قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

أصل وحدة الأمّة في القرآن

في الوقت الذي يقرر القرآن الكريم قدرة الإنسان على الاختيار والإرادة وتقرير المصير بشكل تام يقرر القرآن الكريم أصلاً هاماً في حياة الأمم في التاريخ وهو (وحدة شخصية الأمة) وهذه الوحدة في نسيج الأمة والمجتمع تأتي على بعدين:

 

1ـ البعد الأفقي.

 

2 ـ والبعد العمودي.

 

1ـ البعد الأفقي:

 

ففي البعد الأفقي لا يمكن أن يعزل الفرد الذي يعيش في مجتمع ما نفسه عن عواقب وتبعات سيئات قومه مهما صلح أمره. يقول تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة) الأنفال/25.

 

وقد ينسب القرآن الكريم عمل فرد واحد من الناس إلى الأمة جميعاً إذا كانت الأمة راضية بذلك العمل. يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: (أيها الناس إنما يجمع الناس الرضى والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب كما عموه بالرضى فقال سبحانه (فعقروها فأصبحوا نادمين) فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة) (1).

 

وكلام الإمام عليه السلام كلام دقيق فإن الرضى بالجريمة في الوسط الاجتماعي نحو من المشاركة في ذلك العمل، وإن كانت ممارسة الجريمة من طائفة من المجتمع ولكن الآخرين لما أعلنوا رضاهم منها بالسكوت عنها كان سكوتهم عنها بحكم الإقرار لها والمشاركة فيها، وذلك أن الجرائم الكبيرة المعلنة تختلف عن الجرائم الفردية التي يرتكبها الناس في الخفاء، فإن المجرم لا يتمكن من ممارسة الجرائم الكبيرة أمام الملأ ويتحدى بها مشاعر الأمة، لولا أن يدعمه الآخرون بالتأييد والرضا والتشجيع.

 

وعند ذلك فلا يكون المجرم وحده فإنما يمثل تلك الجريمة، وإنما يشاركه فيها الراضون الذين دعموه وأعانوه بالرضا والتأييد والسكوت.

 

2 ـ البعد العمودي:

 

ويعتبر القرآن الكريم الأمة في عمرها الزمني وامتدادها التاريخي قطعة واحدة متصلة ومترابطة، يعتبر الجيل السابق مادة وأساساً لبناء الجيل الحاضر ويكون الجيل الحاضر حصيلة لعمل الجيل السابق، وينسب القرآن الكريم عمل الجيل السابق عندما يحظى برضى الجيل الحاضر إلى الجيل الحاضر. يقول تعالى (لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ... ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ، الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) آل عمرن/181 –183.

 

وهؤلاء الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء هم من اليهود الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وآله، والله تعالى ينسب إليهم جرائم آبائهم في قتل الأنبياء (وقتلهم الأنبياء).

 

وعندما طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يأتيهم بقربان تأكله النار أمر الله تعالى نبيه (ص) أن يحاججهم ويقول لهم (قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) علماً بأن القوم الذين طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يأتيهم بقربان تأكله النار لم يقتلوا نبياً.

 

ومؤاخذة الحاضرين وعتابهم بأعمال أسلافهم مذكورة في القرآن الكريم في أكثر من موضع، ولهذه المؤاخذة والعتاب رغم أنهم لم يرتكبوا شيئاً ذا مغزى اجتماعي نعرفه جيداً، إذا عرفنا أبعاد التصور الإسلامي للتاريخ والحضارة.. فإن هذه المؤاخذة لا تتم إلا عندما يرضى الخلف بفعل السلف ولا يتبرأ منه ويدافع عنه وهذه هي الوشيجة والصلة القائمة بين الأجيال من أمة واحدة والتي تربط الأجيال من أمة واحدة وحضارة واحدة بعضها ببعض.

 

فإذا انقطعت هذه الصلة بين الأجيال من أمة واحدة فإنها ستتحول من أمة إلى أمة أخرى وتنقلب من حضارة إلى أخرى فلا تكون بين جيل وآخر صلة أو علاقة ولا مسؤولية ولا مؤاخذة ولا عناء. وما دامت الأمة والحضارة قائمة فإن الحب والبغض والولاء والبراء واحد لا يتغير.. وولاء الآباء ينتقل إلى الأبناء وبراءة الآباء تنتقل إلى الأبناء ومحاسبة الأبناء ومؤاخذتهم على جرائم آبائهم تتم على هذا الأساس، ثم نلقي نظرة ثانية على حالة وحدة الولاء والبراءة هذه بين الأجيال فترى أن السلف هو المسؤول عن ولاء وبراءة أبنائهم وانحرافهم وزيفهم وانتمائهم إلى محور الباطل والطاغوت أو في أن يرفع ذلك مسؤولية الأبناء عن انتمائهم إلى محور الشرك والطاغوت ودون أن يسلب ذلك حرية إرادة الأبناء على تقرير مصيرهم بشكل مستقل عن الآباء... فإن الآباء لا شك يمهدون أرضية خصبة للانحراف والشرك والفساد للجيل اللاّحق ويغذون الجيل الذي يأتي من بعدهم بشكل غير مرئي بالفكر والحضارة الجاهلية وينقلون فكرهم وأخلاقهم وأعرافهم وتصوراتهم إلى الجيل الذي يأتي من بعدهم وهذا هو البعد غير المرئي للحضارة.

 

ونلاحظ بشكل أكثر وضوحاً هذا التصور القرآني للتاريخ والصلة الوثيقة القائمة بين الأجيال من أمة واحدة وحضارة واحدة في دعاء نوح عليه السلام بهلاك قومه (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) نوح/26 –27.

 

فالجيل الذي تمرد على الله تعالى ورسوله من قوم نوح لا يلدون إلا فاجراً وكفاراً، وهذه الحضارة والأمة الجاهلية لا تغذي من بعدها من الأجيال إلا الشر والفساد والفجور والكفر.

 

ولعل الآية الكريمة تلقي ضوءً على هذه الحقيقة (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) الأعراف /58.

 

وبهذه الصورة نرى أن القرآن الكريم يربط الحاضر بالماضي والماضي بالحاضر من أمة واحدة في المسؤولية والمحاسبة والمؤاخذة، فالجيل الحاضر مسؤول عن سلفه والسلف مسؤول عن الخلف، وهذه الآيات المباركات تكشف إلى حد بعيد أبعاد التصور الإسلامي في النسيج الاجتماعي والتاريخي المترابط للأمة الواحدة، وحكومة قانون العليّة في التاريخ والمجتمع وتأثير كل جيل في الأجيال التي تليه في الخير والشر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة د.صبحي صالح, خطبة 201 ص 319.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد