قرآنيات

أعظم عوامل إعجاز القرآن الكريم

الشيخ مرتضى الباشا

 

قال الشيخ محمد هادي معرفة (رحمه الله): (اعلم أنّ الكلام في الوجه الذي لأجله كان القرآن معجزًا دقيق، ومن ثمّ كثرت فيه الأقاويل، واضطربت فيه المذاهب، وتفرّقوا على أنحاء كثيرة) التمهيد في علوم القرآن 4: 85.

 

وخلاصة المذاهب التي ذكرت هي:

المذهب الأول: الصرفة.

المذهب الثاني: الإعجاز في الأسلوب المختلف عن أساليب الشعر والخطب والرسائل.

المذهب الثالث: الخلو من التناقضات.

المذهب الرابع: اشتمال القرآن الكريم على الأمور الغيبية.

المذهب الخامس: اشتماله على الحقائق والدقائق والأسرار التي لا تزال طرية على مرور الزمن.

المذهب السادس: الدرجة العالية من الفصاحة.

المذهب السابع: الدرجة العالية من البلاغة (وجوه الاستعارة والتشبيه والفصل والوصل والتقديم والتأخير وأمثال ذلك).

المذهب الثامن: مجموع الأمور السابقة كلها (ما عدا الصرفة).

المذهب التاسع: المزايا الظاهرة والبدائع الرائقة في الفواتح، والمقاصد، والخواتيم في كلّ سورة؛ وفي مبادئ الآيات، وفواصلها.

وقبل الدخول في بيان ما نختاره، يلزم التذكير بأمور:

أ. مذهب الصرفة غير صحيح.

ب. هذا المقال لا يخاطب غير المسلمين ليفحمهم أو ليقنعهم بإعجاز القرآن، بل يخاطب المسلمين ليوضح لهم أعظم أسباب إعجاز القرآن.

ج. لا نريد إنكار دور (الفصاحة والبلاغة، وسمو المعاني والمقاصد، وغير ذلك من عوامل صحيحة في نفسها) وإنما نريد إضافة عنصر أساسي في الإعجاز نراه هو الأهم والأشمل.

أما العامل المقصود، فيتضح من خلال النقاط التالية:

1. هناك جوانب من إعجاز القرآن الكريم لا يدركها إلا العلماء بمعاني القرآن، أو العلماء بعلوم البلاغة والفصاحة مثلاً، ولكن نجد أن الانجذاب إلى القرآن الكريم دائرته أوسع من كل هؤلاء، بحيث يجذب حتى من لا يعرف اللغة العربية أساسًا، فكيف أثّر القرآن الكريم في نفوس أولئك وأرواحهم رغم عدم معرفتهم بالألفاظ أو المعاني بتاتًا؟!!

ثبت بالتجارب العديدة، إذا استمع غير العرب المسلمين إلى بضع آيات فقط من القرآن الكريم فإنهم يشعرون بحالة من الانجذاب والارتياح النفسي الذي لم يعتادوا عليه مسبقًا.

هنا لا يمكن أن نبرر ذلك بعظم المعاني أو الفصاحة والبلاغة أو الأخبار الغيبية، لأن هذا المستمع لم يدرك كل ذلك، وهنا يأتي السؤال، لماذا انجذب؟

وكذلك هذا الشعور من الانبهار انتاب مشركي قريش لاستماع صفحة واحدة من القرآن الكريم، وقبل محاولتهم للتقليد أو التحدي.

ولا يمكن أن نعزو ذلك لتناسق بداية السورة مع خاتمتها، لأننا نتحدث عن استماع بضع آيات فقط من سورة ما.

 

وبعبارة أخرى:

الإعجاز العلمي للقرآن الكريم يدركه العلماء التجريبيون.

وإعجاز الفصاحة والبلاغة للقرآن يدركها علماء الفصاحة والبلاغة. وهكذا إلى آخره.

لكن بعض وجوه الإعجاز في القرآن تسيطر على شعور وروح (كل إنسان) بدون أي قيد أو شرط، وبمجرد استماع بضع آيات من القرآن الكريم، وهذا هو أعظم عامل في إعجاز القرآن، وهو ما نحاول أن نبحث عنه في هذا المقال.

2. لتقريب الفكرة نقول [ولله المثل الأعلى]:

الإنسان العاشق ينبهر بكل ما يصدر من المعشوق، حتى ولو كان شيئًا عاديًا، ويتلذذ بذلك.

فلو قال المعشوق مثلاً (مرحبًا).

لوقعت هذه الكلمة في قلب العاشق موقعًا بليغًا، وعاش الهيام والذوبان، لا لأنّ الكلمة فيها مميزات، بل لأنها صدرت من (المعشوق).

ولو صدرت تلك الكلمة نفسها من غير المعشوق، لما اكتسبت كل ذلك التأثير والجمال.

3. العالم بأسره عاشق لله تعالى، وعلى ذلك العديد من الأدلة الدينية والعقلية، قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) الانشقاق: 6.

فالإنسان بما هو إنسان يكدح إلى ربه كدحًا.

وإن شئت الاستدلال بأدلة فلسفية، فراجع (الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 3: 158) فصل: في إثبات أنّ جميع الموجودات عاشقة لله سبحانه، مشتاقة إلى لقائه والوصول إلى دار كرامته.

4. (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد: 28. فما بالك بـ(كلام الله) ألا يطمئن القلوب، ويجذب الأرواح؟ هذه الجاذبية (لأنه كلام الله) بغض النظر عن فصاحته ومعانيه وغير ذلك.

5. أضف إلى ذلك أنه نداء الفطرة الموجودة في صميم بناء كل إنسان (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم: 30.

 

ولنأت بمثال آخر:

ألا ترى أن (الكعبة المشرّفة) لها جاذبية خاصة وروحانية.

ما السر في ذلك؟ هل هو الطول والعرض والارتفاع؟ أو لون كساء الكعبة؟

هل يا ترى لو تمّ بناء كعبة أخرى بنفس المواصفات من الطول والعرض والارتفاع؟ ولون الكساء، هل سيكون لها نفس الجاذبية والتأثير في نفوس المشاهدين؟

كلا، فالكعبة لم تؤثر هذا الأثر بسبب تناسق طولها وعرضها وارتفاعها، وربما نجزم بأنّ ارتفاع الكعبة لم يكن بهذا المقدار في عهد إبراهيم (عليه السلام)، وإنما الجاذبية الخاصة لأنها (بيت الله).

 أمّا الكعبة (التي تفترضها في مثالنا هنا) فهي حتى ولو كانت بنفس المواصفات الظاهرية، إلا أنها ليست (بيت الله). فتأمّل جيدًا.

 

والحاصل:

عندما يقول الله تعالى (يا أيها الناس) فإنّ لهذه الجملة لذة في قلوب ووجدان المستمع تختلف عن وقع نفس هذه الجملة، لو صدرت من قائل آخر.

وأعتقد أنّ هذا هو أكبر عوامل (عدم الملل أو السأم) من تكرار استماع القرآن أو تلاوته، لأنه كلام المعشوق الحقيقي.

وأمّا تفسير ذلك بدرجة الفصاحة أو البلاغة، أو مناسبة بدايات السور مع خواتيمها، فهي عوامل لا تصلح أن تدفع أو ترفع (الملل والسأم من التكرار).

ويمكن أن نذهب أبعد من ذلك، فنقول:

لا يقاس كلام المعشوق بمقاييس الجمال والإبداع.

بل كلام المعشوق هو المقياس الذي يقاس به الجمال والإبداع.

ولعل هذا أحد معاني (الحق من ربك) الذي تكرر في العديد من الآيات القرآنية، وليس (مع ربك).

فتأمل جيدًا، فإنّ هذا المطلب دقيق، وجدير بالتأمل والتفكير.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد