السيد محمد حسين الطباطبائي
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ...﴾
الإنفاق من أعظم ما يَهتمّ بأمره الإسلامُ في أحد رُكنَيه وهو حقوق الناس، وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً، من طريق الزكاة، والخمس، والكفارات الماليّة، وأقسام الفِدية، والإنفاقات الواجبة، والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسُكنى والعُمرى والوصايا، والهبة، وغير ذلك.
وإنّما يريد الإسلام بذلك ارتفاعَ سطح معيشة الطبقة (الفقيرة)، التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمدادٍ ماليٍّ من غيرهم، ليقرّب أُفقهم من أُفق أهل النعمة والثروة. ومن جانبٍ آخر قد مَنع من تظاهر أهل الطبقة (المترفة) بالجمال والزينة في مظاهر الحياة - بما لا يقرب من المعروف، ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس - بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.
وكان الغرضُ من ذلك كلّه إيجادَ حياة نوعية متوسّطة متقاربة الأجزاء، متشابهة الأبعاض، تُحيي ناموس الوحدة والمعاضدة، وتُميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النِّعَم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.
ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعية المتشابهة في طِيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكملُ ذلك إلا بالجهات الماليّة والثروة والقِنية [أي المِلك]، والطريقُ إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنَوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فـ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...﴾، و﴿.. إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ..﴾، والمال ماله.
وهذه حقيقةٌ أثبتت السيرةُ النبويّة - على صاحبها أفضل التحيّة - صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في بُرهة من الزمان، وهي زمان حياته، صلّى الله عليه وآله، ونفوذ أمره. وهي التي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرُ المؤمنين عليّ عليه السلام، إذ يقول: «.. وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لا يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إِلاَّ إِدْبَاراً، وَلا الشَّرُّ فِيهِ إِلاَّ إِقْبَالاً، وَلا الشَّيْطَانُ فِي هَلاكِ النَّاسِ إِلاَّ طَمَعاً، فَهَذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ، وَعَمَّتْ مَكِيدَتُهُ، وَأَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ، اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً، أَوْ بَخِيلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللهِ وَفْراً، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً..».
داء الدنيويّة
وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن الكريم في نظريّته هذه - وهي تقريبُ الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق، ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة، واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوفُ الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب أُولي القوّة والثروة، ولم يبقَ بأيدي النمط (الأدنى) إلّا الحرمان، ولم يزل النّمط الأعلى (مالياً واقتصادياً) يأكل بعضُه بعضاً، حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزْرٌ قليل من الناس، وسُلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميعَ الرذائل الخُلقيّة من الطرفين، ﴿.. كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ..﴾ (الإسراء:84) لا يُبقي ولا يذَر، فأنتج ذلك التقابلَ بين الطائفتين، واشتباكَ النزاع والنزال بين الفريقين، والتنافر بين الغنيّ والفقير والمُنعَم والمحروم، والواجد والفاقد، ونشبت الحربُ العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهُجرت الحقيقة والفضيلة، وارتحل السكَن والطُّمأنينة وطيبُ الحياة من بين النوع، وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنساني، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظمُ وأفظع.
ومن أعظم العوامل في هذا الفساد، انسدادُ باب الإنفاق وانفتاحُ أبواب الرّبا، الذي سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آياتٍ تاليةٍ لآيات الإنفاق [ابتداء من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ..﴾ البقرة:275]، ويَذكر أنّ في رواجه فسادَ الدنيا، وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن، فوضعته حاملُ الدنيا في هذه الأيّام.
وإن شئتَ تصديقَ ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾. إلى أن قال عزّ وجلّ: ﴿فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾.
إلى أن قال تبارك وتعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾.
وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تُنبئ عن هذا الشأن؛ وبالجملة: هذا هو السبب فيما يتراءى من هذه الآيات، أعني آيات الإنفاق، من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع