قال الأستاذ العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف في تفسير هذه الآية المباركة القرآنيّة. (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) «1» إشارة إلى حكمة التشريع، ودفع ما ربّما يتوهّم من تشريع العفو والدية، وبيان المزيّة والمصلحة التي في العفو، وهو نشر الرحمة وإيثار الرأفة، أنّ العفو أقرب إلى مصلحة الناس، وحاصله أنّ العفو ولو كان فيه ما فيه من التخفيف والرحمة، لكنّ المصلحة العامّة قائمة بالقصاص، فإنّ الحياة لا يضمنها إلّا القصاص دون العفو والدية ولا أي شيءٍ ممّا عداهما، وكلّ من كان ذا لبّ لا يحكم إلّا بذلك، وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). أي القتل، وهو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص.
وقال أيضاً. وقد ذكروا أنّ الجملة، أعني قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) - الآية، على اختصارها وإيجازها وقلّة حروفها وسلاسة لفظها وصفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها وأسماها في بلاغتها، فهي جامعة بين قوّة الاستدلال وجمال المعنى ولطفه ورقّة الدلالة وظهور المدلول. وقد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل والقصاص يعجبون ببلاغتها وجزالة أسلوبها ونظمها، كقولهم. قَتْلُ البَعْضِ إحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ. وقولهم. أكْثِرُوا القَتْلَ لِيَقِلَّ القَتْلُ. وأعجب من الجميع عندهم قولهم. القَتْلُ أنْفَى لِلقَتْلِ، غير أنّ الآية فاقت الجميع ونفت الكلّ.
(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)، فالآية أقلُّ حروفاً وأسهل في التلفّظ وفيها تعريف الْقِصاصُ وتنكير الحياة ليدلّ على أنّ النتيجة أوسع من القصاص وأعظم، وهي مشتملة على بيان النتيجة وعلى بيان حقيقة المصلحة وهي الحياة، وتتضمّن إيصال معنى حقيقة غاية وفائدة القصاص، فالقصاص هو المؤدّي إلي الحياة دون القتل، فإنّ من القتل ما يقع عدواناً ليس يؤدّي إلي الحياة، وهي مشتملة على أشياء أخر غير القتل تؤدّي إلى الحياة، وهي القصاص في غير القتل، وهي مشتملة على معنى زائد آخر، وهو معنى المتابعة التي تدلّ عليه كلمة القصاص بخلاف قولهم القتلُ أنفى للقتل، وهي مع ذلك متضمّنة للحثّ والترغيب، فإنّها تدلّ على حياة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها، نظير ما تقول. لك في مكان كذا، أو عند فلان مال وثروة، وهي مع ذلك تشير إلي أنّ القائل لا يريد بقوله هذا إلّا حفظ منافعهم ورعاية مصلحتهم من غير عائدٍ يعود إليه حيث قال. وَلَكُمْ، فهذه وجوه من لطائف ما تشتمل عليه هذه الآية، وربّما ذكر بعضهم وجوهاً أخرى يعثر عليها المراجع، غير أنّ الآية كلّما زِدتَ فيها تدبّراً زادتك في تجليّاتها وجمالها وغلبتك بحُورُ أنوارها. (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا). «2»
أجل، فقد كان الكلام بشأن القصاص وانتصاف الحقّ، حيث اعتبر القرآن الكريم العفوَ والسماح أسلوباً مرضيّاً وشيمةً حسنة حمدها وحثّ عليها، واعتبر - في الوقت نفسه - حقّ الانتقام مقابل المعتدي على حياة الإنسان أو ماله أو شرفه وكرامته وعرضه حقّاً طبيعيّاً مسلّماً، وقد عبّر بلفظ الشهيد عمّن يُقتل في طريق الدفاع عن حقوقه وإحقاقها واستعادتها.
روى السيوطيّ في «الجامع الصغير» بسندٍ حسن، عن سعيد بن زيد، عن كتاب «مسند أحمد بن حنبل»، و «صحيح البخاريّ» و «صحيح مسلم»، و «صحيح الترمذيّ»، و «صحيح ابن حَبَان»، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال. مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، «3» وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. «4»
مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِيدِ
روى الكلينيّ في «الكافي» في باب قتل اللصّ بسنده عن أبي بصير قال. سألتُ أبا جعفر الباقر عليه السلام عن الرجل يُقاتِل عن ماله فقال. إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال. مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهِيدٍ - الحديث. «5» وروى الكلينيّ أيضاً في باب: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ، بسنده المتّصل، عن عبد الله بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ «6».
وروى بهذا الإسناد، عن أبي مريم، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله. مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ شَهِيدٌ. ثمّ قال. يا أبا مريم! هل تدري ما دون مظلمته؟ قلتُ. جُعلت فداك. الرجلُ يُقتل دون أهله ودون ماله وأشباه ذلك. فقال. يَا أبَا مَرْيَمَ! إنَّ مِنَ الفِقْهِ عِرْفَانُ الحَقِّ. «7»
وروى السيوطيّ أيضاً في «الجامع الصغير» عن سنن النسائيّ؛ وعن ضياء، عن سويد بن مقرن بسند صحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال. مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. «8» (يا أبا مريم! الفقيه مَن عرف مواضع القتال - في أمثال هذه الموارد - ثمّ يتعرّض لها. لذا، ينبغي ترك التعرّض في بعض الموارد).
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فقد أهدر الإسلام دمَ من كان بصدد الاعتداء على أموال الناس، أو بصدد الفجور بأعراضهم، وقد أعفي في حكمه صاحب البيت الذي يتصدّى للسارق دفاعاً عن ماله أو عرضه فيقتله في صراعهما، إذ إنّ دم هذا المعتدي مهدور لا قيمة له.
وقد روى الكلينيّ بسنده المتّصل، عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام في رجلٍ دخل على دار آخر للتلصّص أو الفجور فقتله صاحب الدار أيُقتل به أم لا؟ فقال. اعْلَمْ أنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ غَيْرِهِ فَقَدْ أهْدَرَ دَمَهُ؛ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. «9»
(اعلم. أنّ من دخل بيوت الآخرين للسرقة أو الفجور، فقد أهدر دمه. وفي هذه الصورة فليس على صاحب البيت من شيء في قتله لذلك الرجل، ولا تشغل ذمّته في قصاص أو دية أو ما شابه ذلك).
ومن هذا الطريق فقد أجاز القرآن الكريم للمظلوم قول السوء وبيان عيوب وسيّئات الظالم، ورخّص له أن يصرخ جاهراً بسيّئات الظالم في ظلمه الذي ألحقه به، وأن يحطّ من شأنه وكرامته أمام المجتمع، وهذا في الواقع المقام الأكبر الذي أقرّه القرآن الكريم للمظلوم لدفع ظلم الظالم، حيث أقرّ القرآن الكريم أن. (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً، إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً). «10»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - الآية 179، من السورة 2. البقرة.
(2) - «الميزان في تفسير القرآن» ج 1، ص 433 و 434، وهذه الآية هي الآية 40، من السورة 9. التوبة.
(3) - ونقل هذه الفقرة في «سفينة البحار» مادّة شهد، ج 1، ص 720، عن الإمام الصادق عليه السلام، نقلًا عن «بحار الأنوار» للمجلسيّ ج 4، ص 143، طبعة الكمبانيّ القديمة.
(4) - «الجامع الصغير» ج 2، ص 178، الطبعة الرابعة، مطبعة مصطفي البابي الحلبيّ، مصر.
(5) - «الكافي» ج 7، ص 296، طبعة المطبعة الحيدريّة.
(6) - «فروع الكافي» ج 5، الحديث الأوّل.
(7) - «فروع الكافي» ج 5، الحديث الثاني.
(8) - «الجامع الصغير» ج 2، ص 178. وأورد القاضي القضاعيّ في كتابه «شرح فارسي شهاب الأخبار» بالفارسيّه، ص 145، في الكلمات القصار لخاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله، المطبوع مع تقديم وتصحيح وتعليق السيّد جلال الدين الحسينيّ الأرمويّ المحدّث، وجمع فيه 794 كلمة من كلمات النبيّ؛ أورد تحت رقم 278. وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. وتحت الرقم 280. وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شهِيدٌ.
(9) - «فروع الكافي» ج 7، ص 294، كتاب الديات، باب مَن لا دية له، الرواية 16.
(10) - الآيتان 148 و 149، من السورة 4. النساء.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي المشكيني
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد مهدي الآصفي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (3)
في مفهوم ولطائف آية: (وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)
في اليقين
فكرة المجتمع في نهج البلاغة
التّعاصر بين العلّة والمعلول
الأشهر القمرية هي الأشهر الطبيعية
السّلامة الشّاملة بالعربيّة، جديد الكاتب مصطفى مهدي آل غزوي
إبراهيم عليه السلام من المذبح إلى الإمامة
فتح صفحة جديدة مع الله تعالى
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (2)