2ـ نماذج من الآيات المتعلقة بالإنذار والترهيب
إن القرآن وكما استخدم الترغيب والبشارة، فإنه يتعرض أيضاً إلى العذاب الأخروي، والبلاء والمصائب الدنيوية عن طريق نهج الإنذار والترهيب، وذلك من أجل حث المجاهدين على القتال، والسر في هذا الموضوع أيضاً هو كما ذكرنا في أسلوب الترغيب والتبشير.
إن كثيراً من الناس يتأثرون أكثر بطريقة الترهيب والترغيب الدنيوي من الترغيب والترهيب الأخروي ويسارعون للقتال والحرب عندما يشعرون بالثواب العاجل، ويخيفهم العقاب والبلاء القريب على العكس من الثواب والعقاب الأخروي. وهنا نتناول إحدى الآيات القرآنية المتعلقة بذلك: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ). [1].
وهذه الآية تحمل وعيداً وترهيباً لاذعاً وجاداً، فيحذر الله فيها الذين يتقاعسون عن أداء التكليف ويقصرون في تنفيذ الأوامر الإلهية، وينذر الذين ما زالت نفوسهم متعلقة بالأهل والأحبة أو تهوى قلوبهم بعض الملذات المادية والذين يأملون بالراحة والاستجمام، وبسبب ذلك يمتنعون عن المشاركة في أمر بالغ الأهمية، ويتمردون على الأمر بالحضور في الظروف الصعبة، ويتوعدهم بتحطيم كل هذه الآمال والطموحات عن طريق الغضب والعقاب الإلهيين المحدقين بهم.
والقرآن الكريم بعد أن يعدد بعض العقبات التي تمنع من المشاركة في القتال يشير هنا عبر لسان التحذير والوعيد إلى أن الإنسان لو كان يحب ذويه وأهله، ومن يحيط به أكثر من حبه وتعلقه بالله، ويفضل المال والتجارة والمسكن؛ وبنحو عام الدنيا بمالها وجمالها، على نحو يكون ذلك التعلق والارتباط عائقاً أمام المشاركة في الجهاد في سبيل الله فإن هذا الأمر يؤدي إلى الفسق والمروق، ومثل هذا الإنسان عليه أن ينتظر حلول العقاب والبلاء عليه، ويرتقب العواقب المرة والخطيرة جراء عمله هذا من قبل الله تعالى.
إن أقل درجة يحب العبد المؤمن فيها ربه تعالى هي أن لا تكون محبته له أقل منزلة من محبته للأشخاص أو الأشياء الأخرى، وأما لو تحدثنا عن الدرجات القصوى للإيمان فإن الإنسان المؤمن يبلغ درجة لا يعتبر أي شخص أو أي شيء له المحبة المستقلة والعشق الحقيقي سوى حبه وعشقه الله تعالى.
وفي هذه المرحلة تستمد كل الموجودات الأخرى محبتها في قلب المؤمن من محبة الله وعشقه، ولكن لو لم يبلغ المؤمنون هذه المرحلة من المحبة والعشق الإلهي، فيجب أن لا تكون محبة الله أقل منزلة ونصاباً في قلب المؤمن من محبة الأشياء الأخرى، والمتعلقات المادية، وصلة الأقارب والأرحام.
وأقل ما يتوقع من المؤمن هو ترجيح حب الله وتغليبه، والتعلق به عندما يدور الأمر بينه وبين محبة الأشياء الأخرى، ويختار الطريق الذي فيه رضا الله سبحانه وتعالى وقربه، هذه هي أقل منزلة من منازل الحب والعشق للإله العظيم وهي المرتبة التي يمكن أن تخلص الإنسان من السقوط في الهاوية.
ويقول تعالى في موضع آخر في هذا المضمار أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). [2].
هذه الآيات الكريمة تخاطب مجموعة من المؤمنين الذين ضعف تدينهم وإيمانهم، ويشمل هذا الخطاب أيضاً المنافقين الذي يتظاهرون بالأيمان والاعتقاد، لكنهم يماطلون في أمر الجهاد طبعاً، ويتعذرون عنه بسبب تعلقهم المفرط بالدنيا وما فيها، ففي هذه الآيات الشريفة يعاتب الله تعالى مثل هؤلاء الأفراد لتثاقلهم إلى الأرض عندما يأتي نداء الجهاد ويتقاعسون عن المشاركة في القتال في سبيل الله، ولا ينهضون من أماكنهم عندما يؤمرون بالنفر إلى مواجهة الأعداء.
فيخاطبهم الله: هل استغنيتم عن الحياة الآخرة ورضيتم بمتاع الدنيا وحطامها؟! في حين لا يعتد إطلاقاً بالحياة الدنيا أمام الحياة الأبدية الخالدة، ولا يقاس خيرها وسعادتها بخير الآخرة وسعادتها، فلو لم تهبوا لمقارعة العدو ومجاهدته فسوف يأتيكم عذاب عسير من الله، ويبدلكم الله تعالى بغيركم لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الحق والعدل، ومن ثم يقومون بأمر الله ويقاتلون أعداءه.
ويقول الله تبارك وتعالى في آية أخرى في هذا السياق نفسه: (هَا أَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). [3].
وفي هذه الآية يكون القرآن قد أعطى رسالة، وألقى مسؤولية الإنفاق في الجهاد في سبيل الله على عاتق القادرين على الجهاد المالي في المواقع الخلفية للجهاد، وعلى هامش الصراع الدائر، ليكونوا سنداً وظهيراً للمجاهدين في جبهات القتال؛ وليعينهم على التقدم وبالنتيجة يعطيهم الأمل العريض بتحقيق النصر أمام الأعداء، لكنهم يبخلون في أداء هذه المسؤولية، ويمتنعون عن بذل أموالهم وإنفاقها في سبيل الله والجهاد ضد أعدائه، ويتبنّ أن النفقات والمساعدات المالية التي كانت تبذل عند نزول هذه الآية، وفي الصدر الأول للإسلام كان أكثرها من أجل تغطية نفقات الحرب والجهاد في سبيل الله، وهي نفقات يرى المسلمون أنفسهم ملزمين بدفعها؛ لتكون حافزاً قوياً لنصرة المسلمين، وارتفاع راية الإسلام على دعوات الكفر.
وهذا العمل أيضاً سيكون سبباً لافتخار فاعله واعتزازه وسعادته، الأمر الذي يمكن أن يناله أقل واحد من بين الفاعلين وكيفما كان الأمر فإن الله تعالى يخاطب المسلمين القادرين على إنفاق المال في سبيل الحرب لكنهم يمتنعون عن ذلك، ولا يشاركون في دفع نفقات هذه الفريضة الإلهية العظيمة وكلفتها، محذراً إياهم من كفّهم عن دعم الحرب بالمال، إنكم لو أحجمتم عن الإنفاق فستستبدلون بأناس آخرين ليسوا بخلاء مثلكم، ولا يمتنعون عن الإنفاق في هذا المجال، وسيبذلون أموالهم في هذا السبيل برغبة وشوق.
ويقول تعالى في آية أخرى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ). [4]. وهذه الآية هي الأخرى من بين الآيات القرآنية المتعلقة بالجهاد؛ التي تدل على هذه الحقيقة، وهي أن المسلمين لو امتنعوا عن إنفاق أموالهم في سبيل الله، ولم يمدوا حرب المسلمين ضد إعدائهم بنفقات الحرب، فمن الطبيعي جداً أن يكون النصر حليف أعداء الإسلام في تلك الحرب، وبالنهاية سيقمع المسلمين أعداؤهم، وسوف يضيع منهم كل شيء، إذاً البخل والامتناع عن المشاركة في دفع نفقات الحرب ليس خسارة وهزيمة اقتصادية عند المسلمين فحسب، بل سوف يتلاشى كل شيء بما فيه المال، والنفس، والعرض والشرف والكرامة، والهيبة، والموقع والمكانة، والقدرة، والعزة والدين، والمذهب وكل ما سوى ذلك.
3ـ الذم والعتاب على ترك الجهاد سبيل آخر للتحذير
من الطرق الأخرى التي يعتبرها القرآن نافعة ومجدية في تحفيز المسلمين وتشجيعهم على الجهاد والتي يمكن أن تعد إحدى طرائق الإنذار والتحذير أيضاً هي معاتبة الذين يهملون الجهاد تجاه العدو، ويستسهلونه، ويعدونه أمراً يسيراً، وقد يؤدي هذا الموضوع إلى ترك الجهاد لدى بعضهم أحياناً، وفي هذا السياق يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا). [5].
ومن الممكن أيضاً الإفادة من هذه الآيات الكريمة في أن هناك أناساً بين المسلمين كانوا وما زالوا يعتذرون عن الحضور في الحرب، وغالباً ما تكون الحرب صعبة وثقيلة عليهم، وعندما يبررون امتناعهم عن الحرب، ويعرضون العقبات التي أدت إلى تراجعهم، وحالت دون مشاركتهم فيها، سوف يؤثر على الآخرين، فيخافون الحرب وقد لا يذهبون إلى ساحات القتال، ولم يبق تقاعس هؤلاء عند هذا الحد؛ بل لو هزم المسلمون في الحرب أمام العدو أو استشهدوا أو جرحوا فيها، سيقولون لقد أكرمنا الله ولم نُبْتَل بهذه المصائب والآلام التي لحقت بالمسلمين.
ولو كنا قد ذهبنا إلى الحرب، وشاركنا فيها، لم نبق سالمين، وللحق بنا ما لحق بهم، وأما لو هزم العدو وانتصر المجاهدون المسلمون، وكسبوا غنائم من الأعداء، هنا يقولون يا ليتنا كنا قد وفقنا للمشاركة في القتال، وجاهدنا معهم فنحصل على هذا الفوز وهذه الغنائم، وكأن شخصاً وقف حائلاً دون حصولهم على التوفيق للحضور والمشاركة في القتال، أو يتمنون لو أن أرواحهم كانت في عالم آخر لأخبروا عن مصير الحرب والقتال.
ومن الواضح أن هذه الآية ومن خلال استعراض الصور والأقوال التي ذكرها المتقاعسون عن الجهاد، توبّخ هؤلاء وتلومهم عن انزوائهم جانباً، وتعاتبهم على النفاق والدجل الذي يمارسونه في الصورتين كلتيهما: انتصار المسلمين أو هزيمتهم سعياً منهم في تبرير سلوكهم بذرائع مكشوفة.
وفي موضع آخر نرى أن الله تعالى يذم الذين يخافون من المشاركة في الحرب، فيقول: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلَاً). [6].
لم يصدر الأمر بالجهاد في بداية الدعوة الإسلامية، حينما كان المسلمون في مكة، وكذلك في بداية الهجرة إلى المدينة؛ والسبب في ذلك يعود إلى أن عددهم قليل جداً، وكانت كل الظروف غير مؤاتية لذلك إن لم تكن في ضررهم، وكان المسلمون مكلفين في تلك المرحلة بالإعداد النفسي وصناعة الذات، لكن بعض المسلمين كانوا يعترضون على النبي لعدم إذنه بقتال المشركين ومواجهتهم.
وما إن جاء الإذن بالجهاد، وأعطى النبي محمد المصطفى (ص) أوامره للمسلمين بقتال المشركين؛ إلا أننا نجد كثيراً من هؤلاء بدأوا يماطلون في المشاركة في الحرب بذرائع مختلفة، ويختلقون الأعذار لينأوا بأنفسهم عن الحرب ويتملصوا منها، ففي هذه الآية نرى أن الله يوبخ مثل هؤلاء، ويعاتب الذين كانوا ينادون بالحرب قبل أوانها، ويطلبون من النبي (ص) مواجهة الأعداء، ولكن بسبب الأعذار الواهية التي قدموها للتملص من المشاركة في القتال بعد صدور الأمر به استحقوا اللوم والعتاب الذي جاء في هذه الآية.
الاستنتاج
إن القرآن الكريم استعمل أساليب مختلفة من أجل إيجاد الأرضية المناسبة والأجواء الروحية والمعنوية التي تساعد المجاهدين على القتال، منها: طريقة الترغيب والترهيب من خلال طرح الآيات القرآنية المتعلقة بالترغيب وبالإنذار والترهيب ومعاتبة الذين يهملون الجهاد تجاه العدو ويستسهلونه ويعدونه أمراً يسيراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] التوبة، ٢٤.
[2] التوبة، ۳۸ – ۳۹.
[3] محمد، ۳۸.
[4] البقرة، ١٩٥.
[5] النساء، ۷۱ – ۷۳.
[6] النساء، ۷۷.
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد جواد مغنية
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ باقر القرشي
السيد ابو القاسم الخوئي
الشيخ محمد الريشهري
محمود حيدر
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان