قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

دورة التاريخ في القرآن

 (وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ). [القصص : 5]. (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ). [الأنبياء : 105]. (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَؤُوها). [الأحزاب : 27]. (قَالَ مُوسَى‌ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا إِنّ الأَرْضَ للّهِ‌ِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ). [الأعراف : 128]. (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى‌ عَلَى‌ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ). [الأعراف : 137].

 

هذه الجملة من الآيات الكريمة لها دِلالات عجيبة في ترسيم سنّة الله تعالى في تداول الأيام، والقوّة والسلطان، والسيادة بين الناس، وهي ترسم لنا دورةً كاملة للتاريخ في حركته المستمرة الدائبة، ونلاحظ نحن في هذه الحركة الأصول التالية ـ التي ترسم لنا سنن الله في التاريخ ـ:

 

1ـ أنّ القوة والمال تتبعان دائماً الصلاح والتقوى، وكلّما حلّ بقوم الصلاح حلّت معه القوة والسلطان والمال، بعكس ما يتصوّر الناس ـ عادةً ـ من أنّ الإنسان يكسب القوّة والمال بالعدوان والغش والظلم والفساد، والقرآن يؤكد كثيراً، وفي تعبيرات مختلفة، هذا المعنى: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ). [الأعراف : 128].

 

(وَتَمّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى‌ عَلَى‌ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا). [الأعراف : 137]. (لّيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهِ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً * وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الْرّعْبَ فِرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَؤُوها وَكَانَ اللّهُ عَلَى‌ كُلّ شَيْ‌ءٍ قَدِيراً). [الأحزاب : 24 ـ27]

 

2 ـ المال والسلطان يعرّضان الإنسان للفساد والطغيان والعجب: (كَلاّ إِنّ الإنسَانَ لَيَطْغَى‌ * أَن رَآهُ اسْتَغْنَى). [العلق : 6]. وذلك أنّ المال والسلطان يصيبان الإنسان بالعجب والغرور، ويحجبانه عن الله تعالى، وأنّ ما يرزق الله تعالى عباده من مال وسلطان لَحَري أن يدعو الإنسان إلى الشكر والارتباط بالله سبحانه، إلاّ أنّ الإنسان قد يحوّل المال والسلطان في حياته إلى أداة للقطيعة مع الله والسُّكْر؛ ومن ذلك يكون المال والسلطان أداة للفساد والطغيان والعجب والغرور في حياة الإنسان.

 

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ في أولئك الذين أفسدتهم النعمة والمال والسلطان ـ: (ذلك حيث تسكُرون من غير شراب؛ بل من النعمة والنعيم).

 

ومن عجبٍ أن يَسكُر الإنسان ولكن من دون شراب، بل من النعمة والنعيم، وإنّها لحريٌّ أن تكون سبباً للوعي واليقظة في حياة الإنسان.

 

3 ـ وإذا فسد الإنسان انتزع الله تعالى منه المال والسلطان، بعد أن يمهله ويمدّه في الطغيان: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى‌ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً). [الإسراء : 16 ـ 17].

 

وهذه هي نهاية الحضارة وسقوطها، وهي نهاية دورة التاريخ، وعندها يأذن الله تعالى بدورة جديدة للتاريخ، فإنّ الأمم إذا أفسدها المال والسلطان، مدّ الله تعالى لها في المال والسلطان، استدراجاً لها، وإمعاناً في الاستدراج، فتزداد فساداً وطغياناً، وعند ذلك يسلبها الله تعالى ما أتاها من مال وسلطان مرّة واحدة، وينتزع منها ما رزقها من النعمة.

 

ذلك أنّها توغل في الفساد ـ حالة الاستدراج ـ وينخر فيها الفساد من الداخل، دون أن يظهر ذلك على السطح المرئي من حياتها، فتفقد الضمير والعاطفة، والقيم والأخلاق، وتستولي عليها الأهواء والشهوات والنزوات، حتى إذا نخِرت من الداخل بشكل كامل، انهارت مرّة واحدة.

 

لهذا السبب فإنّ نهاية الدورة الحضارية السقوط والانهيار دائماً، هو الموت الدّفعي المفاجئ، وليس الموت التدريجي، بعكس الحال في ولادة الحضارات ونموّها؛ فإنّها تتولّد وتنمو بصورة تدريجية.

 

والتعبير القرآني دقيق في هذا الأمر: (وَدَمّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ). [الأعراف : 137]. هكذا، دمرناها مرّة واحدة.

 

(أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ). [الأعراف : 98]. ضحًى، وبصورةٍ مفاجئةٍ، حيث يعيش الناس في أمان، لا يتصورون أن يصيبهم من هذا الوباء شرٌ أو سوءٌ، وهم في غيبهم وفي غفلتهم سادرون يلعبون، وفجأةً يأتيهم بأس الله العزيز القهّار فلا ينجو منهم من أحد، ولا يُمهَل أحداً أبداً.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد