قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

كلام في أنّ الكذب لا يفلح (2)

قوله تعالى: (وَقالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا) السياق يدلّ على أنّ السيّارة حملوا يوسف معهم إلى مصر وعرضوه هناك للبيع فاشتراه بعض أهل مصر وأدخله في بيته.

وقد أعجبت الآيات في ذكر هذا الّذي اشتراه وتعريفه فذكر فيها أوّلاً بمثل قوله تعالى: (وَقالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) فأنبأت أنّه كان رجلاً من أهل مصر، وثانياً بمثل قوله: (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) فعرّفته بأنّه كان سيّداً مصموداً إليه، وثالثاً بمثل قوله: (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) فأوضحت أنّه كان عزيزًا في مصر يسلّم له أهل المدينة العزّة والمناعة، ثمّ أشارت إلى أنّه كان له سجن وهو من شؤون مصدريّة الأمور والرئاسة بين الناس، وعلم بذلك أنّ يوسف كان ابتيع أوّل يوم لعزيز مصر ملكها ودخل بيت العزّة.

 

وبالجملة لم يعرّف الرجل كلّ مرّة في كلامه تعالى إلّا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث من القصّة، ولم يكن لأوّل مرّة في تعريفه حاجة إلى أزيد من وصفه بأنّه كان رجلاً من أهل مصر وبها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله: (وَقالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ).

وكيف كان، الآية تنبئ على إيجازها بأنّ السيّارة حملوا يوسف معهم وأدخلوه مصر وشروه من بعض أهلها فأدخله بيته ووصّاه امرأته قائلاً: (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً).

والعادة الجارية تقضي أن لا يهتمّ السادة والموالي بأمر أرقّائهم دون أن يتفرّسوا في وجه الرقيق آثار الأصالة والرشد، ويشاهد في سيماه الخير والسعادة، وعلى الخصوص الملوك والسلاطين والرؤساء الّذين كان يدخل كلّ حين في بلاطاتهم عشرات ومئات من أحسن أفراد الغلمان والجواري فما كانوا ليتولّعوا في كلّ من اقتنوه ولا ليتولّهوا كلّ من ألفوه فكان لأمر العزيز بإكرام مثواه ورجاء الانتفاع به أو اتّخاذه ولدًا معنى عميق وعلى الأخصّ من جهة أنّه أمر بذلك امرأته وسيّدة بيته وليس من المعهود أن تباشر الملكات والعزيزات جزئيّات الأمور وسفاسفها ولا أن تتصدّى السيّدات المنيعة مكانًا، أمور العبيد والغلمان.

 

نعم إنّ يوسف (عليه السلام) كان ذا جمال بديع يبهر العقول ويولّه الألباب، وكان قد أوتي مع جمال الخلق حسن الخلق صبورًا وقورًا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل، وهذه صفات لا تنمو في الإنسان إلّا وأعراقها ناجمة فيه أيّام صباوته وآثارها لائحة من سيماه من بادئ أمره.

فهذه هي الّتي جذبت نفس العزيز إلى يوسف - وهو طفل صغير - حتّى تمنّى أن ينشأ يوسف عنده في خاصّة بيته فيكون من أخصّ الناس به ينتفع به في أموره الهامّة ومقاصده العالية أو يدخل في أرومته ويكون ولداً له ولامرأته بالتبنّي فيعود وارثاً لبيته.

ومن هنا يمكن أن يستظهر أنّ العزيز كان عقيمًا لا ولد له من زوجته ولذلك ترجّى أن يتبنّى هو وزوجته يوسف.

 

فقوله: (وَقالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) أي العزيز (لِامْرَأَتِهِ) وهي العزيزة (أَكْرِمِي مَثْواهُ) أي تصدّي بنفسك أمره واجعلي له مقامًا كريمًا عندك (عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا) في مقاصدنا العالية وأمورنا الهامّة (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) بالتبنّي.

قوله تعالى: (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) قال في المفردات: المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشي‏ء قال ويقال: مكّنته ومكّنت له فتمكّن، قال تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) قال: قال الخليل: المكان مفعل من الكون، ولكثرته في الكلام أجري مجرى فعال فقيل: تمكّن وتمسكن مثل تمنزل. انتهى. فالمكان هو مقرّ الشي‏ء من الأرض، والإمكان والتمكين الإقرار والتقرير في المحلّ، وربّما يطلق المكان المكانة لمستقرّ الشي‏ء من الأمور المعنويّة كالمكانة في العلم وعند الناس ويقال: أمكنته من الشي‏ء فتمكّن منه أي أقدرته فقدر عليه وهو من قبيل الكناية.

ولعلّ المراد من تمكين يوسف في الأرض إقراره فيه بما يقدر معه على التمتّع من مزايا الحياة والتوسّع فيها بعدما حرّم عليه إخوته القرار على وجه الأرض فألقوه في غيابة الجبّ ثمّ شروه بثمن بخس ليسير به الركبان من أرض إلى أرض ويتغرّب عن أرضه ومستقرّ أبيه.

 

وقد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الأرض في خلال قصّته مرّتين إحداهما بعد ذكر خروجه من غيابة الجبّ وتسيير السيّارة إيّاه إلى مصر وبيعه من العزيز وهو قوله في هذه الآية (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) وثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز وانتصابه على خزائن أرض مصر حيث قال تعالى: (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) الآية 56 من السورة والعناية في الموضعين واحدة.

وقوله: (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) الإشارة إلى ما ذكره من إخراجه من الجبّ وبيعه واستقراره في بيت العزيز فإن كان المراد من تمكينه في الأرض هذا المقدار من التمكين الّذي حصل له من دخوله في بيت العزيز واستقراره فيه على أهناء عيش بتوصية العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشي‏ء بنفسه ليدلّ به على غزارة الأوصاف المذكورة له وليس من القسم المذموم من تشبيه الشي‏ء بنفسه كقوله:

كأنّنا والماء من حولنا

قوم جلوس حولهم ماء

بل المراد أنّ ما فعلنا به من التمكين في الأرض كان يماثل هذا الّذي وصفناه وأخبرنا عنه فهو يتضمّن من الأوصاف الغزيرة ما يتضمّنه ما حدّثناه فهو تلطّف في البيان بجعل الشي‏ء مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزارة أوصافه وأهميّتها وتعلّق النفس بها كما هو شأن التشبيه.

ومن هذا الباب قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ) الشورى: 11. وقوله تعالى: (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) الصافّات: 61. والمراد أنّ كلّ ما اتّصف من الصفات بما اتّصف به الله سبحانه لا يشبهه ولا يماثله شي‏ء، وأن كلّ ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنّة وماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لأجل الفوز به.

 

وإن كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الأرض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من قبيل تشبيه الكلّيّ ببعض أفراده ليدلّ به على أنّ سائر الأفراد حالها حال هذا الفرد أو تشبيه الكلّ ببعض أجزائه للدلالة على أنّ الأجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجري على هذا النمط المذكور في قصّة خروجه من الجبّ ودخوله مصر واستقراره في بيت العزيز على أحسن حال فإنّ إخوته حسدوه وحرّموا عليه القرار على وجه الأرض عند أبيه فألقوه في غيابة الجبّ وسلبوه نعمة التمتّع في وطنه في البادية وباعوه من السيّارة ليغرّبوه من أهله فجعل الله سبحانه كيدهم هذا بعينه سببًا يتوسّل به إلى التمكّن والاستقرار في بيت العزيز بمصر على أحسن حال ثمّ تعلّقت به امرأة العزيز وراودته هي ونسوة مصر ليوردنه في الصبوة والفحشاء فصرف الله عنه كيدهنّ وجعل ذلك بعينه وسيلة لظهور إخلاصه وصدقه في إيمانه ثمّ بدا لهم أن يجعلوه في السجن ويسلبوا عنه حرّيّة معاشرة الناس والمخالطة لهم فتسبّب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينًا يتبوّأ من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع.

 

وبالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى: (كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ) المؤمن: 74. وقوله: (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) الرعد: 17. أي إنّ إضلاله تعالى للكافرين يجري دائمًا هذا المجرى، وضربه الأمثال أبدًا على هذا النحو من المثل المضروب وهو أنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.

وقوله: (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) بيان لغاية التمكين المذكور واللّام للغاية، وهو معطوف على مقدّر والتقدير: مكّنّا له في الأرض لنفعل به كذا وكذا ولنعلّمه من تأويل الأحاديث وإنّما حذف المعطوف عليه للدلالة على أنّ هناك غايات أخر لا يسعها مقام التخاطب، ومن هذا القبيل قوله تعالى: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) الأنعام: 75. ونظائره.

وقوله: (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الظاهر أنّ المراد بالأمر الشأن وهو ما يفعله في الخلق ممّا يتركّب منه نظام التدبير قال تعالى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يونس: 3، وإنّما أضيف إليه تعالى لأنّه مالك كلّ أمر كما قال تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) الأعراف: 54.

 

والمعنى أنّ كلّ شأن من شؤون الصنع والإيجاد من أمره تعالى وهو تعالى غالب عليه وهو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أو يتمرّد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى ويفوته قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ) الطلاق: 3.

وبالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعّالة بإذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلّا السمع والطاعة ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم أنّ الأسباب الظاهرة مستقلّة في تأثيرها فعّاله برؤوسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحوّلها عن وجهتها شي‏ء وقد أخطاؤا.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد