قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

الخضر عليه السلام (2)


الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..

أقتلت نفسًا زكيّة؟؟
لقد انتهت سفرتهم البحرية، وترجلوا من السفينة: ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ﴾ وقد تمّ ذلك بدون أي مقدمات!!
وهنا ثار موسى عليه السلام مرة ًأخرى حيث لم يستطيع السكوت على قتل طفل بريء بدون أي سبب وظهرت آثار الغضب على وجهه وملأ الحزن وعدم الرضا عينيه ونسي وعده مره أُخرى، فقام للاعتراض، وكان اعتراضه هذه المرة أشد من اعتراضة في المرة الأولى، لأن الحادثة هذه المرة كانت موحشة أكثر من الأولى، فقال: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أي إنك قتلت إنسانا بريئًا من دون أن يرتكب جريمة قتل ﴿لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا﴾.
ومره أخرى كّرر العالم الكبير جملته السابقة التي اتسمت ببرود خاص، حيث قال لموسى ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا﴾.
تذكر موسى تعهده فانتبه إلى ذلك وهو خجل، حيث أخل بالعهد مرتين – ولو بسبب النسيان – وبدء تدريجيًّا يشعر بصدق عبارة الأستاذ في أنّ موسى لا يستطيع تحمل أعماله، لذا فلا يطيق رفقته كما قال له قال عندما عرض عليه موسى الرفقه، لذا فقد بادر إلى الاعتذار وقال: إذا اعترضت عليك مرّه أخرى فلا تصاحبني وأنت في حلٍّ منّي: ﴿إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا﴾ صيغه العذر هنا تدل على إنصاف موسى عليه السلام ورؤيته البعيدة للأمور، وتبين أنّه عليه السلام كان يستسلم للحقائق ولو كانت مرّه، بعبارة أخرى: إن الجملة توضح وبعد ثلاث مراحل للاختبار أن مهمة هذين الرجلين كانت مختلفة.


لو شئت لاتخذت عليه أجرًا:
بعد هذا الكلام والعهد الجديد ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا﴾ لا ريب، إنّ موسى وصاحبه لم يكونا ممن يلقى بكلّه على الناس ولكن يتّضح أنّ زادهم وأموالهم قد نفذت في تلك السفرة، لذا فقد رغبا أن يضيفهما أهل تلك المدينة (ويحتمل أنّ الرجل العالم تعمد طرح هذا الاقتراح كي يعطي موسى درسًا بليغًا آخر).
وذكر المفسرون نقلاً عن ابن عباس أنّ المقصود بهذه المدينة هو (أنطاكية).
وذكر آخرون: إن المقصود منها هو مدينه (أيله) التي تسمي اليوم ميناء (أيلات) المعروف الذي يقع على البحر الأحمر قرب خليج العقبة. أما البعض الثالث فيرى بأنها مدينه (الناصره) الواقعة شمال فلسطين، وهي محل ولادة السيد المسيح وقد نقل العلامة الطبرسي حديثًا عن الإمام الصادق عليه السلام يدعم صحة هذا الاحتمال.
ورجوعًا إلى ما قلناه في المقصود من (مجمع البحرين) إذ قلنا: إنه كنايه عن محل التقاء خليج العقبة وخليج السويس، يتضح أن مدينه (الناصره) أو ميناء (أيله) أقرب إلى هذا المكان من أنطاكية.
المهم في الأمر، أننا نستنتج من خلال ما جرى لموسى عليه السلام وصاحبه من أهل هذه المدينة أنهم كانوا لئامًا دنيئي الهمة، لذا نقرأ في رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله في وصف أهل هذه المدينة (كانوا أهل قرية لئام).
ثم يضيف القرآن ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ وقد كان موسى عليه السلام يشعر بالتعب والجوع، والأهم من ذلك أنه كان يشعر بأن كرامته وكرامه أستاذه قد أهينت من أهل هذه القرية التي أبت أن تضيفهما، ومن جانب آخر شاهد كيف أنّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم من سلوك أهل القرية القبيح إزاءهما، وكأنّه بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيئة، وكان موسى يعتقد بأن على صاحبه أن يُطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يُعدا طعامًا لهما.
لذا فقد نسي موسى عليه السلام عهدة مره أخرى وبدأ بالاعتراض، إلا أن اعتراضه هذه المرة بدا خفيفًا فقال ﴿قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾.
وفي الواقع فإن موسى يعتقد بأن قيام الإنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجافٍ لروح العدالة، بعبارة أخرى إن الجميل جيد وحسن بشرط أن يكون في محلّه.
صحيح أن الجزاء الجميل في مقابل العمل القبيح هو من صفات الناس الإلهيين إلا إن ذلك لا ينبغي أن يكون سببًا في دفع المسيئين للقيام بالمزيد من الأعمال السيئة.


أصعب مرحله في حياة موسى:
وهنا قال الرجل العالم كلامه الأخير لموسى، بأنك ومن خلال الحوادث المختلفة لا تستطيع معي صبرًا، لذلك قررّ العالم قراره الأخير ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾.
موسى عليه السلام لم يعترض على القرار –طبعًا- لأّنه هو الذي كان قد اقترحه عند وقوع الحادثة السابقة، وهكذا ثبت لموسى أنّه لا يستطيع الاستمرار مع هذا الرجل العالم. ولكن برغم كل ذلك، فإن خبر الفراق قد نزل بوقع شديد على قلب موسى عليه السلام إذ يعني فراق أستاذٍ قلبه مملوء بالأسرار، ومفارقه صُحبه مليئة بالبركة، إذ كان كلام الأستاذ درسًا، وتعامله يتسم بالإلهام، نور الله يشع من جبينه، وقلبه مخزن للعلم الإلهي.
إن مفارقه رجل بهذه الخصائص أمر صعب للغاية، لكن على موسى عليه السلام أن ينصاع لهذه الحقيقة المرة.
ورد في الخبر، أنّ موسى عليه السلام عندما سئُل عن أصعب ما لاقى من مشكلات طول حياته، أجاب قائلاً: لقد واجهت الكثير من المشاكل والصعوبات (إشارة إلى ما لاقاه عليه السلام من فرعون، وما عاناه من بني إسرائيل) ولكن لم يكن أيًّا منها أصعب وأكثر ألمًا على قلبي من قرار الخضر في فراقي إيّاه.


الأسرار الداخلية لهذه الحوادث:
بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضر عليه السلام أمرًا حتميًّا، كان من اللازم أن يقوم الأستاذ الإلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطيع موسى أن يصبر عليها، وفي الواقع أن استفادة موسى من صُحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث الثلاثة العجيبة، والتي يمكن أن تكون مفتاحًا للعديد من المسائل وجوابًا لكثير من الأسئلة.
ففي البداية ذكر قصة السفينة وقال: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾.
وبهذا الترتيب كان ثمة هدف خيّر وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملاً مشينًا سيئًا، والهدف هو نجاتهم من قبضة ملك غاصب، وكان هذا الملك يترك السفينة المعيبة ويصرف النظر عنها إذًا خلاصة المقصود في الحادثة الأولى هو حفظ مصالح مجموعه من المساكين.
بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثانية التي قتل فيها الفتى فيقول: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾.
إنّ الرجل العالم قام بقتل هذا الفتى، واعتبر سبب ذلك ما سوف يقع لأب والأم المؤمنين في حال بقاء الابن على قيد لحياه. ثم أضاف قوله ﴿فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾.
في النهاية كشف الرجل العالم عن السر الثالث الذي دعاه إلى بناء الجدار فقال: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾.
وأنا كُنت مأمورًا ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين اليتيمين كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرضًا للخطر.
وفي خاتمه الحديث ولأجل أن تنتفي أي شبهة محتمله، أو شك لدى موسى(ع) ولكي يكون على يقين بأن هذه الأعمال كانت طبقًا لمخطط وتوجيه أعلى خاص، قال العالم: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ بل بأمرٍ من الله. وذلك سر ما لم يستطيع موسى عليه السلام صبرًا إذا قال: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾.


من هو الخضر!!
القرآن الكريم يتحدث عن العالم من دون أن يسميه بالخضر وقد عبّر عن معلّم موسى عليه السلام بقوله: ﴿عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾، والآية توضح المقام الخاص للعبودية والعلم والمعرفة، لذا فإننا غالبًا ما نصفه بالرجل العالم.
أمّا الروايات الإسلامية وفي مختلف مصادرها عرفّت هذا الرجل باسم (الخضر) ومن بعض الروايات نستفيد بأن اسمه الحقيقي كان (بليا بن ملكان) أما الخضر فهو لقب له، حيث أنّهُ أينما كان يطأ الأرض فأن الأرض كانت تخضر تحت قدميه.
البعض أحتمل أن هذا الرجل العالم هو (إلياس) ومن هنا ظهرت فكره أن إلياس والخضر هما اسمان لشخصٍ واحد، ولكن المعروف والمشهور بين المفسرين والرواة هو الأول.
وطبيعي أن نقول: إن اسم الرجل العالم أيًّا كان فهو غير مهم لا لمضمون القصة ولا لقصدها، إذ المهم أن نعرف أنّه كان عالمًا إلهيًا، شملته الرحمة الإلهية الخاصة، وكان مكلفًا بالباطن والنظام التكويني للعالم، ويعرف بعض الأسرار، وكان معالم موسى ابن عمران بالرغم من إن موسى عليه السلام كان أفضل منه من بعض الجوانب.
وهناك أيضًا أراء وروايات مختلفة فيما إذا كان الخضر نبيًّا أم لا؟
ففي المجلد الأول من أصول الكافي وردت روايات عديدة تدل على إن هذا الرجل لم يكن نبيًّا بل كان عالمًا مثل (ذو القرنين) و (آصف بن برخيا).
في حين نستفيد من روايات أخرى أنّه كان نبيًّا، وظاهر بعض الآيات أعلاه يدل على هذا المعنى، لأنها تقول على لسانه: (وما فعلته من أمري) وفي مكان أخر قوله: ﴿فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ﴾.
ونستفيد من الروايات أن الخضر عمّر طويلاً.


الأساطير الموضوعة:
إنّ الأساس في قصة موسى والخضر هو ما ذكر في القرآن، ولكن مع الآسف هناك أساطير كثيرة قيلت حول القصة وحول رمزيها (موسى والخضر) حتى أنّ بعض الإضافات تعطي للقصة طابعًا خرافيًّا. وينبغي أن نعرف أنّ مصير كثير من القصص لم يختلف عن مصير هذه القصة، إذ لم تنج قصه من الوضع والتحريف والتقوّل.
مقياسنا في واقعية القصة هو أن نضع القرآن كمعيار أمامنا، وحتى بالنسبة للأحاديث فإننا نقبلها في حال كونها مطابقة للقرآن، فإذا كان هناك حديث لا يطابق فسنرفضه حتمًا ومن حسن الحظ لم يرد في الأحاديث حديث معتبر.


علم موسى والخضر مقابل علم الله:
روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لما لقي موسى الخضر، جاء طير فألقى منقاره في الماء فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطائر؟
قال: وما يقول؟
قال: (يقول ما علمك وعلم موسى في علم الله إلاّ كما أخذ منقاري من الماء)
ماذا عن الكنز؟
من الأسئلة تثار حول هذه القصة، هي عن ماهية الكنز وما كان؟ ولماذا كان صاحب موسى يصر على إخفائه؟ ولماذا قام الرجل المؤمن، يعني أبا الأيتام بتجميع هذا الكنز وإخفائه؟
يرى بعض أن الكنز يرمز إلى شيء معنوي، قبل أن يكون له مفهوم مادي.
إذ أنّ هذا الكنز-طبقًا لروايات عديدة تنقل من طرق السنه والشيعة- لم يكن سوى لوح منقوش عليه مجموعه من الحكم.

أمّا ماهية هذه الحكم؟ فثمة كلام كثير في ذلك:
ففي كتاب الكافي نقلاً عن الإمام حيث قال في جوابه على سؤال يتعلق بماهية الكنز: (أمّا إنّه ما كان ذهبًا ولا فضه، وإنما كان أربع كلمات: لا إله إلا الله، من أيقن بالموت لم يضحك، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله) وفي روايات أخرى، ورد أن اللوح من ذهب.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد