السيد محمد باقر الحكيم ..
ينقسم هذا البحث إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: الاختلاف والوحدة كظاهرةٍ إنسانية.
القسم الثاني: الاختلاف والوحدة بين الديانات الإلهية.
أما القسم الأول: فنحن نلاحظ من خلال القرآن الكريم أن البشرية ـ كمجتمع ـ بدأت متحدة في سلوكها وعلاقاتها، كما نص القرآن الكريم على ذلك في بعض المواضع: ] كان الناس أمة واحدة[ ([1]) ]وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون[ ([2]).
ويبدو أن هذه الوحدة كانت تقوم على أساس قاعدة الفطرة الإنسانية التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الإنسان، وهيأه لهذه الخلافة الإلهية في الأرض، والتي تتمثل بالعقل والعلم والإرادة ]وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...[ ([3]) وقد كانت الظروف الإنسانية والحياتية في البداية ملائمة لأن تأخذ هذه
الفطرة دورها في تحقيق هذه الوحدة واستمرارها باعتبار بساطة الحياة الاجتماعية، وعدم وجود التعقيد في ظروفها، سواء على مستوى حاجات هذا الإنسان ومتطلباته التي تفرضها عليه غرائزه وشهواته، أو على مستوى الإمكانات والقدرات التي يملكها هذا الإنسان، والتي تجعله غير قادر على بسط نفوذه، والتوسع والامتداد ليشمل مساحات جديدة من الحياة الاجتماعية بحيث تؤدي إلى دخوله في التناقض مع المساحات الأخرى، أو على مستوى المعرفة والفهم للوسائل والأسباب التي تخلق له أنواعاً جديدة من الآفاق والطموحات والأهداف والمقاصد.
ويمكن أن نتصور هذه المرحلة الأولى من الحياة الإنسانية التي كانت تتحكم فيها الفطرة وتسيرها في ظل هذه الظروف الملائمة. إن الإنسان فيها قد يحدث له بعض التجاوزات الفردية التي كانت تظهر بسبب الهوى، ولكن سرعان ما يرجع إلى فطرته عندما تهدأ سورة الهوى من حقد أو حسد أو غضب أو شهوة، كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك في حادثة ابني آدم: ] واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين[ ([4]).
ظاهرة الاختلاف:
وبعد هذه المرحلة ـ ومرور فترة زمنية معينة تكامل فيها المجتمع البشري وتوسع في إعداده وحاجاته ومتطلباته ـ جاءت فترة الاختلاف في البشرية.
ويبدو من القرآن الكريم أن البشرية في جميع أدوارها كانت محكومة بما يمكن أن نسميه بـ(قانون الاختلاف)، ] ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم...[ ([5])، حيث إن الاختلاف
ـ كواقع خارجي ـ كان موجوداً وقائماً في مختلف المراحل التاريخية، وكان هذا الاختلاف نتيجة طبيعية لقانون آخر وضع الله تعالى البشرية في إطاره، وهو: قانون الامتحان والاختبار، والذي شكل المنهج الوحيد لعملية البناء والتكامل للأمم والأفراد الصالحين في إطار المخلوق العالم والمختار، الذي يحتمل في نفسه الشعور بالحاجة الطويلة للحياة والرغبات والشهوات، والذي هيأ الله تعالى له حياة طويلة ومتنوعة، وهي الحياة الدنيا والآخرة، حيث كانت فترة الامتحان له ـ وهي : الحياة الدنيا ـ فترة العمل من أجل هذا التكامل وفرصة الاختبار فيه، وكانت الحياة الأخرى هي فترة الحساب والثواب والعقاب وتحقق الأهداف (الحياة الحقيقية) ] وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون[ ([6]). ] أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون[ ([7]). ]الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور[ ([8]).
الاختلاف بسبب الهوى:
وقد بدأ الاختلاف في الحياة الإنسانية بسبب تأثير الهوى الذي أودعه الله ـ عز وجل ـ في النفس البشرية كقوة جاذبة توازن في عملية الإرادة والاختيار قوة العقل والفطرة الإنسانية، حيث يعتمد الهوى بالأصل على رؤية الأمور عملياً من خلال المحسوسات المادية فقط، والحاجات الأمنية الدنيوية التي تتطلبها الغرائز الإنسانية، ويعتمد على المشاعر والأحاسيس التي تخلقها المصالح الوقتية في مقابل العقل الذي يعتمد على الرؤية الصحيحة والدقيقة لواقع الكون والحياة، والنظرة إلى
الحياة الإنسانية على أساس أنها حياة لها امتداداتها الغيبية في المبدأ والمعاد، وأن لها حاجات مادية وروحية معا لابد من تكاملها في المتطلبات والالتزامات، وأهمية إيجاد التوازن بينهما في العمل والسلوك ] قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون[ ([9]). ]زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب[ ([10]).
ويمثل هذا المشهد القرآني هذه الرؤية ] إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضًا حسنًا يضاعف لهم ولهم أجر كريم * والذين ءامنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم * اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطامًا وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور * سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم * ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبراها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور[ ([11]).
وكذلك ينظر العقل إلى المصالح الإنسانية بنظرة شمولية ترتبط بالفرد والمجتمع والحياة الدنيا والآخرة.
ومن هنا نجد الهوى يدعو عمليًّا إلى إطلاق العنان للغرائز والشهوات، ويدعو أيضًا إلى الاهتمام بالمصالح الخاصة الذاتية من خلال رؤية الإنسان لذاته وحركتها في هذه الحياة الدنيا فقط، والتي قد تضيق وتتسع هذه الرؤية للذات بحسب فهمه لهذه الحياة الدنيا، ومدى حركته وسعة وجوده، أو اندفاعاته الغرائزية التي قد يقدم بعضها على البعض الآخر عندما تتزاحم فيما بينها.
ومن هنا نجد هذا النوع من الناس الماديين مختلفين في اهتماماتهم بالذات، حيث إن بعضهم يركز على شخصه، أو عشيرته، أو أسرته، أو على القضايا الجنسية، أو المالية، أو الجاه والمناصب، أو غير ذلك من الشهوات؛ لأن نظرته لحركة ذاته في الحياة الدنيا تعرض عليه هذا النوع من الاهتمام أو ذاك.
وفي مقابل ذلك نجد العقل يدعو إلى السيطرة على الغرائز وإخضاعها إلى الضوابط والقيود وتوجيهها في السلوك وفقاً لما تقتضيه المسيرة الطويلة للتكامل الإنساني الشامل.
وكذلك يدعو العقل إلى الاهتمام بالمصالح الإنسانية العامة والخاصة من خلال رؤية الإنسان لذاته وحركتها في الحياة الدنيا والآخرة معاً، حيث يصبح حب الذات الذي هو من الأمور الفطرية والغريزية في الإنسان، وكذلك حب الخير واللذات والشهوات لها مداليل أخرى في حياة الإنسان تنسجم مع هذا الفهم، وكذلك التضحية والفداء والمعاناة والآلام والبذل والإنفاق والإيثار، وكذلك العشيرة والأسرة والقبيلة والوطن والناس لهم معان أخرى تصب في سبيل الله ورضوان الله والوصول إلى الدرجات العليا ] ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا[ ([12]).
وعندما يتبع الإنسان الهوى ويخرج على توجيه العقل يوجد الاختلاف بسبب عدوان أصحاب الهوى على الناس والكون، والتناقض بين المصالح والإرادات، والتنافس غير الشريف على الجاه والسلطة والشهوات بين الناس.
ويبدو من القرآن الكريم أن هذا النوع من الاختلاف هو: أول الأنواع التي ظهرت في التاريخ الإنساني والتي توقعها الملائكة من خلال طبيعة خلق هذا الإنسان كما يتحدث القرآن الكريم: ] وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون[ ([13]).
ــــــــــــــــ
[1] ـ البقرة: 213.
[2] ـ يونس: 19.
[3] ـ البقرة: 30.
[4] ـ المائدة 27.
[5] ـ هود: 117 ـ 118.
[6] ـ العنكبوت: 64.
[7] ـ العنكبوت: 2.
[8] ـ الملك: 2.
[9] ـ الأعراف: 32.
[10] ـ آل عمران: 14.
[11] ـ الحديد: 18 ـ 23.
[12] ـ النساء: 69.
[13] ـ البقرة: 30.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان