قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

يوم لا تسمع إلا همساً


الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تتناول الآيات الشريفة من 105 حتى 112 من سورة طه أحد الأسئلة القرآنية حيث يقول تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾(طه: 105-112).
1- نسف الجبال
يُفهم من الآية الأولى أنَّ الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله حول مصير الجبال عند نهاية الدنيا، إذ لعلَّهم لم يكونوا يصدقون أن تنهار موجودات عظيمة لها جذور في أعماق الأرض ومرتفعة إلى السماء أو تكون قابلة للتزلزل، وإذا حلَّ بها ذلك فما هي تلك الريح العظيمة أو العاصفة الهوجاء أو الطوفان الكبير الذي يقوم بذلك؟ لذا يقول تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ﴾. فيقول في الجواب: ﴿فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾. ومن مجموع الآيات القرآنية حول مصير الجبال نستفيد ما يلي: على أعتاب القيامة تمرُّ الجبال بمراحل مختلفة هي: أولاً: مرحلة الرجفة: حيث يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾(المزمل: 14). وفي المرحلة الثانية: مرحلة السير والحركة: يقول تعالى: ﴿وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا﴾(الطور: 10). في المرحلة الثالثة: مرحلة التلاشي والتحوّل إلى ركام من الرمل: حيث يقول تعالى: ﴿وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا﴾(المزمل: 14). وفي المرحلة الأخيرة: تقوم الرياح والعواصف بتحريكها من أماكنها ونشرها في السماء كالعهن المنفوش (أي الصوف المفرَّق): حيث يقول تعالى: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾(القارعة: 5).
2- استواء الأرض
ثمَّ تذكر الآية بعد ذلك، أنَّ الجبال بعد أن تتلاشى وتتذرّى ذراتها في الفضاء فإنَّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا﴾(طه: 106) أي: إنَّ سطح الأرض يتحوَّل إلى أرض مستوية بلا ماء أو نبات، بحيث لا يوجد فيها أي اعوجاج أو تضاريس يمكن ملاحظتها، ويقول تعالى: ﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾(طه: 107).
3- دعوة يوم الحشر
وفي هذه الأثناء يدعو داعي الله عزّ وجلّ الناس إلى الحياة والجمع في المحشر والحساب، فيجيبون هذا الداعي بدون أي تباطؤ أو تقصير ويتَّبعونه، يقول تعالى واصفاً ذلك: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ﴾. فهل هذا الداعي هو إسرافيل أو ملاك آخر من ملائكة الله عزّ وجلّ؟ لم يحدَّد ذلك الملاك في القرآن بشكل دقيق، ولكن بغضِّ النظر عمَّن يكون، فإنّ أمره نافذ بحيث لا يستطيع أحد مخالفته. وإنَّ جملة (لا عوج له) من الممكن أن تكون وصفاً لدعوة هذا الداعي أو أن تكون وصفاً لأتباع من سمع نداء هذا الداعي أو وصفاً لكليهما. ومن اللطيف أنَّه كما أنَّ سطح الأرض يصبح مستوياً بدون أقل اعوجاج أو تضاريس، فإنَّ الدعوة الإلهية تكون مستقيمة وواضحة بدون أي انحراف، واتباع هذا النداء الإلهي يكون كذلك بحيث لا يجد أي انحراف أو طريق له.
4- الخشوع للرحمن
عندها يحدث ما يلي: يقول تعالى: ﴿وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾(طه: 108). وإنّ هذا الصمت ليس إلا نتيجة سيطرة العظمة الإلهية على مشهد الحشر، حيث يخضع لها الجميع، أو يكون السبب الخوف من الحساب والكتاب ونتيجة الأعمال أو يكون سبب هذا الصمت المطبق كلاهما معاً.

الشفاعة كنز الآخرة
هل من الممكن للأشخاص الذين ارتكبوا المعاصي أن ينالوا الشفاعة من قبل شفعائهم؟ هنا يأتي الجواب مستقيماً بقوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ وفي ذلك إشارة إلى أنَّ الشفاعة لا تأتي عبثاً بل بناء على برنامج دقيق يشمل الشفيع والمشفَّع له، إذ لا معنى للشفاعة إذا لم يكن بعض الناس أهلاً لتلك الشفاعة.
والحقيقة تكون كما يلي:
إنَّ هناك مجموعة من الناس عندهم تصوّرات خاطئة عن الشفاعة، ويشوِّهونها بما يجري في الدنيا من المحسوبيات، في حين أنَّ الشفاعة في المنطق الإسلاميّ مدرسة عليا في التربية، هي تربية لهؤلاء الذين يطوون طريق الحق بالسعي والعمل والجد، وفي سعيهم هذا قد يصابون ببعض الزلاّت والنقائص التي يمكن أن تؤدي إلى إصابة قلوبهم بغبار اليأس. عندها تأتي الشفاعة محرِّكة لهم لتقول لهم: (لا تيأسوا واستمروا في طريق الحق، ولا تتخلّوا عن سعيكم وجهادكم في هذا الطريق، وإذا بدرت منكم زلّة ما، فهناك شفعاء بإذن الله عزّ وجلّ يقومون بالشفاعة لكم من قبل الله الذي تشمل رحمته كافة الناس). فالشفاعة ليست دعوة إلى الكسل أو الهروب من تحمّل المسؤولية أو ضوءاً أخضر لارتكاب المعاصي والذنوب، إنَّ الشفاعة هي دعوة للاستقامة في طريق الحق وتقليل المعاصي قدر الإمكان.

* العدل الإلهي
وفي الآية التالية يضيف الله عزّ وجلّ ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾، وبهذا الترتيب فإنَّ إحاطة علم الله عزّ وجلّ تكون بأعمالهم وجزاء تلك الأعمال، وهذان الأمران في الحقيقة ركنان أساسيان للحكم الكامل والعادل حيث يجب على القاضي أن يكون على دراية كاملة بالأحداث بالإضافة إلى أحكامها وعقوباتها. وفي الآية التالية يقول تعالى: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾ و(عَنَتَ) من مادة (عنو) بمعنى الخضوع والذلَّة ولذلك يُطلق على الأسير لفظ (العاني) لأنه في أسره خاضع وذليل. ونلاحظ أنَّه تعالى قد نسب الخضوع للوجوه؛ لأنَّ جميع آثار الظواهر النفسية في الإنسان أول ما تظهر في صفحة وجهه ومنها الخضوع. وقد ذكر بعض المفسِّرين احتمالاً آخر بأنّ الوجوه في هذه الآية بمعنى الرؤوساء، إذ إنَّ جميع الخلق عند الله عزّ وجلّ في ذلك اليوم يكونون أذلاء وخاضعين ولكن التفسير الأوَّل هو الأنسب برأينا. وإنَّ اختيار صفة (الحي والقيوم) من بين صفات الله عزّ وجلّ وقع بسبب التناسب بين هاتين الصفتين ويوم القيامة حيث يكون يوم الحياة والقيام لجميع الناس.
* الظلم مقبرة الإيمان
وفي ختام الآية يضيف تعالى ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾. وكأنَّ الظلم حمل ثقيل عظيم على ظهر الإنسان يثقل كاهله ويمنعه من التقدّم نحو النعم الإلهية الخالدة، وإنَّ الظالمين بسبب ظلمهم أنفسهم أو الآخرين حينما يرون بأعينهم ذلك اليوم الذي قد خفَّت فيه كواهل بعض الناس من الذنوب يمضون إلى الجنة، أما من يُدفعون إلى جهنم تحت تأثير ثقل ظلمهم فإنَّهم يلقون نظرة حسرة إلى هؤلاء! وبما أن الأسلوب القرآني غالباً ما يتخذ الأسلوب التطبيقي في طرح المسائل، فإنَّه يذكر حال المؤمنين بعد ذكر مصير الظالمين والمجرمين في ذلك اليوم حيث يقول: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ (1). وإنَّ تعبير هذه الآية بالقول (من الصالحات) إشارة إلى أنَّهم لم يستطيعوا أن يقوموا بجميع الأعمال الصالحة حيث قاموا بجزء منها على الأقل لأنَّ الإيمان بدون عمل صالح كشجرة بلا ثمرة، كما أنَّ العمل الصالح بدون إيمان كالشجرة التي لا أصل لها، إذ من الممكن أن تبقى عدَّة أيام وتستمرّ ولكنها في النهاية تجفّ ولذا فإنَّ الله عزّ وجلّ في هذه الآية ذكر العمل الصالح مقيداً بقوله (وهو مؤمن).
* الفرق بين الظلم والهضم
ذكر بعض المفسِّرين أنَّ في (الظلم) إشارة إلى عدم خوف هؤلاء عندما تقام المحكمة الإلهية العادلة من أن يحيق بهم ظلم أو يؤاخذوا بمعاص وذنوب لم يرتكبوها، في حين أن في (الهضم) إشارة إلى أنَّهم لا يخافون من نقصان ثوابهم، لأنهم يعلمون أنَّ جزاءهم سوف يصلهم بدون نقص.
وقد ذكر آخرون احتمالين آخرين:
الأول: إشارة إلى أنَّهم لا يخشون ولا يخافون من ذهاب كل حسناتهم، أما الثاني: فإشارة إلى أنّهم لا يسمحون للخوف بأن يأخذ طريقه إلى قلوبهم حتى من نقص مقدار قليل من تلك الحسنات، لأنَّ الحساب الإلهي دقيق. كما يوجد احتمال آخر وهو أنَّ هؤلاء المؤمنين الصالحين يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا زلات، وهم على يقين من أنَّ الله تعالى لا يكتب في صفحة أعمالهم أكثر من تلك الزلات التي ارتكبوها، وأنَّ هذه الزلات لا تقلّل من ثواب أعمالهم الصالحة شيئاً.

مراحل القيامة أو يوم الساعة
في الآيات المذكورة أعلاه إشارة إلى سلسلة الحوادث التي تحدث عقب يوم القيامة وبعد قيامها وهي:
1- إحياء الموتى ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ﴾.
2- حشر المجرمين والعاصين ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ﴾.
3- تلاشي الجبال وتفتتها واستواء سطح الأرض ﴿يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾.
4- استجابة الجميع لأمر الدعوة الإلهية وسيادة الصمت على الجميع ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾.
5- في ذلك اليوم لا تأثير لأية شفاعة بدون إذن الله ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾.
6- يهيئ الله عزّ وجلّ جميع خلقه للحساب بعلمه اللامحدود ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾.
7- خضوع الجميع لحكمه ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾.
8- يأس الظالمين ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾.
9- تأميل المؤمنين بلطف الله عزّ وجلّ ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾.
ــــــــ
(1) الهضم في اللغة بمعنى النقص، وعندما يُطلق على هضم الطعام في البدن كذلك فلأنه يقل ظاهرياً وتبقى منه الثقالة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد