قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

مراحل تأريخ الإنسان في القرآن (2)


الشيخ محمد مهدي الآصفي ..

المرحلة الثانية: الشهادة
﴿كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم﴾1
أربع حقائق تتجلى في الآية الكريمة، هي:
1 - تشير أولاً إلى وحدة البشرية بالفطرة على خط عبادة الله وتوحيده ﴿كان الناس أمة واحدة﴾. وفي هذه المرحلة - وهي المرحلة الأولى - كان الناس يعبدون الله عز وجل ويطيعونه ويوحدونه على الفطرة.
 2 - وتشير ثانياً إلى أنّ الناس قد انحرفوا فيما بعد عن مقتضى الفطرة، ودبّ الاختلاف بينهم، فضعفت وفسدت فطرتهم، الأمر الذي يعني نهاية المرحلة التي كانت فيها الفطرة هي السائدة والحاكمة في حياة الانسان.
 وكان لا بد من دخول عامل جديد في حياة الإنسان إلى جانب الفطرة، لهدايته إلى الله سبحانه وتعالى.
أما السبب في ضعف الفطرة وفسادها وانحراف الناس عنها فهو الاختلاف ﴿ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾.
 ونرى في معنى هذا الاختلاف: أنّ الناس كانوا يعيشون في هذه المرحلة حياة بدائية بسيطة، فلمّا تعقدت حياتهم وتشعبت علاقاتهم، وظهرت عناصر جديدة في حياتهم، ظهر (الظلم) بينهم، وتجاوز بعضهم على بعض.
 و(الظلم) ظاهرة اجتماعية لها أسبابها وآثارها ونتائجها.
 فأما الأسباب فهي (الهوى)، ولولا (الهوى) لم يظهر الظلم في حياة الإنسان وأما الآثار فــ(الاستكبار)، لأن الظلم يستتبع دائماً وجود فئة (مستكبرة) في المجتمع، تعتدي على حقوق الآخرين، وتتجاوز على حدود الله تعالى.


ونتيجة (الظلم) و(الهوى) و(الاستكبار): (الفساد) في النفس والمجتمع، وبرز الانحراف في حياة الإنسان عن خط الفطرة في نقطتين:
الأولى: في استبدال حاكمية الله تعالى بحاكمية الطاغوت، وهذه الحالة تبرز بتأثير من نفوذ الطاغوت في المجتمع.
الثانية: في الانحراف عن خط العدل والحق إلى الظلم والتجاوز.
وهذه النقطة تبرز نتيجة نفوذ الهوى في حياة الإنسان.
وبذلك ظهر الاختلاف في الميثاق الفطري الذي كان قائماً بين الله تعالى والإنسان، ولم تعد الفطرة بعد أنْ أضعفها الفساد كافية في توجيه الإنسان وتعبيده لله تعالى وهذا هو فيما اعتقد تفسير الاختلاف الذي تُحدثنا عنه الآية الكريمة.
 وعن هذه المرحلة من سيادة الفطرة على حياة الإنسان، وما يعقبها بعد ذلك من الاختلاف يقول تعالى: ﴿وما كان الناس إلاّ أمةً واحدة فاختلفوا ولو لا كلمةُ سبقت من ربّك لقُضي بينهم فيما فيه يختلفون﴾2
 والكلمة التي سبقت القضاء هي قوله تعالى: ﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾3
3 - ولما دخل الاختلاف بأسبابه ونتائجه حياة الإنسان وأفسد عليه سلامة فطرته، أرسل الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين إلى الناس.
ورسالة هؤلاء النبيين دعم وأسناد الفطرة، وبعثها وإثارتها، بعد أن أفسدها الاختلاف وأضعفها.
وهؤلاء النبيون هم (الشهداء)، وهذه المرحلة من حياة الإنسان بداية مرحلة (الشهادة).
يقول تعالى: ﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وحئنا بك على هؤلاء شهيدا﴾(4).
﴿وكنتُ عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شىء شهيد﴾(5).
﴿ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيداً على هؤلاء، ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء، وهدىً ورحمة وبشرى للمسلمين﴾6
﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استُحِفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء﴾7
﴿وأشرقت الأرض بنور ربّها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقُضي بينهم بالحق وهم لا يظُلمون﴾8
وسوف نتحدث إن شاء الله عن الشهادة، ومعناها، ورسالة الشهداء، ومسؤولياتهم في الدنيا والآخرة، ولكن لا بد أن نذكر هنا أنّ رسالة هؤلاء الشهداء في الدنيا تهدف إلى ثلاثة أمور، 1 - التذكير. 2 - التعليم. 3 - الرقابة على سلوك الانسان.


 ومهمة التذكير هي إثارة الفطرة، وبعثها، عندما يصيبها الخمول، وهي غير مهمة (التعليم). والقرآن الكريم يحمّل الأنبياء المسؤوليتين معاً:
مسؤولية التعليم ومسؤولية التذكير. والأنبياء معلمون ومذكرون معاً.
 يقول تعالى في أمر التذكير: ﴿فذكر إنما أنت مذكر﴾9
وعن مهمّة الأنبياء في التعليم يقول تعالى: ﴿ويعلّمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾10
﴿ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾11
والتذكير يتناول أمر الدعوة إلى الله تعالى.
وأما التعليم فيتناول ما يعلمنا الله تعالى من الحكمة وشرائع دينه.
أما المهمة الثالثة فهي الرقابة على سلوك الناس، وتتمثل في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونستطيع أن نلخص رسالة الأنبياء في ثلاث كلمات: الدعوة، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يتخللها من العلم الذي يأتي به الأنبياء من جانب الله تعالى.


الميثاق والشهادة
إذن الميثاق والشهادة بعضها يكمل بعضاً، فإن (الميثاق) هو ارتباط الإنسان بالله تعالى عن طريق الفطرة. و(الشهادة) هي إسناد ودعم هذا الارتباط بإرسال النبيين والشهداء ومهمّة الشهداء هي بعث الفطرة وإثارتها وإعادة ارتباطها بالله تعالى.
4 - الاختلاف الذي يلي إرسال النبيين:
يقول تعالى: ﴿وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم﴾12
وهذا الاختلاف غير الاختلاف الأول الذي أشارت إليه الآية المباركة من قبل ﴿ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾13
 إذن فهناك اختلافان تُشير إليهما الآية:
الاول: انحراف عن الفطرة.
الثاني، اختلاف حول دعوة الأنبياء والانحراف عن رسالتهم.
 والاختلاف الأول كان قبل مبعث الرسل، والثاني كان بعد مبعث الرسل ومن قبل علماء أهل الكتاب انفسهم.
قال تعالى: ﴿وما تفرّقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم﴾14
﴿وما اختلف الذين اوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم﴾15
 وهذا الاختلاف الثاني، الذي تشير إليه الآية الكريمة من مشاكل التأريخ الحضاري للإنسان، ولسنا الآن بصدد البحث عنه.


1- البقرة: 213.
2- يونس: 19.
3- البقرة: 36.
4- النساء: 41.
5- المائدة: 117.
6- النحل: 89.
7- المائدة: 44.
8- الزمر: 69.
9- الغاشية: 21.
10- البقرة: 151.
11- الجمعة:2.
12- البقرة: 213.
13- البقرة:213.
14- الشورى: 14.
15- آل عمران: 19.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد