(الغضب)
من أخطر الحالات والانفعالات في الإنسان التي إذا لم يتصدّ الإنسان لضبطها والسيطرة عليها فإنّها قد تظهر بشكل جنوني على سلوكيات الفرد وتفقده أيّة سيطرة على أعصابه، وحتى أنّ الكثير من السلوكيات الخطرة والجرائم الكثيرة في حركة الإنسان في حياته الاجتماعية تكون بدافع الغضب ويترتب عليه دفع كفّارة وضريبة، وبعكسه، نرى صفة الحلم وهي من الصفات الأخلاقية الحميدة، ونرى القرآن الكريم قد اهتم بهذه الصفة أيما اهتمام، وقد وردت في الآية 134 من سورة آل عمران يصف فيها المتقين حيث ذكرت بعد صفة الإنفاق، لما لهذه الصفة من آثار إيجابية على وضع الفرد والمجتمع. إنّ حالة الغضب كالنار المحرقة التي قد تأتي على الأخضر واليابس من حياة الإنسان وتكفي شرارة صغيرة منها إلى إحراق بيوت ومدن كاملة وتحويلها إلى رماد.
وإذا تصفّحنا التاريخ البشري فإننا نجد أنّ المشكلات الكثيرة التي ابتلت بها المجتمعات البشرية كانت بدافع من قوّة الغضب هذه حيث تسببت في الكثير من الحوادث المؤلمة والأزمات الخطيرة والخسارة الهائلة على المستوى الفردي والاجتماعي.
وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها دورساً وعبراً في خطر هذه الرذيلة الأخلاقية وكذلك بركات الحلم وآثاره الإيجابية في النقطه المقابلة لها:
1 ـ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)(1).
2 ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(2).
3 ـ (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(3).
4 ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(4).
5 ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)(5).
6 ـ (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ)(6).
7 ـ (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(7).
8 ـ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(8).
تفسير واستنتاج:
«الآية الأولى» من الآيات محل البحث التي تتحدّث عن أوصاف طائفة من المؤمنين الصادقين الذين شملهم الله تعالى برحمته وعنايته الخاصة، فتقول بعد أن تذكر إيمانهم وتوكّلهم على الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ).
وبعبارة أخرى: أنّ هؤلاء عندما تشتعل في نفوسهم نار الغضب يتحرّكون على مستوى ضبطها والسيطرة عليها ولا يسمحون لأنفسهم بالتلّوث بأنواع الخطايا والذنوب لأجل ذلك.
إنّ ذكر هذه الصفة بعد مسألة التوقّي من الذنوب والآثام الكبيرة لعله بسبب أنّ حالة الغضب تقود النفس إلى التحرر من قيود العقل وتفكّ عن قوى الشر جميع الضوابط الأخلاقية والشرعية لتتحرّر وتنطلق في كل اتجاه.
ومن الملفت للنظر أنّ هذه الآية لا تقول: إنّ هؤلاء لا يغضبون، لأنّ الغضب في مواجهة المصاعب اللاملائمات والتحدّيات هو حالة طبيعية لدى الإنسان، بل تقرر أنّ هؤلاء في حال الغضب يتحركون من موقع السيطرة على حالة الغضب هذه وأن لا يخضع الإنسان لايحاءات هذه القوة في نفسه وخاصة أنّ قوّة الغضب لا تقع دائماً في جانب الشرّ في الإنسان ولا تمثّل عنصراً سلبياً في دائرة السلوك المخرّب، فأحياناً تكون قوّة مثمرة وبنّاءة.
وتأتي «الآية الثانية» وبعد أن تستعرض وعد الله تعالى للمتّقين بالجنّة التي وسع عرضها السموات والأرض لتتحدّث عن أوصاف هؤلاء، وأوّل صفة تذكرها لهؤلاء هي صفة الإنفاق وتقول: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ثمّ تضيف الآية (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) وفي النتيجة: (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) فمن يعيش هذه الحالات الإيجابية والقيم الأخلاقية فهو من المحسنين الذين تقول عنهم الآية في ذيلها: (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
والملفت للنظر أنّ الآية التي تليها وعدت هؤلاء بعفو الله ومغفرته في حال صدور الخطأ منهم، وأنّهم عندما يتحرّكون صوب الانحراف وارتكاب الخطأ يتذكّرون الله تعالى ويستغفرونه فيشملهم الله بعفوه ومغفرته.
وهذا إشارة إلى أنّ هؤلاء كما أنّهم يتحرّكون في تعاملهم مع الآخرين من موقع العفو والصفح عن أخطاء الغير فإنّ الله تعالى كذلك يعفو عنهم ويصفح عن أخطائهم.
وعلى أيّة حال فإنّ (كظم الغيظ) في هذه الآية ورد بعنوان أحد الصفات الإيجابية المرموقة لهؤلاء المتّقين.
«الآية الثالثة» تتحدّث عن حالة الغضب التي عاشها أحد الأنبياء الإلهيين، وهو النبي يونس عليه السلام تجاه امّته وقومه، وهو الغضب المقدس في ظاهره، ولكنّه في الواقع صادر من التسرع والاستعجال وعدم إدراك بواطن الأمور، ولهذا فإنّ الله تعالى قد جعله يواجه ظروفاً صعبة بسبب تركه للأولى وأخيراً فإنّ هذا النبي الكريم قد تاب من ترك الأولى، وتقول الآية: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
وهكذا وبعد تحمّل صعوبات هائلة وقاسية قبل الله توبته ولم تستطع الحوت أن تهضمه في بطنها، بل قذفته إلى الساحل بجسم نحيف وضعيف وهزيل، أمّا ما هي المدّة التي مكث فيها يونس عليه السلام في بطن الحوت؟ فهناك اختلاف بين المفسّرين بين من يقول أربعين يوماً، ومن يقول أسبوعاً واحداً وثلاثة أيّام، وطبقاً لرواية عن الإمام علي عليه السلام أنّ المدّة تسع ساعات، وعلى أيّة حال فإنّ هذه المدّة مهما طالت أو قصرت فإنّها ممّا لا تطاق حتى للحظة واحدة.
ولكن ماذا هو ترك الأولى الذي ارتكبه النبي يونس عليه السلام حتى استحق هذه العقوبة الشديدة، رغم أننا نعلم أنّ الأنبياء معصومون عن الزلل والذنب؟
إنّ ما يتبادر إلى الذهن في البداية أنّ يونس عليه السلام غضب على قومه الضالّين الذين لم يقبلوا دعوته الإلهية وتحرّكوا في مقابله من موقع العناد واللجاجة، فمن الطبيعي أن يغضب يونس عليه السلام لذلك، ولكن هذا الغضب بالنسبة لنبي كبير مثل يونس عليه السلام كان يعدّ من الترك للأولى، أي كان الأولى له بعد اطّلاعه على وقت نزول العذاب الإلهي على قومه أن يبقى معهم إلى آخر لحظة ولا ييأس من هدايتهم، فلو أنّ يونس عليه السلام لم يغضب هناك فلعل قومه يسمعون لكلامه ويلبّون دعوته في آخر اللحظات، والتجربة تؤيد هذا المعنى حيث انتبه قومه في اللحظات الأخيرة وتابوا إلى الله تعالى فقبل الله توبتهم وأزال عنهم العذاب.
فمثل هذا الغضب ليونس عليه السلام (والذي لم يكن بدون دليل أيضاً) فإنّ الله تعالى لم يغفر لنبيّه ذلك وعاقبه بتلك العقوبة، فكيف الحال فيما لو كان الغضب الذاتي للإنسان بدافع الحقد والانتقام والحسد والدوافع الرذيلة الأخرى؟
ومن البديهي أنّ المراد من غضب يونس عليه السلام هنا هو غضبه على قومه الظالمين والفاسقين، والمراد من العبارة (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) هو أنّ يونس عليه السلام تصوّر أنّ تركه لقومه لم يكن عملاً سيئاً بحيث يستلزم كل تلك العقوبة والتوبيخ، والمقصود من اعتراف يونس عليه السلام بظلمه هو ظلمه لنفسه الذي قاده إلى هذه النتيجة الصعبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الشورى ، الآية 37.
2 ـ سورة آل عمران ، الآية 134.
3 ـ سورة الأنبياء ، الآية 87.
4 ـ سورة التوبة ، الآية 114.
5 ـ سورة هود ، الآية 75.
6 ـ سورة الصافات ، الآية 101.
7 ـ سورة الفرقان ، الآية 63.
8 ـ سورة الاعراف ، الآية 199.
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها
هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (2)