السيد منير الخباز
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾
انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في نقاط ثلاث:
• تفسير الآية والمباركة.
• بيان الهدف من الاختلاف.
• التعامل الموضوعي مع الاختلاف.
النقطة الأولى: تفسير الآية المباركة.
الآية المباركة تقول: ومن آياته الدالة على قدرته وإبداعه شيئان: الشيء الأول هو خلق السماوات والأرض، بما يضم هذا النظام الكوني من عجائب دقيقة، ومن فن رائع، والشيء الآخر هو الاختلاف، فما هو المقصود باختلاف الألسن والألوان؟ توجد تفسيرات ثلاثة لاختلاف الألوان، وكذلك اختلاف الألسن.
الجهة الأولى: ما معنى اختلاف الألوان؟
التفسير الأول: اختلاف درجات اللون.
اختلاف الألوان يعني: لا تجد شخصين، حتى ولو كانا توأمًا، لا تجد شخصين يتساويان في درجة اللون تمامًا، لا يوجد شخصان إلا وبينهما اختلاف في اللون، ولو كان اختلافًا ضئيلًا يحتاج إلى التدقيق لمعرفته، المهم أنه ليس هناك شخصان إلا وهما مختلفان في درجة من درجات اللون.
التفسير الثاني: اختلاف الصور.
إن المراد بالألوان الصور، وليس المراد باللون هو الشكل، اختلاف ألوانكم يعني اختلاف صوركم، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾، وكما قال تعالى: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾، ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ﴾. إذن، هناك اختلاف في قسمات الوجه، هناك اختلاف في معالم الوجه، حتى لو كان الشخصان توأمًا، حتمًا إذا دققت تجد بينهما اختلافًا في معالم الوجه وقسماته، اختلاف الصور هو المراد باختلاف الألوان.
التفسير الثالث: اختلاف الدم.
المسألة ليست مسألة شكل ولا صورة، بل هي أعمق من هذا. اختلاف ألوانكم المقصود به اختلاف الدم، اختلاف الحامض الكيميائي الذي يميّز هذا الدم عن غيره من الدماء، فمثلًا: كما هو الآن متعارف في مجال علم التشريح والفحص، إذا شكننا أن هذا ابن فلان أم ليس ابنه، منحدر من نطفته أم لا، يُفْحَص دمه، ومن خلال فحص هذا الحامض الكيميائي في دمه يتوصّل إلى معرفة أنه ابن فلان أو ليس ابنه، أو إذا اختلط الشخص، مثلًا: شخص أصيب بحادث احتراق أو تحطم، ولم يعرف شكله ولم تعرف هويته، نتيجة لاحتراقه أو نتيجة تلف وجهه، إذا لم يعرف يحدّد عن طريق فحص الدم، فمن خلال فحص دمه يعرف أن هذا فلان بن فلان، هذا من العائلة الفلانية. إذن المسألة وراء اختلاف اللون ووراء اختلاف الصورة هناك اختلاف أعمق من ذلك، وهو اختلاف الدم، اختلاف فصيلة الدم، اختلاف ما يتقوّم به هذا الجسد عن غيره، وهذا هو الاختلاف الأساس الذي عليه يتم التمييز.
الجهة الثانية: ما هو المراد باختلاف الألسن؟
التفسير الأول: اختلاف طريقة النطق.
أنا عندما أنطق أختلف عنك عندما تنطق. نحن عندنا فكرة معينة، وهي فكرة إمامة الإمام علي مثلًا، أقول لك: تكلم عن إمامة الإمام علي، وأنت تكلم، كل واحد عندما يتحدث تختلف طريقة نطقه وحديثه عن الشخص الآخر. الشخصان ولو كانا من أسرة واحدة من بيئة واحدة، توأم، مع ذلك ترى بينهما اختلافًا في طريقة الحديث والنطق. إذن المقصود باختلاف الألسن اختلاف طريقة النطق.
التفسير الثاني: اختلاف اللغات.
هناك لغة عربية، لغة إنجليزية، لغة فارسية، لغة سواحلية... اختلاف اللغات، كل لغة لها أصول معينة، تنطلق منها شرارة اللغة وتفاصيلها. اللغة الإنجليزية لها أصول وقواعد تنطلق منها شرارة اللغة، اللغة العربية لها أصول وقواعد تنطلق منها شرارة هذه اللغة، إذن اختلاف الألسن هو اختلاف اللغات، وليس المقصود به اختلاف طريقة النطق. لهذا تجد بحثًا موجودًا في علم اجتماع اللغة، هذا البحث يقول: ما هو منشأ اللغة؟ كيف نشأت اللغة عند الإنسان؟ طبعًا يذكر علماء الاجتماع نظريتين:
النظرية الأولى: نظرية الحاجة.
منشأ اللغات هي الحاجة الاجتماعية؛ فإن الحاجة أم الاختراع. لأن الإنسان احتاج إلى طريقة لقطع الطرق، اخترع السيارة والطيارة ووسائل النقل، ولأنه احتاج إلى أن يوصل رسالتَه إلى من هو أبعد منه، اخترع التلفون، فالحاجة أم الاختراع. إذن كما أن الإنسان اخترع وسائل الاتصال، واخترع وسائل النقل، كذلك أيضًا اخترع اللغة؛ لأن اللغة هي أداة التفاهم والتحاور، وهي أداة نقل الفكر للآخر، واستيعاب واستقبال الفكر من الآخر، فهي أداة الإرسال والاستقبال، ولذلك الإنسان اخترع اللغة، فاللغة اختراع من الإنسان.
النظرية الأخرى: نظرية الإلهام الإلهي.
الله «تبارك وتعالى» ألهم كل مجموعة من البشر أصول اللغة، ألهم مجموعة من البشر أصول اللغة العربية، فتكونت اللغة العربية، وألهم مجموعة أخرى من البشر أصول اللغة الإنجليزية، فانطلقت اللغة الإنجليزية، فاللغات لا ترجع إلى نظرية الحاجة، وإنما ترجع إلى نظرية الإلهام والمدد الإلهي. العلماء الذين يقولون بهذه النظرية - أن اللغة ترجع للإلهام الإلهي - يستندون إلى هذه الآية: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ أي: هو الذي قام بذلك، ﴿خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾، فاختلاف اللغات جاء من الله «تبارك وتعالى»، فإن هذا من آياته ومن دلائل عظمته الباهرة، أنه جعلكم تختلفون في اللغات، وهذا الاختلاف في اللغات مصدره الله «تبارك وتعالى»، هو الذي صار منشأ للاختلاف في اللغة.
التفسير الثالث: اختلاف طرق التفكير.
ليس المقصود باختلاف الألسن اختلاف طريقة النطق، وليس المقصود به اختلاف اللغات، بل المقصود به اختلاف طريقة التفكير. حتى يتضح مغزى هذا الكلام الدقيق، نذكر مطلبًا طرحه علماء الاجتماع، وهو أن التفكير الإنساني لغوي وليس تجريديًا. علماء الاجتماع في علم اجتماع اللغة - وهو فرع من فروع علم الاجتماع - يذكرون أن طريقة التفكير عند الإنسان طريقةٌ لغويةٌ وليست طريقةً تجريديةً. الإنسان لا يستطيع أن يفكّر في المعلومات بدون استخدام رموز، مستحيل، لا يستطيع. مستحيل أن يفكر الإنسان في معلومات معينة من دون استخدام رمز. أنت تريد أن تفكر في الإمام علي، من دون كلمة علي لا تستطيع التفكير في الإمام علي. أنت تريد مثلًا أن تفكر في مسألة اجتماعية، لا تستطيع أن تفكر فيها إلا من خلال ألفاظ ورموز تستذكرها. طريقة تفكير الإنسان طريقة رمزية لغوية، الإنسان إنما يفكر عبر الرموز والألفاظ، لا يستطيع أن يفكر تفكيرًا تجريديًا معرى من اللغات والرموز، لا يمكن، لماذا؟
الله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾. إذا أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، فمن أين حصلنا على المعلومات؟! ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، إذن الإنسان خرج من بطن أمه لا يملك معلومات، من أين اكتسب المعلومات؟ اكتسبها عن طريق الحواس، السمع ينقل له معلومات، البصر ينقل له معلومات، الحواس الأخرى تنقل له معلومات، فالحواس هي التي نقلت المعلومات لذهن الإنسان، وبعد أن انتقلت المعلومات إلى ذهنه بدأ الإنسان بالتفكيك بين المعلومات المتأصلة - كما يقول الفلاسفة - والمعلومات الانتزاعية، هذه حركة العقل وتمييزه بين المعلومات المتأصلة وبين والمعلومات الانتزاعية، بين البديهيات وبين النظريات، هذه حركة بعد أن أخذ المعلومات عن طريق الحس، بعد أن زوّده الحس بمعلومات، بدأ العقل بالتحرك في هذه المعلومات.
إذن أول عمل قام به الإنسان منذ أول يوم من ولادته، من أول لحظة يخرج الإنسان فيها من بطن أمه، يستخدم الإحساس، إحساس السمع، يسمع صوت أمه، صوت من حوله، ولهذا القرآن بدأ بالسمع: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾، أول حاسة تعمل هي السمع، وآخر حاسة تنتهي هي السمع. الميت قبل يبقى بعد موته ساعات وأيامًا يسمع، آخر حاسة تنتهي عند الإنسان هي حاسة السمع. إذن أول عمل قام به الإنسان أنه تزوّد بالمعلومات عن طريق السمع، وبعد أن تزوّد بالمعلومات عن طريق السمع والبصر والحواس الأخرى، بدأ عقله بالتحرك بين المعلومات، وتقسيمها إلى معلومات متأصلة ومعلومات انتزاعية، ومعلومات بديهية ومعلومات نظرية... وهكذا.
الإنسان بما أنه استفاد المعلومات من الخارج، المعلومات جاءت له عن طريق الحواس، هل وصلت له المعلومات من دون رموز؟ مستحيل، لا تصل إليك المعلومات إلا عبر رموز. أي معلومة معينة لا تصل إليك إلا من خلال رمز، لفظ أو صورة أو أي شيء آخر. مستحيل أن تصل إليك المعلومة إلا عن طريق رمز معين. تسمع كلمة ”علي“ أو كلمة ”ok“ أو كلمة ”good“ وهكذا اللغات المختلفة، فتصل لك المعلومات عن طريق رموز وألفاظ وإشارات معينة، وبعد أن تصلك المعلومات عن طريق الرموز يبدأ العقل بالتحرك في المعلومات، يستنتج المعلومات المجهولة من المعلومات المعروفة عنده، عملية الاستنتاج لا تتم إلا عبر الرموز؛ لأن المعلومات وصلت إليك عن طريق الرموز، بما أنها وصلت إليك عن طريق الرموز لا يمكن لعقلك أن يتحرك بين هذه المعلومات، ويصنع مقدمات، ويخرج منها إلى النتائج، لا يمكن لحركة العقل والاستنتاج - كما يقولون - ينطلق العقل من المعلومات إلى المجهولات، هذه الحركة كلها حركة رمزية، كلها حركة عبر الرموز، عبر اللغة، عبرة الألفاظ.
إذن طريقة التفكير عند الإنسان هي طريقة رمزية لغوية، وليست طريقة تجريديةً، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾، ليس البيان هو التحدث والكلام، بل: طريقة التفكير عنده طريقة بيانية رمزية، ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ أعطاه هذه الموهبة: أن حركة العقل عنده ضمن البيان، ضمن إطار اللغة، ضمن إطار الرموز. ولذلك تجد الفلاسفة يقولون: الإنسان حيوان ناطق، قد الإنسان لا يقبل، يقول: أنا حيوان! حيوان بمعنى أنك تشترك مع سائر الحيوانات في بعض العناصر، أنت تشترك مع سائر الحيوانات في الإحساس، كما أن باقي الحيوانات عندها إحساس أنت عندك إحساس، وتشترك مع بقية الحيوانات في الحركة الإرادية، فإذن أنت تشترك في بعض العناصر مع الحيوانات الأخرى، فأنت عندك عنصر حيواني، ”حيوان ناطق“، ما معنى ناطق؟ يعني متكلم؟!
لا، قد يكون الإنسان أخرس لا يتكلم، فليس المقصود بالناطق النطق اللساني الظاهري، بل المقصود به النطق الباطني العقلي، أي: طريقة التفكير، كما ذكرنا أن طريقة التفكير طريقة رمزية لغوية بيانية، إذن أنت حيوان ناطق بمعنى أن عقلك بُرْمِج، الله برمجه هكذا، عقله بُرْمِج على أن يفكّر من خلال الألفاظ، ومن خلال الرموز، وهذا هو المائز بين الإنسان وغيره من الحيوانات الأخرى.
بعد أن نفهم هذا المعنى يتضح لنا تفسير الآية المباركة. اختلاف الألسن معناه اختلاف طرق التفكير؛ لأن طرق التفكير هي طرق لسانية، بمعنى أنها طرق رمزية ولغوية، وأنتم تختلفون في طرق التفكير، ويستحيل أن ترى إنسانًا كالآخر في طريقة التفكير، يستحيل إطلاقًا؛ لأن اختلاف البيئة يفرض اختلافًا في التفكير، واختلاف التربية يفرض اختلافًا في التفكير، واختلاف القدرة الذهنية يفرض اختلافًا في التفكير، واختلاف البنية التي يعيش عليها الإنسان يفرض اختلافًا في التفكير. إذن البشر يختلفون في طريقة التفكير، البشر جميعًا يختلفون في طرق التفكير، فالمقصود باختلاف الألسنة اختلاف طرق التفكير بين أبناء البشر.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع