هل فعلاً تمَّ حرقُ خيام الحسين وفرار النسوة اللاتي كنَّ مع الحسين (ع) وأين ذكرت الكتبُ المتقدِّمة ذلك الحدث؟ وأين بات النساءُ ليلة الحادي عشر إذا كان قد تمَّ الإحراقُ لخيام الحسين (ع)؟
نعم ورد أنَّ ذلك وقع أولاً حين كان القتال على أشدِّه وتعذَّر على جيش عمر بن سعد الإحاطة بأصحاب الحسين (ع) فكانوا يقاتلونهم من وجهٍ واحد، وذلك لأنَّ الإمام (ع) أمرَ أصحابه أن يضربوا خيامهم على هيئة القوس وأنْ يقاربوا بين أطنابها، وأمر بأنْ يُجعل فسطاط النساء في الوسط بحيثُ تحفُّه الخيام عن يمينه وشماله وحفروا خلف المخيَّمات خندقاً أو قل جدولاً بطول المخيَّمات، وألقَوا فيه القصَب والحطَب، وأشعلوا فيها النار قُبيل نشوبِ المعركة، لذلك تعذَّر على جيش عمر بن سعد الولوج على أصحاب الحسين (ع) من الخلف أو من جهة اليمين أو الشمال، فكانوا يُقاتلون أصحابَ الحسين (ع) من وجهٍ واحد، فحين وجد جيشُ عمر بن سعد عنتاً ومقاومة شديدة من أصحاب الحسين (ع) أمر ابنُ سعد بعضَ رجاله أن يُقوِّضوا الخيام من جهة اليمين والشمال ليتسنَّى لجيشه محاصرة أصحاب الحسين (ع) إلا أنَّ هذا الإجراء عاد عليهم بالخيبة، وذلك لأنَّ بعضَ أصحاب الحسين (ع) أخذوا يترصَّدون مَن يتخلَّل الخيام لتقويضها فيقتلونهم ويرمون بهم وسط المعركة، فأمرَ عمرُ بن سعد أصحابه بالتوقُّف عن العمل على تقويض الخيام، وأمرَ بإحراقها من الطرفين، وهنا أمرَ الإمام الحسين (ع) أصحابه بتركهم يحرقونها لأنَّ ذلك سيمنعُهم من القدرة على الدخول عليهم من جهتِها، وذلك هو ما وقع، إذ لم يتهيأ لهم بعد اشتعال النيران في أطراف المخيَّمات من الدخول على أصحاب الحسين (ع) ومحاصرتهم فبقيَ القتال كما بدأ من وجهٍ واحد.
إذن فإحراقُ الخيام وقع أولاً قبل استشهاد الإمام الحسين (ع) كما نصَّ على ذلك عددٌ من المؤرِّخين كالطبري وغيره قال: "وقاتَلوهم حتى انتصف النهار أشدَّ قتالٍ خلقه الله، وأخذوا لا يقدرون على أنْ يأتوهم إلا من وجهٍ واحد لاجتماع أبنيتهم وتقاربِ بعضها من بعض قال: فلمَّا رأى ذلك عمرُ بن سعد أرسل رجالاً يقوِّضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم ليُحيطوا بهم، قال، فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخلَّلون البيوت فيشدُّون على الرجل وهو يُقوِّض وينتهِبُ فيقتلونَه ويرمونه من قريبٍ ويعقرونه".
قال: "فأمر بها عمر بن سعد عند ذلك فقال: أحرقوها بالنار، ولا تدخلوا بيتاً ولا تقوِّضوه، فجاؤوا بالنار فأخذوا يحرقون، فقال: حسين دعوهم فليحرقوها، فإنَّهم لو قد حرقوها لم يستطيعوا أنْ يجوزوا إليكم منها، وكان ذلك كذلك، وأخذوا لا يقاتلونهم إلا من وجهٍ واحد".(1)
وكان منشأ عدم قدرة جيش عمر بن سعد من الدخول على أصحاب الحسين (ع) من ورائهم هو ما ذكرناه من أنَّ الإمام (ع) أمر بتقارب البيوت والمضارب واشعال النار في القصب من خلفها ومواجهة العدو من أمام البيوت والمضارب، يعني من وجه واحد، وقد نصَّ على ذلك عددٌ من المؤرخين:
فمِن ذلك ما أورده الطبري بسندٍ له عن الإمام زين العابدين (ع) قال:" وخرج – الإمام الحسين (ع)- إلى أصحابه فأمرهم أنْ يقرِّبوا بعض بيوتهم من بعض وأنْ يُدخِلوا الأطناب بعضها في بعض وأنْ يكونوا هم بين البيوت إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوُّهم"(2) قال: قال أبو مخنف عن عبد الله بن عاصم عن الضحاك ابن عبد الله المشرقي: ".. وجعلوا البيوت في ظهورِهم وأمرَ - الحسين- بحطبٍ وقصب كان من وراء البيوت تُحرق بالنار مخافةَ أنْ يأتوهم من ورائهم قال: وكان الحسين عليه السلام أُتي بقصَبٍ وحطَبٍ إلى مكان من ورائهم منخفضٍ كأنه ساقية فحفروه في ساعةٍ من الليل فجعلوه كالخندق ثم ألقوا فيه ذلك الحطَب والقصَب، وقالوا إذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتى من ورائنا وقاتلونا القوم من وجهٍ واحد ففعلوا وكان لهم نافعا".(3)
ومنه: ما أورده الشيخ الصدوق في الأمالي قال:".. ثم إن الحسين ( عليه السلام ) أمر بحفيرة فحفرت حول عسكره شبه الخندق ، وأمر فحشيت حطبًا.. ثم صلى بهم الفجر وعبأهم تعبئة الحرب، وأمر بحفيرته التي حول عسكره فأضرمت بالنار، ليقاتل القوم من وجه واحد".(4) وقريب منه ما أورده ابن أعثم في الفتوح.(5)
ومنه: ما ذكره ابنُ شهراشوب في المناقب قال: ".. فلمَّا أصبحوا عبئ الحسين أصحابه وأمر بأطناب البيوت فقرِّبت حتى دخل بعضُها في بعض، وجعلوها وراءَ ظهورهم ليكون الحرب من وجهٍ واحد، وأمر بحطبٍ وقصَبٍ كانوا أجمعوه وراءَ البيوت فطُرح ذلك في خندقٍ جعلوه، وألقَوا فيه النار، وقال: لا نُؤتى من ورائِنا".(6)
ومنه: ما ذكره الدينوري في الأخبار الطوال قال: وأمر الحسينُ أصحابَه أنْ يضمُّوا مضاربَهم بعضَهم من بعضٍ، ويكونوا أمام البيوت، وأنْ يحفروا من وراء البيوت أُخدوداً، وأنْ يُضرموا فيه حطبَاً وقصَباً كثيراً، لئلا يُؤتَوا من إدبار البيوت، فيدخلوها..".(7)
هذا ما وقع بحسب ما أفاده المؤرِّخون قبل استشهاد الإمام الحسين (ع) فما تمَّ إحراقُه من قِبل الأعداء قبل استشهاده (ع) كان قِسماً من الخيام الواقعة قي طرفي مُعسكر الحسين (ع)
ما وقع بعد استشهاد الإمام الحسين(ع):
وأمَّا الذي وقع بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) فهو أنَّ جمعاً من معسكر عمر بن سعد يقودُهم شمرُ بن ذي الجوشن اقتحموا مخيَّم الحسين (ع) وسلبوا ما فيها، وبعده - بحسب ما ذكر ابنُ أعثم الكوفي في الفتوح قال: "خرج القوم من الخيمة وأضرموها بالنار".(8) وذكر ابن نما الحلِّي في مثير الأحزان أنَّه:".. أُضرمت النار في الفسطاط فخرجنَ هاربات".(9) أي خرج النساء من الفسطاط حذراً من أنْ تطالهم النار، وأفاد السيِّد ابن طاووس في اللهوف قال: ".. ثم أُخرج النساء من الخيمة وأشعلوا فيها النار..".(10)
والظاهر أنَّه لم يتمَّ حرقُ جميع خيام الحسين (ع) بعد استشهاده بل استبقوا خيمةً جمعوا فيها النساء والصغار ومعهم الإمام زين العابدين (ع) كما نصَّت على ذلك العديد من كلمات المؤرِّخين، فمن ذلك ما ذكره الشيخُ المفيد في الإرشاد قال: وانتهبوا رحلَه وإبلَه وأثقاله وسلبوا نساءه. قال حميد بن مسلم: فوالله لقد كنتُ أرى المرأة من نسائه وبناته وأهله تُنازع ثوبها عن ظهرها حتى تُغلب عليه فيذهب به منها، ثم انتهينا إلى عليِّ بن الحسين عليه السلام وهو منبسط على فراش وهو شديد المرض، ومع شمر جماعة من الرجَّالة فقالوا له : ألا نقتل هذا العليل؟ .. وجاء عمرُ بن سعد فصاح النساءُ في وجهه وبكين فقال لأصحابه: لا يدخل أحدٌ منكم بيوت هؤلاء النسوة.. فوكَّل بالفسطاط وبيوت النساء وعلي بن الحسين جماعةً ممَّن كانوا معه وقال: احفظوهم لئلا يخرج منهم أحد، ولا تُسيئن إليهم..".(11)
فالظاهر من هذا النصِّ وكذلك غيره أنَّهم لم يحرقوا جميع الخيام بل استبقوا بعضها لإيواء النساء ومَن لم يقتل من الأولاد ومعهم الإمام زين العابدين (ع)، نعم يُحتمل أنَّهم أحرقوا بقية الخيام ولكن في اليوم الحادي عشر حين الاستعداد للرحيل وتسيير النساء وزين العابدين (ع) للكوفة، ولعلَّ ذلك هو ما يظهر أو يُستشعر ممَّا رواه السيد ابن طاووس في اللهوف قال: فقال الراوي: ثم أُخرج النساء من الخيمة وأشعلوا فيها النار فخرجن.. يمشينَ سبايا في أسر، وقُلنَ بحقِّ الله إلا ما مررتُم بنا على مصرع الحسين عليه السلام، فلمَّا نظر النسوةُ إلى القتلى صحنَ وضربن وجوههنَّ قال: فوالله لا أنسى زينب بنتَ عليٍّ عليه السلام تندبُ الحسين عليه السلام وتُنادى بصوتٍ حزين وقلبٍ كئيب وا محمداه صلَّى عليك مليكُ السماء..". (12)
فإنَّ سياق الرواية يظهر منه أو يُستشعر منه أنَّ إشعال النار في الخيمة وقع حين الاستعداد للرحيل من كربلاء إلى الكوفة، فذلك هو ما يقتضيه قول الراوي: "ثم أُخرج النساء من الخيمة وأشعلوا فيها النار فخرجن.. يمشين سبايا في أسر، وقُلنَ بحقِّ الله إلا ما مررتُم بنا على مصرع الحسين عليه السلام، فلمَّا نظر النسوةُ إلى القتلى..".
وعلى أيِّ تقدير فإذا لم تكن الرواية ظاهرة في أنَّ حرق الخيمة وقع حين الاستعداد للمسير إلى الكوفة فالمتعيَّن بمقتضى الجمع بين النصوص هو أنَّ الإحراق للخيام بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) لم يكن لجميعها بل تمَّ الاستبقاء لخيمة أو أكثر لإيواء النساء والأولاد والامام زين العابدين (ع).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تاريخ الطبري- الطبري- ج4/ 333، الكامل في التأريخ – ابن الأثير- ج4/ 69،
2- تاريخ الطبري- الطبري- ج4/ 319.
3-تاريخ الطبري- الطبري-ج4/ 320.
4-الأمالي- الصدوق-221 .
5-الفتوح - ابن أعثم الكوفي-ج5/ 96، مقتل الحسين- الخوارزمي- ص352.
6- مناقب آل أبي طالب- ابن شهراشوب-ج3/ 249.
7- الأخبار الطوال- ابن قتيبة الينوري- ص256.
8-الفتوح - ابن أعثم الكوفي- ج5/ 130 .
9- مثير الأحزان- ابن نما الحلي- ص 58.
10-اللهوف على قتلى الطفوف- السيد ابن طاووس- ص 78.
11- الإرشاد المفيد- ج2/ 113. تاريخ الطبري- الطبري- ج 4/ 347.
12-اللهوف على قتلى الطفوف- السيد ابن طاووس- ص 78.
السيد عادل العلوي
محمود حيدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ فوزي آل سيف
السيد عباس نور الدين
السيد عبد الحسين دستغيب
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
أحمد الرّويعي
حبيب المعاتيق
حسين آل سهوان
أحمد الرويعي
أسمهان آل تراب
حسين حسن آل جامع
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
علي النمر
زهراء الشوكان
الشيخ علي الجشي
سر من أسرار زینب الحوراء عليها السلام
السُؤال في عين كونه جوابًا (4)
سورة الزلزلة
حرق الخيام قبل مقتل الحسين (ع) وبعده
الأسارى في دمشق، وخطبة العقيلة زينب (ع) (2)
المنبر الحسيني بين العَبرة والعِبرة
(أين هو؟) أولى قصص الأطفال للكاتبة سكينة آل قويسم
(شهيّة الوجع المفتوحة) باكورة إصدارات الكاتبة بدريّة آل حمدان
الأخت.. فكرة أمٍّ ثانية
الإمام السجّاد (ع) بعد عاشوراء