قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

الحمد لله رب العالمين


الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..

العالم مغمور في رحمته:
بعد البسملة، أول واجبات العباد أن يستحضروا دومًا مبدأ عالم الوجود، ونعمه اللامتناهية، هذه النعم التي تحيطنا وتغمر وجودنا، وتهدينا إلى معرفة الله من جهة، وتدفعنا على طريق العبودية من جهة أخرى.
وعند ما نقول أن النعم تشكل دافعًا ومحركًا على طريق العبودية، لأن الإنسان مفطور على البحث عن صاحب النعمة حينما تصله النعمة، ومفطور على أن يشكر المنعم على إنعامه.
من هنا فان علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون في بحوثهم الأولية لهذا العلم إلى "وجوب شكر المنعم" باعتباره أمرًا فطريًّا وعقليًّا دافعًا إلى معرفة الله سبحانه.
وإنما قلنا إن النعم تهدينا إلى معرفة الله، لأن أفضل طريق وأشمل سبيل لمعرفته سبحانه، دراسة أسرار الخليقة، وخاصة ما يرتبط بوجود النعم في حياة الإنسان.
مما تقدم ابتدأت سورة الحمد بعبارة الحمد لله رب العالمين.


ولفهم عمق هذه العبارة وعظمتها يلزمنا توضيح الفرق بين (" الحمد" و "المدح"  و "الشكر") والنتائج المترتبة على ذلك:
١ - "الحمد" في اللغة: الثناء على عمل أو صفة طيبة مكتسبة عن اختيار، أي حينما يؤدي شخص عملًا طيبًا عن وعي، أو يكتسب عن اختيار صفة تؤهله لأعمال الخير فإننا نحمده ونثني عليه.
و "المدح" هو الثناء بشكل عام، سواء كان لأمر اختياري أو غير اختياري، كمدحنا جوهرة ثمينة جميلة. ومفهوم المدح عام، بينما مفهوم الحمد خاص.
أما مفهوم "الشكر" فأخص من الاثنين، ويقتصر على ما نبديه تجاه نعمة تغدق علينا من منعم عن اختيار.
ولو علمنا أن الألف واللام في (الحمد) هي لاستغراق الجنس، لعلمنا أن كل حمد وثناء يختص بالله سبحانه دون سواه.
ثناؤنا على الآخرين ينطلق من ثنائنا عليه تعالى، لأن مواهب الواهبين كالأنبياء في هدايتهم للبشر، والمعلمين في تعليمهم، والكرماء في بذلهم وعطائهم، والأطباء في علاجهم للمرضى وتطبيبهم للمصابين، إنما هي في الأصل من ذاته المقدسة. وبعبارة أخرى: حمد هؤلاء هو حمد لله، والثناء عليهم ثناء على الله تعالى.
وهكذا الشمس حين تغدق علينا بأشعتها، والسحب بأمطارها، والأرض ببركاتها، كل ذلك منه سبحانه، ولذلك فكل الحمد له.
وبكلمة أخرى: جملة الحمد لله رب العالمين إشارة إلى توحيد الذات، والصفات، والأفعال (تأمل بدقة).
٢ - وصف (الله) بأنه (رب العالمين) هو من قبيل ذكر الدليل بعد ذكر الادعاء، وكأن سائلًا يقول: لم كان حمد لله؟ فيأتي الجواب: لأنه (رب العالمين).
وفي موقع آخر يقول القرآن عن الباري سبحانه: الذي أحسن كل شئ خلقه ...
ويقول أيضًا: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها.
٣ - يستفاد من (الحمد) أن الله سبحانه واهب النعم عن إرادة واختيار، خلافًا لأولئك القائلين إن الله تعالى مجبر على أن يفيض بالعطاء كالشمس!!
٤ - جدير بالذكر أن الحمد ليس بداية كل عمل فحسب، بل هو نهاية كل عمل أيضًا كما يعلمنا القرآن.
يقول سبحانه عن أهل الجنة: دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
٥ - أما كلمة "رب" ففي الأصل بمعنى مالك وصاحب الشيء الذي يهتم بتربيته واصلاحه. وكلمة "ربيبة" وهي بنت الزوجة، ومأخوذة من هذا المفهوم للكلمة. لأن الربيبة تعيش تحت رعاية زوج أمها.
والكلمة بلفظها المطلق تعني رب العالمين، وإذا أطلقت على غير الله لزم أن تضاف، كأن نقول: رب الدار، ورب السفينة. وذكر صاحب تفسير (مجمع البيان) معنى آخر للرب، وهو السيد المطاع، ولكن لا يبعد أن يعود المعنيان إلى أصل واحد.
٦ - كلمة "عالمين" جمع "عالم"، والعالم: مجموعة من الموجودات المختلفة ذات صفات مشتركة، أو ذات زمان ومكان مشتركين، كأن نقول: عالم الإنسان، وعالم الحيوان، وعالم النبات. أو نقول عالم الشرق وعالم الغرب، وعالم اليوم، وعالم الأمس. فكلمة العالم وحدها تتضمن معنى الجمع، وحين تجمع بصيغة "عالمين"، فيقصد منها كل مجموعات هذا العالم. ويلفت النظر هنا أن كلمة عالم جمعت هنا جمعا مذكرًا سالـمًا، ونعرف أن جمع المذكر السالم يستعمل في العاقل عادة، ومن هنا ذهب بعض المفسرين إلى أن كلمة "عالمين" إشارة إلى المجموعات العاقلة في الكون كالبشر، والملائكة، والجن، ولكن قد يكون هذا الاستعمال للتغليب، أي لتغليب المجموعات العاقلة على غير العاقلة.
٧ - يقول صاحب المنار: (ويؤثر عن جدنا الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أن المراد ب‍ (العالمين) الناس فقط).
ثم يضيف: وقد وردت كلمة (العالمين) في القرآن الكريم أيضًا بهذا المعنى كقوله: ليكون للعالمين نذيرا.
ولكن، لو استعرضنا مواضع استعمال (عالمين) في القرآن، لرأينا أن هذه الكلمة وردت في كثير من الآيات بمعنى بني الإنسان، بينما وردت في مواضع أخرى بمعنى أوسع يشمل البشر وسائر موجودات الكون الأخرى، كقوله تعالى:
فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين.. وكقوله سبحانه: قال فرعون: وما رب العالمين؟ قال: رب السماوات والأرض وما بينهما.
وعن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في تفسير (رب العالمين) قال: "رب العالمين هم الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات".
كلمة عالمين يمكن فهمها في إطارها الكوني الأوسع، ويمكن فهمها في إطار عالم (الإنسان) - كما ورد في رواية الإمام زين العابدين (عليه السلام)، لأن الكائن البشري أشرف المخلوقات، ولأن الإنسان هو الهدف الأساس من هذه المجموعة الكبرى وليس بين الفهمين أي تناقض.
٨ - جدير بالذكر أن هناك من قسم العالم إلى: عالم صغير وعالم كبير، والمقصود من العالم الصغير هو الإنسان، لأنه لوحده ينطوي على مجموعة من نفس القوى المتحكمة في هذا الكون الفسيح.
 والإنسان - في الواقع - عينية مصغرة لكل هذا العالم.
الذي دعانا إلى التوسع في مفهوم كلمة (العالم) هو أن عبارة "رب العالمين" جاءت وكأنها دليل على عبارة (الحمد لله)، أي أننا نقول في سورة الفاتحة: إن الحمد مختص بالله تعالى لأنه صاحب كل كمال ونعمة وموهبة في العالم.


بحثان
- رفض الآلهة:
شهد التاريخ البشري ألوان الانحرافات عن خط التوحيد، والصفة البارزة في هذه الانحرافات هو الاعتقاد بوجود آلهة متعددة لهذا العالم. وفكرة التعدد انطلقت من ضيق نظرة أصحابها الذين راحوا يعينون لكل جانب من جوانب الكون والحياة إلها، وكأن ربوبية العالمين لا يمكن إناطتها لمصدر واحد!!
وراحت بعض الأمم تصنع الآلهة لأمور جزئية كالحب والعقل والتجارة والحرب والصيد.
اليونانيون مثلا كانوا يعبدون اثنتي عشرة آلهة وضعوها على قمة (أولمپ)  وكل واحدة منها تمثل جانبًا من صفات البشر!!. والكلدانيون اعتقدوا بإله الماء وإله القمر وإله الشمس وإله الزهرة، وأطلقوا على كل واحد منها اسمًا معينًا، واتخذوا فوق ذلك "مردوخ" إلـهًا أكبر لهم.
والروم تعددت آلهتهم أيضًا، وراج سوق الشرك عندهم أكثر من أية أمة أخرى. فقد قسموا الآلهة إلى مجموعتين: آلهة الأسرة وآلهة الحكومة. ولم يكونوا يكنون ولاء لآلهة الحكومة، (لعدم ارتياحهم من حكومتهم!).
وقد ورد في التاريخ أن الروم اتخذوا لهم ثلاثين ألف إلهًا حتى قال أحد رجالهم مازحًا: إن عدد آلهتنا من الكثرة إلى درجة أنها أكثر من المارة في الأزقة والطرقات، وكل واحد منها مظهر من مظاهر الكون المشهودة، إله مثل إله الزراعة، وإله المطبخ، وإله مستودع الطعام، وإله البيت، وإله النار، وإله الفاكهة، وإله الحصاد، وإله شجرة العنب، وإله الغابة، وإله الحريق، وإله بوابة روما، وإله بيت النار.
وللخلاصة، إن البشرية كانت غارقة في وحل الخرافات كما أنها تعاني الآن أيضًا من ذلك الموروث السقيم.
وفي عصر نزول القرآن كان في الجزيزة العربية وفي كثير من مناطق العالم، آلهة تعبد من دون الله. كما كانت عبادة الأفراد رائجة، وإلى ذلك يشير القرآن في خطابه لليهود والنصارى إذ يقول: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله. بعبارة موجزة، حين تنحرف البشرية عن خط التوحيد، وتتورط في شراك الخرافات وفخاخ الأوهام. فمضافًا إلى أنها تساهم في تغريب العقل وانحطاط الفكر، تؤدي إلى تشتت المجتمع وتعمل على تمزيقه.

٢ - ربوبية الله طريق لمعرفة الله
كلمة (الرب)، وإن كانت تعني في الأصل المالك والصاحب، تتضمن معنى الصاحب المتعهد بالتربية.
إمعان النظر في المسيرة التكاملية للموجودات الحية، وفي التغييرات والتحولات التي تجري في عالم الجماد، وفي الظروف التي تتوفر لتربية الموجودات، وفي تفاصيل هذه الحركات والعمليات، هو أفضل طريق لمعرفة الله. والتنسيق اللاإرادي بين أعضاء جسدنا هو نموذج حي لذلك.
لو واجهنا في حياتنا - مثلًا - حادثة هامة تتطلب منا أن ننهض أمامها بقوة وحزم، فإن أوامر منسقة تصدر خلال لحظة قصيرة إلى جميع أجزاء جسدنا بشكل لا إرادي. وبسرعة خاطفة يشتد ضربان قلبنا وتنفسنا، وتتجهز كل قوانا، وتتدفق المواد الغذائية والأوكسجين - المحمولة عن طريق الدم - إلى جميع الخلايا، وتتأهب الأعصاب والعضلات للعمل والحركة السريعة، وترتفع قدرة تحمل الإنسان للمتاعب والآلام، ويغادر النوم العيون، ويزول التعب من  الأعضاء، ويزول الإحساس بالجوع.
من الذي أوجد هذا التنسيق العجيب في هذه اللحظة الحساسة، وبهذه السرعة، بين جميع أجزاء وجود الإنسان؟ هل هذه العناية والتربية ممكنة من غير الله العالم القادر؟!

آيات القرآن الكريم تكثر من عرض نماذج لهذه التربية الإلهية، سنتعرض لها في مكانها إن شاء الله تعالى، وكل واحدة منها دليل واضح على معرفة الله..

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد