افتتح العلامة آية الله السيد منير الخباز في شهر ربيع الآخر لعام ١٤٤٤هـ، درس تفسير القرآن في مدينة النجف الأشرف، بتفسير سورة لقمان وناقش في الدرس الأول ظاهرة الحروف المقطعة في القرآن الكريم في أوائل السور، وكان التفسير الأول من ضوء المستفاد من الروايات الشريفة الواردة في هذا الخصوص.
نص الدرس المحرر من موقع المنير:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿الم «1» تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ «2»﴾ [لقمان: 1 - 2]
صدق الله العلي العظيم
إن هذه السورة الشريفة تتضمن عدة مطالب كلامية وتحليلية وأخلاقية، ولذا اخترنا التعرض لها ابتداءً، كما أننا لم نتعرض إلى اختلاف المناهج التفسيرية، وسنتعرض لها في ضمن الدروس الآتية إن شاء الله تعالى. وسنتناول في هذه السورة - بعونه تعالى - عدة بحوث تباعاً.
البحث الأول: حول الحروف المقطعة.
حيث ابتدأت السورة المباركة بقوله تعالى: ﴿الٓمٓ﴾، كان مناسبا أن نستهل أبحاث هذه السورة المباركة بالبحث حول الحروف المقطعة في القرآن الكريم، ولاستيعاب هذا البحث نطرح عدة محاور:
المحور الأول: هل أن الحروف المقطعة من صميم الوحي أم هي من الإضافات؟
ذكر بعض المستشرقين[1] أن الحروف المقطعة من قبيل: «ألم، حم، عسق» وغيرها ليست جزءاً من الوحي، بل هي إضافات ألحقت بالقرآن بمرور الأيام، وأنها رموزٌ لمصاحف بعض الصحابة، فمثلاً «كهيعص» هو رمز لمصحف ابن مسعود، و«حم، عسق» رمز لمصحف ابن عباس، و«طس» رمز لمصحف ابن عمر وهكذا. إلا أن المسلمين بمرور الأيام غفلوا عن رمزية هذه الحروف فدخلت هذه الحروف المقطعة ضمن آيات القرآن الكريم واحتسبت على أنها من الوحي، وهي ليست كذلك.
هذا حاصل ما ذكره هذا المستشرق، إلا أن دعواه واضحة الفساد والسقم، وذلك لعدة ملاحظات:
الملاحظة الأولى:
إنه عند مراجعة النسخ القديمة للقرآن الكريم، لا سيما أقدم نسخة منسوبة له، كالنسخة الموجودة في متحف السلطان أحمد بإسطنبول، وفي برمنغهام في بريطانيا، والتي يعود تاريخها إلى عام خمس وعشرين للهجرة.
وقد قرّر المتخصصون بدراسة المخطوطات القديمة أن الحبر المستخدم في تلك النسخة بالإضافة لنوع الورق يدل على أنها تعود إلى النصف الأول من القرن الأول الهجري، وإذا لوحظت هذه النسخة نجدها مشتملة على هذه الحروف المقطعة، وهذا شاهد على أن هذه الحروف من القرآن نفسه، لا أنها صارت جزءاً من القرآن بمرور الأيام نتيجة غفلة المسلمين عن رمزيتها لبعض مصاحف الصحابة، خصوصا وأن أصحاب هذه المصاحف كانوا موجودين في زمن كتابة هذه النسخة.
الملاحظة الثانية:
من غير المحتمل لدى العرف العقلائي العام أن المسلمين الذين دأبوا منذ القرن الأول على الاهتمام الشديد بالقرآن الكريم عن طريق حفظه وتلاوته وتدبره بحيث لم يمر جيل على المسلمين إلا والقرآن معهود عندهم من أوله إلى آخره، وكانوا يتسابقون في حفظه ويفتخرون بوجود الحفظة في كل جيل أنهم غفلوا عن عدم علاقة هذه الحروف بآيات القرآن، وإنما هي رموز لمصاحف بعض الصحابة.
والحاصل: أن تنبه هذا المستشرق لمثل هذه الدعوى وغفلة المسلمين عنها - مع الحالة التي كانوا عليها وذكرناها آنفا - يكشف عن وهنها وعدم معقوليتها في حد نفسها، خصوصا مع عدم إقامته لأي قرينة تاريخية أو أدبية على مدعاه.
الملاحظة الثالثة:
أن إقحام هذه الحروف داخل القرآن - لو لم تكن من القرآن - عمل قصدي عمدي كما هو ظاهر، فلا يحتمل فيه أن يصدر بنحو الغفلة، لا سيما مع ملاحظة كونها في بدايات السور، وتكررها في تسعة وعشرين سورة، وأنها ظاهرة مبهمة تثير التساؤل، ولأجل هذا فليس من المعقول أن يكون إقحامها غفلةً ونسيانا، بل لو لم تكن من القرآن الكريم وأقحمت فيه فإنها لا بد وأن تكون فعلاً عمدياً قصدياً، وإذا كان اقحامها كذلك فلا يتصوّر له هدف إلا من باب تعريض القرآن للتحريف والزيادة، ومن يكون غرضه هو هذا فلن يلجأ إلى زيادات واضحة ليفتضح أمره وينتقض غرضه، بل سيلجأ إلى زيادات تكون خفية، كالزيادات في وسط السور، وبكلمات تكون منسجمة مع الطابع العام لمفردات القرآن لكيلا يُلتفت إلى كونها زيادة وتحريفا، وأما أن يلجأ إلى الزيادة بحروف واضحة في أوائل تسعة وعشرين سورة فهذا مما لا يقوم به عاقل يريد الوصول إلى غرض معين.
والمتحصل: أن هذه الدعوى لا وجه لها.
المحور الثاني: هل الحروف المقطعة تنسجم مع كون القرآن كتاب بيان وهداية؟
هناك سؤال يطرحه الكثير من القراء للقرآن الكريم وهو أن الحروف المقطعة هل تنسجم مع كون القرآن كتاب بيان وهداية، بلحاظ أن هذه الحروف المقطعة مبهمة المعنى وغامضة المضمون فكيف تنسجم مع ما وصف به القرآن نفسه حيث قال في سورة الشعراء: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ192 نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ193 عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ194 بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ195﴾.
وقالت في الآية أخرى: ﴿وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ89﴾ «النحل».
وقال في آية ثالثة: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا9﴾ «الإسراء».
فإذا كان القرآن كتاباً مبيناً وهادياً ومرشداً فهل ينسجم معه أن تذكر فيه حروف غامضة المعنى مبهمة المضمون لا يعرف تأويلها ولا تفسيرها إلا بالرجوع إلى النبي نفسه.
ويمكن الإجابة عن ذلك بعدة وجوه:
الوجه الأول:
أن البيان الذي ذكر في القرآن الكريم هو وصف للفظ وليس وصفاً للمعنى، ففي قوله تعالى في سورة الشعراء: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ192 نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ193 عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ194 بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ195﴾ ذُكر البيان وصفا للسان وليس وصفاً للمعنى، فلا تنافي بين أن يكون اللسان واضحا وأن يكون المعنى مبهماً وغامضاً.
ومما يؤكد ذلك ما تضمنته بعض الآيات من أن القرآن الكريم فيه جميع المعلومات المطلوبة للإنسان ومع ذلك فهي بالوجدان مما لا يمكن استخراجها من الألفاظ البينة والعبارات الواضحة في القرآن الكريم، مثلاً قوله عز وجل: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ38﴾ «الأنعام»، والآية السابقة - ﴿تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ﴾ - فهل يمكن استنتاج المضامين كلها من الكتاب بعبارات واضحة لدى القارئ؟ أو يجتمع ذلك مع غموض بعض هذه المعاني؟
والنتيجة: أنه لا يستفاد من الآيات القرآنية جميعها أن كل مضامين القرآن كانت واضحة كي تتنافى مع وجود الحروف المقطعة.
الوجه الثاني:
أن هذا الإشكال كما يأتي في الحروف المقطعة يأتي على الآيات المتشابهة، حيث صرح القرآن بوجود آيات متشابهات فقال عز من قائل: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ7﴾ «آل عمران 7».
فكيف يجمع بين وجود الآيات المتشابهات وبين كون القرآن كتاب بيان واضح وهداية وإرشاد؟
والصحيح أن الجمع بين هذه الآيات وما دلّ على كون القرآن بياناً واضحاً يدلنا على أن فهم القرآن الكريم له درجات ومراتب، وأن العرف العام يمكنه فهم القرآن ببعض مراتبه، فهو بالنسبة إليه كتاب هداية، لكن أعلى درجاته لا يمكن الوصول لها من قبل قارئ القرآن الكريم، وإنما يحتاج فهمها إلى الرجوع إلى أهل القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ7﴾ «آل عمران 7».
وقال في آية أخرى في سورة العنكبوت: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ48 بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بَِٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ49﴾، وهو ما أكد عليه حديث الثقلين: «إني تارك فيكم كتاب الله وعترة أهل بيتي».
مما يعني أن في البين هدفاً من وجود الآيات المتشابهات والحروف المقطعة، وهو إرجاع الأمة في فهم القرآن الكريم بالدرجة الموثوق بها إلى أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».
بل إن نفس القرآن يصرح أن القرآن يحتاج إلى تعليم قال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ2﴾ «الجمعة 2».
فوجود الآيات متشابهة والحروف المقطعة إنما هو لربط الأمة بعلمائها، وهم أهل بيت النبوة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».
الوجه الثالث:
بما أن القرآن كتاب نزل من قبل الله فلا بد في تحديد كيفية تناوله والتعامل معه من الرجوع إلى الله عز وجل، والمعاملة التي أمر الله بالتعامل بها مع القرآن ما هي؟
إن الله تعالى لم يأمر بمجرد قراءة القرآن وانما أمر بالتدبر، فقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا82﴾ «النساء 82» وقال في سورة محمد: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰٓ أَبۡصَٰرَهُمۡ23 أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ24﴾.
وبما أن المعاملة التي أمر المسلم بأن يتعامل بها مع القرآن هي التدبر، وهو عبارة عن بذل الجهد والتفكير في سبيل الوصول إلى حقائق القرآن الكريم، فمن مصاديق هذا السنخ هو بذل الجهد والتفكير في فهم مضامين الحروف المقطعة والآيات المتشابهة والمضامين الغامضة كي يتحقق عنوان التدبر والتأمل.
الوجه الرابع:
لا دلالة في الآيات السابقة على أن القرآن واضح بتمام آياته، بمعنى أنه لا دلالة لها على وضوحه بنحو العموم الاستغراقي، وإنما هو واضح مبين على نحو العموم المجموعي، بمعنى أن هناك الكثير من آيات القرآن الكريم وهي التي ترتبط بحياة المسلم من حيث المبدأ والمعاد، والتزود في الطريق بينهما بالتقوى والأخلاق العالية وأخذ العظة والعبرة من ظواهر الكون وقصص السابقين آيات واضحة، لكن هذا لا ينافي أن الكثير من آياته مما يرتبط بالحقائق الملكوتية وبعض القوانين الشرعية وصفات بعض المرسلين مما يحتاج إلى التدبر والتفسير بالرجوع الى أهل البيت «صلوات الله عليهم أجمعين».
المحور الثالث: في تفسير هذه الحروف المقطعة.
ذكر بعض المفسرين ستا وعشرين تفسيراً لهذه الحروف، وزاد بعض آخر فأوصلها إلى ست وثلاثين تفسيراً، ومن تلك التفسيرات التي ذكروها:
أنها أسماء للسور، فحينما تبدأ السورة بحرف القاف أو النون أو غير ذلك فإن اسمها يكون على ذلك الحرف الذي ابتدأت به.
ومنها: أنها أدوات تنبيه وإثارة وتسكيت وردع للكفار، فإن الكفار كانوا إذا سمعوا الآيات القرآنية أثاروا ضجة لكيلا يفهمه ولا يسمعه أحد، وقد حكى القرآن عن هذه الحالة التي كانت عندهم، فقال: ﴿لَا تَسۡمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَٱلۡغَوۡاْ فِيهِ﴾ أي أثيروا الضوضاء أمامه حتى لا تتأثروا به، فأراد الله تعالى أن يسكتهم فوضع هذه الحروف في بعض السور لتكون أداة إثارة واستغراب وإخماد لهم، فحينما يستمعون إليها وهي مبهمة الدلالة يضطرهم هذا إلى السكوت والتساؤل عن معناها، وإذا حصل سكوتهم، أكمل النبي تلاوة بقية السورة فيحصل الأثر المنشود من تلاوته.
هذان تفسيران قد ذكرهما جملة من المفسرين، ويوجد غيرهما كما أسلفنا، ولكن توجد تفسيرات أخرى هي الأقرب وهي على أنحاء ثلاثة:
النحو الأول: عدة مضامين ومعاني مستفادة مما ورد في الروايات الشريفة عن أهل البيت .
وهذه الروايات وإن كانت ضعيفة الأسانيد، إلا أنه مع ملاحظة تعدد طرق الشيخ الصدوق «عليه الرحمة» إليها - فقد نقلها في معاني الأخبار وكذلك العلل والخصال - يحصل الوثوق والاطمئنان بصدور بعضها عن الأئمة الهداة ، وإن كان كل واحد منها ضعيف السند.
المعنى الأول: أن هذه الحروف إشارة إلى الاسم الأعظم.
روى الشيخ الصدوق في معاني الأخبار بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله أنه قال: «”ألم“ هو حرف من حروف اسم الله الأعظم، المقطع في القرآن، الذي يؤلفه النبي والإمام فإذا دعا به أجيب» [2] .
قال صاحب الميزان «عليه الرحمة» معلقاً على هذه الرواية: «أقول: كون هذه الحروف المقطعة من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن مروي بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وغيره، وقد تبين في البحث عن الأسماء الحسنى في سورة الأعراف أن الاسم الأعظم الذي له أثره الخاص به ليس من قبيل الألفاظ، وأن ما ورد مما ظاهره أنه اسم مؤلف من حروف ملفوظة مصروف عن ظاهره بنوع من الصرف المناسب له» [3] .
ويمكن أن نعلق على كلامه «قدس سره» ونقول: لما دلت الروايات الشريفة على أن هذه الحروف من اسم الله الأعظم، وأن المعصوم هو من يقوم بجمعها بنحو يدعو به وتجاب دعوته، فمقتضى ظاهر هذه الروايات أن للاسم الأعظم وجوداً ملكوتياً حقيقياً ووجوداً لفظياً، فلا وجه لصرف هذه الآيات عن ظاهرها، كما يمكن أن يكون معنى هذه الروايات الشريفة أن هذه الحروف مظاهر لاستثارة الوجود الملكوتي للاسم الأعظم، حيث إن الاسم الأعظم أمر ملكوتي يتصل به المعصوم اتصالاً حضورياً وليس اتصالاً حصولياً، بمعنى أن المعصوم لا يتصور الاسم الأعظم في ذهنه فيحضر، بل يتصل به اتصالاً حضورياً، من قبيل اتصالنا بأنفسنا وأفكارنا وخواطرنا، حيث لا نحتاج في هذا الاتصال إلى أن نتصورها لتحضر، بل اتصالنا بأفكارنا وخواطرنا هو عبارة عن ظهورها في أفق النفس، واتصال المعصوم بالاسم الأعظم هو من هذا القبيل.
المعنى الثاني: أن هذه الحروف إشارة إلى أسماء الله الحسنى.
روى الشيخ الصدوق في معاني الأخبار بإسناده عن سفيان بن السعيد الثوري أنه قال: «قلت لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : يا ابن رسول الله ما معنى قول الله عز وجل:
”ألم“ و”المص“ و”الر“ و”المر“ …إلى أن قال: قال : أما ”ألم“ في أول البقرة فمعناه: أنا الله الملك، وأما ”ألم“ في أول آل عمران فمعناه: أنا الله المجيد، و”المص“ فمعناه: أنا الله المقتدر الصادق، و”الر“ فمعناه: أنا الله الرؤوف، و”المر“ فمعناه: أنا الله المحيي المميت الرازق…» [4] .
وقد يتصور أن بين هذه الرواية وسابقتها - التي دلت على أن الحروف المقطعة إشارة إلى الاسم الأعظم - نحو تنافٍ، إلا أنه بالتأمل فيهما يرتفع التنافي المتوهم، وبيان ذلك:
أن الاسم الأعظم مبدأ صفات أفعاله تبارك وتعالى، وبما أنه كذلك فإنه يكون جامعاً لسائر أسماء أفعاله تبارك وتعالى، فالمعاني التي ذكرت في الرواية الثانية من قبيل: أنا الله الملك، وأنا الله المحيي المميت الرازق تكون مندرجة تحت الاسم الأعظم بهذا اللحاظ فلا تناف بين هذين الصنفين من الروايات.
المعنى الثالث: أنها إشارة إلى عدد سنين حكم الإسلام.
روى الشيخ الصدوق في معاني الأخبار بإسناده عن محمد بن قيس قال: «سمعت أبا جعفر يحدث أن حيياً وأبا ياسر ابني أخطب ونفراً من يهود أهل نجران أتوا رسول الله فقالوا له: أليس فيما تذكر فيما أنزل الله عليك ”ألم“؟ قال: بلى. قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند الله تعالى؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعثت أنبياء قبلك وما نعلم نبيا منهم أخبرنا مدة ملكه وما أجل أمته غيرك، قال: فأقبل حيي بن أخطب على أصحابه فقال لهم: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون. فهذه إحدى وسبعون سنة، فعجب ممن يدخل في دين مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة! قال: ثم أقبل على رسول الله فقال له: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال هاته، قال: ”المص“ قال: هذه أثقل وأطول، ”الألف“ واحد، و”اللام“ ثلاثون، و”الميم“ أربعون، و”الصاد“ تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. ثم قال لرسول الله : فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: هاته. قال : ”الر“ قال: هذه أثقل وأطول. ”الألف“ واحد و”اللام“ ثلاثون، والراء ”مائتان: ثم قال لرسول الله : فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: هاته. قال:“ المر " قال: هذه أثقل وأطول.
”الألف“ واحد، و”اللام“ ثلاثون، و”الميم“ أربعون، و”الراء“ مائتان. ثم قال له: هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قالوا قد التبس علينا أمرك فما ندري ما أعطيت! ثم قاموا عنه، ثم قال أبو ياسر للحيي أخيه: ما يدريك. لعل محمدا قد جمع له هذا كله وأكثر منه…» [5] .
وهذه الرواية يُفهم منها أن علماء اليهود قد فهموا من هذه الحروف أن كل حرف يشير إلى عدد معين من سنين حكم الإسلام، فبحسب علم الحروف كل حرف يشير إلى عدد معين، وبضم الحروف مع بعضها ينتج عدد سنين حكم الإسلام بحسب فهمهم، والنبي وإن لم يقر لهم على ما فهموه إلا أنه لم ينكر ذلك أيضا.
إن قلت: ألا تتنافى هذه الرواية مع الروايتين السابقتين؟
قلت: لا يوجد تنافٍ في البين، وذلك لأن الحروف المقطعة لها حيثيتان: حيثية المادة وحيثية المضمون، فهي من حيث مضمونها تشير إلى أسماء الله تبارك وتعالى، ومن حيث المادة تعني عدداً معيناً.
إلا أن المستفاد مما رُوي في ذيل الرواية عدم إمضاء ما فهمه اليهود، «قال: فذكر أبو جعفر أن هذه الآيات أنزلت فيهم منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات. قال: وهي تجري في وجه آخر على غير تأويل حيي وأبي ياسر وأصحابهما».
المعنى الرابع: أنها حروف تتضمن عدة معاني مختلفة.
فقد ورد أن بعضها إشارة إلى أسماء النبي ، كما عن مجمع البيان: «عن النبي لما نزلت طسم قال: الطاء طور سيناء وسين الإسكندرية والميم مكة. وقيل: الطاء شجرة طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد المصطفى «صلى الله عليه وسلم».
وكما ورد في الخصال حيث نقل الشيخ الصدوق بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر قال: «إن لرسول الله عشرة أسماء خمسة منها في القرآن وخمسة ليست في القرآن، فأما التي في القرآن: فمحمد وأحمد وعبد الله ويس ونون، وأما التي ليست في القرآن فالفاتح والخاتم والكافي والمقفى والحاشر» [6] .
ويمكن الإشارة إلى أن تضمن هذه الروايات عدة معاني مختلفة هو من قبيل الجمع بين الظاهر والباطن، وهو مفاد جملة من الروايات:
نحو ما ورد عن أبي جعفر : أن رجلاً قال له: أنت الذي تقول: ليس شيء من كتاب الله إلا معروف، قال: ليس هكذا قلت إنما قلت: ليس شيء من كتاب الله إلا عليه دليل ناطق عن الله في كتابه مما لا يعلمه الناس - إلى أن قال: - إن للقرآن ظاهراً، وباطناً، ومعانياً وناسخاً، ومنسوخاً، ومحكماً، ومتشابهاً، وسنناً، وأمثالاً، وفصلاً، ووصلاً، وأحرفاً وتصريفاً، فمن زعم أن الكتاب مبهم فقد هلك وأهلك. الحديث. [7]
ويمكن القول بأن هذه الحروف المقطعة لها ظاهر ولها باطن، وقد يتعدد إلى سبعة أبطن، وعليه يحمل اختلاف بعض معانيها ويوفق بينها بكونه من قبيل اختلاف الظاهر مع الباطن ومن قبيل تعدد البطون.
وهنا عبارة للسيد السبزواري «قدس سره» في تفسيره مواهب الرحمن في بداية شروعه في تفسير سورة البقرة ترتبط بهذا المطلب: «والظاهر أن ذكر الحروف المقطعة في القرآن العظيم، يشير إلى أهمية الحروف الهجائية، وكثرة عناية الله عز وجل بها، لأنها محور الشرائع السماوية والكتب الإلهية، بل بها تقوم الحياة الاجتماعية في الإنسان، ولأجل ذلك جعل تعالى البيان أي النطق بها في قبال خلق الإنسان، فقال تبارك وتعالى: «خلق الإنسان علمه البيان». وعلى هذا يمكن أن يكون «ذلك الكتاب» مبتدءاً مؤخراً، و«ألم» خبراً مقدماً. يعني: أن ذلك الكتاب العظيم هو هذه الحروف الهجائية التي تنطقون بها، ولكنه بحسب النظم والجمال، والكمال والمعارف، شيء خارج عن مقدوركم، ويكون من عالم الغيب، وقد ظهر إلى عالم الشهادة مقروناً بالتحدي والتعجيز، وإتماماً للحجة، فكما أتم الله الحجة عليهم بمن هو من أنفسهم، أتم الحجة عليهم أيضاً بما هو من ألفاظهم» [8] .
ثم قال في موضع آخر: «ومقتضى الأخبار الكثيرة، أن عند الأئمة الهداة شيء كثير منه - أي من حقائق الحروف المقطعة -، وهو مما اختصهم الله تعالى به، فعلم فواتح السور من الأسرار المودعة لدى الإمام، ويرشد إلى ذلك ما يستفاد من مواظبة الأئمة الهداة إلا في حالاتهم الانقطاعية الله تعالى، وتوسلهم إليه عز وجل بفواتح السور[9] ، وأن لها شأناً من الشأن، ومنزلة عظيمة عند الله تعالى» [10] .
والمستفاد من كلامه أن لهذه الحروف ظاهراً، وهو ما ذكره من أنها ذكرت للتنبيه على ما ذكره من أهمية الحروف الهجائية، وكذلك التنبيه على إعجاز القرآن، ولكن بحسب الباطن فإن لهذه الحروف معانٍ لا يدركها إلا الراسخون في العلم وهم أهل البيت .
والحمد لله رب العالمين.
-----------------------------------------------------------------
[1] لكن أغرب ما في هذا الباب، وأبعده عن الحق والصواب، ما ذهب إليه المستشرق الألماني نولدكه ”Noldeke“ في رأيه الأول الذي عدل عنه فيما بعد من الحكم بأن أوائل السور دخيلة على نص القرآن: ففي الطبعة الأولى لكتابه عن تاريخ القرآن بالاشتراك مع شفالي ”Schwally“ تظهر - لأول مرة في تاريخ الدراسات القرآنية - نظرية لا ترى في أوائل السور إلا حروفاً أولى أو أخيرة مأخوذة من أسماء بعض الصحابة الذين كانت عندهم نسخ من سور قرآنية معينة، فالسين من سعد بن أبي وقاص، والميم من المغيرة، والنون من عثمان بن عفان، والهاء من أبي هريرة وهكذا، ويبدو أن نولدكه شعر بخطأ نظريته فرجع عنها، وأن شفالي أهملها وأغفل ذكرها فيما بعد في الطبعة الثانية، لكن المستشرقين بهل Buhl وهرشفيلد Hirschfeld قد تحمسا لهما من جديد وتبنياها، غافلين عن مدى بعدها عن المنطق السليم". انظر مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح ج1 ص 242.
[2] معاني الأخبار ص23.
[3] تفسير الميزان ج18ص16.
[4] معاني الأخبار ص 22.
[5] معاني الأخبار ص24.
[6] الخصال ص426.
[7] وسائل الشيعة ج27ص192.
[8] مواهب الرحمن ج1 ص 77.
[9] كما في دعاء السمات.
[10] مواهب الرحمن ج1 ص 79.
2023-01-12 13:00:30 اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين درس رائع حفظ الله سيدنا الأستاذ ودام عطاؤه فياضاً |
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها
هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (2)
أزمة العلمانية مع الإسلام
تفسير القرآن الكريم بمعناه اللّغوي
البسملة