قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ مفادها وفيمن نزلت (1)

المسألة:

 

قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾(1) ما هو مفاد الآية المباركة وفيمن نزلت؟

 

الجواب:

 

مفاد الآية المباركة:

 

تتحدَّثُ الآيةُ المباركة عن شريحةٍ من الناس لا يشغلُها سوى التحصيل لمرضاة الله جلَّ وعلا، وذلك في مقابل شريحةٍ أخرى تصدَّت الآياتُ التي سبقتْ هذه الآية للتعريف بهويتها وأنَّها تتظاهر بالصلاح والتقوى ولكنَّها تنطوي على قلبٍ قد سكنه النفاق والمعاندة للحقِّ، وتظلُّ كذلك تُظهرُ ما لا تُبطِن إلى أنْ تظفرَ بالقوة والنفوذ فحينذاك يكون سعيُها الإفساد في الأرض، وإذا أتيح لها أهلكت الحرث والنسل، وكلَّما تمَّ وعظها ازدادتْ عتواً وطغياناً، فالأمر لها بالتقوى يُغريها بالمزيد من الاجتراح للإثم والظلم والعدوان، فمثل هذه الشريحة من الناس مآلها جهنَّم وبئس المهاد، فهو المأوى والمصير الذي يليقُ بمثلها، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ / وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ / وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾(2).

 

وفي مقابل هذه الشريحة من الناس ثمة شريحةٌ أخرى لا يشغلُها سوى التحصيل لمرضاة الله جلَّ وعلا فذلك هو ما دفعَها إلى أنْ تبيع نفسَها لله جلَّ وعلا، فقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ معناه وثمة من الناس مَن يبيعُ نفسه، فكلمة يشري تُستعمل في الأعم الأغلب بمعنى يبيع كما في قوله تعالى: ﴿فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ﴾(3) أي يبيعون الحياة الدنيا، فالحياة الدنيا هي المبيع، والآخرة هي الثمن الذي يتقاضونه في مقابل المبيع الذي بذلوه، وكذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾(4) أي باعوه بثمنٍ بخس، فالمبيع هو يوسف (ع) والثمن البخس الذي تقاضوه في مقابله هي الدراهم المعدودة، فالمبيع هو ما يبذله البائع والثمن يبذله المشتري فقوله: ﴿يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ يعني يبيع نفسه، فالنفس هي المبيع والمشتري هو الله جلَّ وعلا كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ والثمن الذي يتوخَّاه المؤمن من بيع نفسه هي الجنَّة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾(5).

 

فالآية المباركة تمتدحُ هذه الشريحة من الناس بأنَّها قد باعت نفسها من الله جلَّ وعلا فجعلت نفسَها في تصرُّفه واختياره محضاً دون أن يكون لها اختيار في مقابل اختياره وإرادته تماماً كما يتصرَّف المشتري في المبيع بعد إبرام عقد البيع، فالبائع بعد البيع يُخلِّي بين المشتري وبين المبيع يفعل به ما يشاء هو لا ما يشاء البائع ويصرفه حيث يشاء هو دون البائع، لأنَّ المبيع صار بعد البيع مِلكاً صرفاً للمشتري وخرج عن ملك بائعه.

 

فمفاد الآية أنَّ ثمة شريحة من الناس باعوا أنفسَهم من الله فجعلوها في تصرُّفه واختياره، فلا يرون لأنفسهم اختياراً ومشيئةً في مقابل اختيار اللهِ ومشيئته، فإذا اختار الله تعالى لهم الموت في سبيله أقدموا عليه طائعين مُذعنين بل ومستبشرين ليقينهم أنَّ الثمن الذي سيتقاضونه في مقابل نفوسهم هو رضوان الله تعالى وجنَّته، وهو ثمن يفوق في نفاسته وأثره وعظيم شأنه المبيعَ الذي بذلوه، وهذا هو منشأ إقدامهم على التضحية بالدم والمُهَج مستبشرين كما قال تعالى: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(6).

 

الآيةُ نزلتْ في عليٍّ (ع) لمبيتِه على فراشِ النبيِّ (ص) ليلة الهجرة:

 

هذا هو مفاد الآية المباركة، وأمَّا منشأ نزولها فهو مبيتُ الإمام عليٍّ (ع) ليلة الهجرة على فراش الرسول الكريم (ص) لإيهام المشركين بوجوده على فراشه نائماً فيصرفُهم ذلك عن ملاحقته إلى أنْ يصلَ إلى مأمنه (ص) فالآية المباركة نزلت في الثناء على أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (ع) والإشادة بإقدامه على الفداء والتضحية بنفسِه لينجو رسولُ الله (ص) من كيدهم، ذلك لأنَّهم أحاطوا بداره وعقدوا العزم على اقتحامِها وضربه مجتمعين بأسيافِهم ضربةَ رجلٍ واحد ليضيع دمُه بين قبائل قريش، فأخبر اللهُ تعالى نبيَّه (ص) بذلك، وأمره بالهجرة إلى يثرب وبتكليفِ عليٍّ (ع) أنْ يبيتَ على فراشه لإيهامهم ببقائه في فراشِه فيصرفُهم ذلك عن ملاحقتِه إلى أنْ يبلغَ مأمنَه، فاستبشرَ عليٌّ (ع) بهذا التكليف لأنَّه سيُفضي إلى نجاة رسول الله (ص) من القتل دون أنْ يعبأ بأنَّه سيكون بذلك في مَعرَض القتل القريب، وقد حرص على أنْ يلتحفَ ببردةِ الرسول (ص) ويغطِّي رأسه إمعاناً في إيهام المشركين دون أنْ يكترثَ بأنَّ ذلك سيجعل من وقوع القتل عليه محتوماً أو قريباً من المحتوم، ولهذا باهى اللهُ تعالى بعليٍّ وتضحيتِه ملائكتَه وأمرَ جبرئيل وميكائيل بحراستِه والذودِ عنه.

 

هذا وقد تظافرت الأخبار من طرقِنا ونصَّت على أنَّ الآية نزلت في عليٍّ (ع) لمبيتِه على فراش الرسول الكريم (ص) ليلة الهجرة وعلى ذلك تسالمت الإماميَّة على ذلك:

 

فممَّا ورد من طرقنا ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي بسندٍ له عن ابن عباس قال: باتَ عليٌّ (عليه السلام) ليلة خرجَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المشركين على فراشِه ليعمِّي على قريش، وفيه نزلتْ هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾"(7).

 

ومنها: ما رواه ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي بسندٍ له عن عليِّ بن الحسين (صلوات الله عليه) في قول الله عزَّوجلَّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ قال: نزلت في عليٍّ (عليه السلام) حين باتَ على فراشِ رسول الله (صلى الله عليه وآله)"(8).

 

ومنها: ما رواه الشيخ الطوسي أيضاً بسندٍ له عن الحسن بن أبي الحسن -البصري- عن أنس بن مالك، قال: لما توجَّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الغار ومعه أبو بكر، أمر النبيُّ (صلى الله عليه وآله) عليَّاً (عليه السلام) أنْ ينام على فراشِه ويتوشَّح ببردته، فبات عليٌّ (عليه السلام) موطِّناً نفسه على القتل، وجاءت في رجال قريش من بطونها يريدون قتل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فلمَّا أرادوا أنْ يضعوا عليه أسيافهم لا يشكُّون أنَّه محمد (صلى الله عليه وآله) فقالوا: أيقظوه ليجد ألمَ القتل ويرى السيوف تأخذُه، فلما أيقظوه ورأوه عليَّاً (عليه السلام) تركوه وتفرَّقوا في طلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنزل الله عزوجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾"(9).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة البقرة / 207.

2- سورة البقرة / 204-206.

3- سورة النساء / 74.

4- سورة يوسف / 20.

5- سورة التوبة / 111.

6- سورة التوبة / 111.

7- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص253.

8- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص446.

9- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص446.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد