنه ينطوي على استدارج إلى مطرحٍ معرفي لا يُفهم منه للوهلة الأولى، إلا أنه دعوة إلى إنشاءات لا تتجاوز ما دأب أهل التقليد لأطوار متعاقبة. وعليه قد لا يتوفر لهذه الإنشاءات حظ إحداث انعطاف جوهري في سكونيَّة الفكر. الباعث على مثل هذا الفهم السلبي للتنظير يرجع – على غالب الظن- إلى واحدة من أشقّ الابتلاءات التي سكنت تفكير النخب في مجتمعاتنا وتجذَّرت فيه. عنينا بها القطيعة بين الفكر والحدث سحابة تاريخ كامل. حتى بدا كما لو أن الحدث يسير من تلقائه على غير اهتداء، وأن الفكر ليس إلا سلوى لفظيَّة لا يعوَّل عليها. لكأن شيطان الوهم استحكم بالمستغرِب فدعاه إلى الاشتغال عن ظهر قلب بالمنقول من وافد المفاهيم، والإعراض عن معاينة ذاته والمخصوص من أحواله.
ثانياً: لأن سؤال التنظير، وإن كان يحظى بحقَّانيَّة الاعتناء يعنيهم أمره وشأنه فقد بدا وكأنه خارج السياق. ربما التَبَسَ الأمر على البعض فأرجأ ما كان ينبغي أن يدلي به إلى وقت لاحق.. فيما شريحة واسعة من هؤلاء أخذتهم الحوادث اليوميَّة بغتة فاستغرقوا بدنياها وغفلوا عن أسئلة المابعد.
ثالثاً: لأن التنظير ينتمي إلى مقام خاص له من مراتب المسؤوليَّة ما لا ينالُها الجميع. أولئك الذين ألزموا أنفسهم متاخمة الحدث ومعاينته وتأويله ليتبيَّنوا ضميره المستتر، ثم ليدركوا منتهاه، فيبنون على ذلك المنتهى مقتضاه.
رابعاً: من المفارقات الغريبة أن يُطرح سؤال التنظير وسط وهنٍ فكري يلقي بأظلّته على أوسع البيئات المشتغلة بعالم الأفكار. ولو دلَّ هذا على شيء، فعلى حالين:
أ- انخفاض سحر الحكاية الأيديولوجيَّة بمدارسها وتياراتها الكلاسيكيَّة (القوميَّة والليبراليَّة والماركسيَّة). حتى إذا استحلت النيوليبراليَّة عرش العالم هبط التنظير لقول جديد إلى القاع ولم يعد لسؤاله أمام سطوتها من إعراب.
ب- الإسلام السياسي الذي قدّم نفسه كحامل مفترض لمهمة النهوض لم ينجُ من التموضع في القلاع الأيديولوجيَّة الصماء. ففي الخطبة الايديولوجيَّة للإسلام السياسي المستحدث لم يرقَ همّ الإحياء الحضاري إلى المقام الذي يصبح فيه همّاً تنظيرياً في إطار التجديد المفترض للعقل الديني.
خامساً: حداثة الغرب في العقل النخبوي العربي، لا تزال تستعاد على النشأة التي قرأها أصحابها الأصليون قبل أكثر من أربعة قرون. العقل المشار إليه، وعلى الرغم من الميراث النقدي الهائل الذي زخر به تاريخ الحداثة، بقي حريصاً على متاخمة سيرة الحداثة الأولى ومقالتها البكر بوصفها أطروحة لمدينة فاضلة تستنقذ العالم من فوضاه وجاهليته. ما يعني أن عقلاً كهذا لا يملك أن يرى إلى حداثات الغرب المتعاقبة إلا بوصفها عالماً متخيلاً لا حظَّ له من الحقيقة الواقعيَّة في شيء.
أكثر هؤلاء حملوا سؤال التقدم التاريخي على حسن الظن وسلامة النيَّة. إلا أنهم لم يفارقوا دهشة الحداثة وفتنتها. جلُّهم لم يدرك أن أنوار الغرب مكثت في الغرب، ولم يأتِنا من حصادها سوى شراهة السيطرة والانهمام بالجاهليات المستحدثة. المشهد الراهن لا ينفك يظهر على النشأة نفسها، ولكن مع فارق جوهري، هو أن السواد الأعظم من النخب يغيِّبون سؤال التنظير، بل ويستغربونه كما لو كان سؤال فائضاً عن الحاجة.
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عادل العلوي
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ جعفر السبحاني
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ حسين الخشن
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
التعددية الدينية
زيادة الذاكرة
الضمائر في سورة الشمس
متى وكيف تستخدم الميلاتونين المنوم ليساعدك على النوم؟
تراتيل الفجر، تزفّ حافظَينِ للقرآن الكريم
في رحاب العيد
لنبدأ انطلاقة جديدة مع الله
المنطقة تحتفل بعيد الفطر، صلاة ودعاء وأضواء وتواصل
من أعمال وداع شهر رمضان المبارك
العيد الامتحان الصعب للحمية