السيد محمد حسين الطباطبائي
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
لا محيص للإنسان في حياته المحدودة التي يعمُرها في هذه النشأة من سنّة يستنّ بها فيما يريد ويكره، ويجري عليها في حركاته وسكناته، وبالجملة، جميع مساعيه في الحياة.
وتتبع هذه السنّة في نوعها ما عند الإنسان من الرأي في حقيقة الكون العامّ وحقيقة نفسه وما بينهما من الربط، ويدلّ على ذلك ما نجد من اختلاف السنن والطرائق في الأمم باختلاف آرائهم في حقيقة نشأة الوجود والإنسان الذي هو جزء منها.
فمن لا يرى لما وراء المادّة وجوداً، ويقصر الوجود في المادّي، ويُنهي الوجود إلى الاتّفاق، ويرى الإنسان مركّباً مادّياً محدودَ الحياة بين التولّد والموت، لا يرى لنفسه من السعادة إلّا سعادة المادّة ولا غاية له في أعماله إلّا المزايا المادّية من مال وولد وجاه وغير ذلك، ولا بغية له إلّا التمتّع بأمتعة الدنيا والظفر بلذائذها المادّية أو ما يرجع إليها وتنتهي جميعاً إلى الموت الذي هو عنده انحلال للتركيب وبطلان.
ومن يرى كينونة العالَم عن سببٍ فوقه منزّه عن المادّة، وأنّ وراء الدار داراً وبعد الدنيا آخرة نجده يخالف في سنّته وطريقته الطائفة المتقدّم ذكرها، فيتوخّى في أعماله وراء سعادة الدنيا سعادة الأخرى، وتختلف صور أعمالهم وغاياتهم وآراؤهم مع الطائفة الأولى.
وتختلف سنن هؤلاء باختلافهم أنفسهم فيما بينهم، كاختلاف سنن الوثنيّين من البرهميّين والبوذيّين وغيرهم، والملّيين من المجوسية والكليمية والمسيحية والمسلمين، فلكلّ وجهةٌ هو مولّيها.
وبالجملة، الملّي يراعي في مساعيه جانبَ ما يراه لنفسه من الحياة الخالدة المؤبّدة، ويذعن من الآراء بما يناسب ذلك، كادّعائه أنّه يجب على الإنسان أن يمهّد لعالم البقاء، وأن يتوجّه إلى ربّه، وأن لا يفرّط في الاشتغال بعرَض الحياة الدنيا الفانية، وغير الملّي الخاضع للمادّة يلوي إلى خلاف ذلك، هذا كلّه ممّا لا ريب فيه.
الاعتقاد بين القول والفعل
غير أنّ الانسان لمّا كان بحسب طبعه المادّي رهيناً للمادّة، متردّداً بين الأسباب الظاهرية، فاعلاً بها منفعلاً عنها، لا يزال يدفعه سبب إلى سبب لا فراغ له من ذلك، يرى – بحسب ما يخيّل إليه - أنّ الأصالة هي لحياته الدنيوية المنقطعة، وأنّها وما تنتهي إليه من المقاصد والمزايا هي الغاية الأخيرة والغرض الأقصى من وجوده، الذي يجب عليه أن يسعى لتحصيل سعادته.
فالحياة الدنيا هي الحياة، وما عند أهلها من القنية والنعمة والمُنية والقوة والعزّة هي هي بحقيقة معنى الكلمة، وما يعدّونه فقراً ونقمة وحرماناً وضعفاً وذلّة ورزيّة ومصيبة وخسراناً هي هي، وبالجملة، كلّ ما تهواه النفس من خير معجّل أو نفع مقطوع فهو عندهم خير مطلق ونفع مطلق، وكلّ ما لا تهواه فهو شرّ أو ضرّ.
فمن كان منهم من غير أهل الملّة جرى على هذه الآراء ولا خبر عنده عمّا وراء ذلك، ومن كان منهم من أهل الملّة جرى عليها عملاً وهو معترف بخلافها قولاً فلا يزال في تدافع بين قوله وفعله، قال تعالى: ﴿.. كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا..﴾ البقرة:20.
الدين الحقّ
والذي تندب إليه الدعوة الإسلامية من الاعتقاد والعمل هو ما يطابق مقتضى الفطرة الإنسانية التي فُطر عليها الإنسان وتثبت عليه خلقته كما قال عز ّوجلّ: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ..﴾ الروم:30.
ومن المعلوم أنّ الفطرة لا تهتدي علماً ولا تميل عملاً إلّا إلى ما فيه كمالُها الواقعي وسعادتها الحقيقية، فما تهتدي إليه من الاعتقادات الأصلية في المبدأ والمعاد، وما يتفرّع عليها من الآراء والعقائد الفرعية علومٌ وآراء حقّة لا تتعدّى سعادة الإنسان، وكذا ما تميل إليه من الأعمال.
ولذا سمّى الله تعالى هذا الدين المبنيّ على الفطرة بـ«دين الحقّ» في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ..﴾ الصف:9. وقال في القرآن المتضمّن لدعوته: ﴿.. يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ..﴾ الأحقاف:30.
وليس الحقّ إلّا الرأي والاعتقاد الذي يطابقه الواقع ويلازمه الرشد من غير غيّ، وهذا هو الحكمة - الرأي الذي أُحكم في صدقه فلا يتخلّله كذب، وفي نفعه فلا يعقبه ضرر - وقد أشار تعالى إلى اشتمال الدعوة على الحكمة بقوله: ﴿.. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ..﴾ النساء:113، ووصف كلامه المنزل بها فقال: ﴿وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ﴾ يس:2، وعدّ رسولَه صلّى الله عليه وآله وسلم معلّماً للحكمة في مواضع من كلامه، كقوله: ﴿..وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ..﴾ الجمعة:2.
فالتعليم القرآني الذي تصدّاه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم المبيّن لما نزل من عند الله من تعليم الحكمة، وشأنه بيان ما هو الحقّ في قبال الاعتقادات الباطلة الخرافية التي دبّت في أفهام الناس من تصوّر عالم الوجود وحقيقة الإنسان الذي هو جزء منه - كما تقدّمت الإشارة إليه - وما هو الحقّ في الاعتقادات الفرعية المترتبة على تلك الأصول ممّا كان مبدأً للأعمال الإنسانية وعناوين لغاياتها ومقاصدها.
فالناس - مثلاً - يرون أنّ الأصالة لحياتهم المادّية حتّى قال قائلهم:
﴿.. مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ..﴾ الجاثية:24، والقرآن ينبّههم بقوله: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ..﴾ العنكبوت:64.
ويرون أنّ العلل والأسباب هي المولّدة للحوادث الحاكمة فيها من حياة وموت وصحّة ومرض وغنى وفقر ونعمة ونقمة ورزق وحرمان ﴿.. بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ..﴾ سبأ:33، والقرآن يذكّرهم بقوله: ﴿.. أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ..﴾ الأعراف:54، وقوله: ﴿.. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ..﴾ يوسف:67، وغير ذلك من آيات الحكمة.
ويرون أنّ لهم الاستقلال في المشيّة يفعلون ما يشاؤن والقرآن يخطّئهم بقوله: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ..﴾ الانسان:30.
ويرون أنّ لهم أن يطيعوا ويعصوا ويهدوا ويهتدوا، والقرآن ينبّئهم بقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ..﴾ القصص:56.
ويرون أنّ لهم قوّة، والقرآن ينكر ذلك بقوله: ﴿.. أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ..﴾ البقرة:165.
ويرون أنّ لهم عزّة بمال وبنين وأنصار، والقرآن يحكم بخلافه بقوله: ﴿.. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ النساء:139. وقوله: ﴿.. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ..﴾ المنافقون:8.
ويرون أنّ القتل في سبيل الله موت وانعدام، والقرآن يعدّه حياة إذ يقول: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ البقرة:154، إلى غير ذلك من التعاليم القرآنية التي أُمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أن يدعو إليها الناس، قال:
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ..﴾ النحل:125. وهي علوم وآراء جمّة صوّرت الحياة الدنيا خلافها في نفوس الناس، فنبّه تعالى لها في كتابه وأمر بتعليمها رسوله، وندب المؤمنين أن يتواصوا بها، كما قال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ..﴾ العصر:2-3، وقال: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ البقرة:269.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم