من التاريخ

الدَّولَة الصّفويَّة (1)


من ينظر إلى الدولة الأموية وتاريخها يعلم إلى أي مدى كانت مكروهة عند الناس، ثقيلة الوطأة عليهم، وكيف قامت الفتن والثورات على عهدهم، وكثر الدعاة ضد حكمهم وسلطانهم. فإذا ما خلا الأستاذ بتلاميذه حدثهم عن استهتار الأمويين بالقبائح والمعاصي، وإذا انتقل المسافر من قطر إلى قطر بث مساوئهم ومظالمهم.
وقد ساعدت السياسة الأموية البغيضة أنصار العلويين، وأمدتهم بأبلغ الحجج وأقواها، حتى أثمرت دعوتهم، وآتت أكلها في الأقطار الإسلامية، بخاصة في إيران التي هي أقرب بلد إلى عاصمة الخلافة، وأهلها أكثر اختلاطاً بالعرب من غيرهم، ولكن الدعوة العلوية استغلها العباسيون لمصلحتهم، كما هو معروف، والتشيع لآل البيت دخل إيران قبل أن يذهب الإمام الرضا إلى خراسان، ولكن العباسيين زعموا أنهم هم الآل دون غيرهم، وبعد ذهاب الرضا إلى خراسان عرفت الحقيقة، وظهر فيها التشيع الحق.
وذهب أفرادا من التابعين سنة 83 هجري إلى قم، ونشروا التشيع بين أهلها، ومن هاتين القاعدتين: قم وخراسان انطلق التشيع إلى كثير من الربوع الإيرانية، حتى جاء الصفوين فعمها جميعاً، وتجاوز إلى ما وراء الحدود.


الشاه إسماعيل:
هو إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن صفي الدين الذي ينتهي نسبه إلى الإمام موسى الكاظم (ع). وهو أول ملوك الصفوية، ومؤسس دولتهم، وكان آباؤه وأجداده من العرفاء وشيوخ الصوفية، فلقبوا لذلك بلقب سلطان، وما أن أتم إسماعيل العام الرابع عشر من عمره، حتى ألف جيشاً من أتباع أبيه ومريديه، وقاده بنفسه للغزو والفتح، وكانت إيران يومذاك موزعة الأطراف بين عديد من الملوك والأمراء ورؤساء القبائل، فاستخلصها منهم الواحد تلو الآخر، ووحدها تحت سلطانه.
في سنة 905 هجري استولى على شيروان بعد أن قتل حاكمها، وفي سنة 906 فتح تبريز بلا مقاومة، وفي سنة 907 توجه إلى همدان، واستولى عليها بلا كبير عناء، وفي سنة 909 ملك كيلان، وفي سنة 912 أخذ ديار بكر، وفي سنة 914 دخلت بغداد في حكمه.
قال «رونلدس» في كتاب «عقيدة الشيعة» معرب ص 77 طبعة 1946: "مد الشاه إسماعيل سلطانه من خراسان حتى هراة، فضلاً عن ضمه المقاطعات الجنوبية إلى أملاكه، حتى إذا جاء عام 1509 م كانت رقعة مملكته تمتد من نهر جيحون إلى خليج البصرة، ومن بلاد الأفغان إلى الفرات."
وخاف الأتراك على سلطانهم من قوة الشاه إسماعيل، فهاجمه بايزيد بجيش مؤلف من الأتراك والتركمان، ففرق الشاه شمله، وانتصر عليه. ولما خلع بايزيد، وقام مقامه ولده السطان سليم هاجم إيران بمائة وخمسين ألف جندي ومائتي مدفع، وتوغل في إيران، حتى دخل العاصمة تبريز، وكان الشاه غائباً عنها في همدان، وكان الأتراك يحاربون بالمدافع والأسلحة الحديثة، والإيرانيون يدافعون عن أنفسهم بالسلاح القديم، ولكن الأتراك اضطروا للانسحاب حين جاء الشتاء، لشدة البرد، وقلة الزاد، وانتشار الوباء في جيوشهم، وكان السلطان التركي قد قتل عشرات الألوف من الشيعة.
قال «لونكريك» في كتاب «أربعة قرون من تاريخ العراق» ص 17 الطبعة الثانية: «كانت بطولة القضية السنية أول حجة تذرع بها سليم لإعلان الحرب.
وقد خلد الأشهر من حكمه بالذبح المتقن لجميع الشيعة أينما وجدوا». هذا بعد أن استحصل السلطان من شيوخ السوء على فتوى باستباحة دماء الشيعة وحريمهم وأموالهم. وقال السيد الأمين في ج 11 من «الأعيان» ترجمة الشاه اسماعيل: "قتل السلطان سليم أربعة وأربعين ألفاً، وقيل سبعين ألفاً من الشيعة في الأناضول، وفي هذا العصر استولى الاسبانيون على بلاد الأندلس، وأزالوا دولة بني الأحمر العربية، واستنجد بنو الأحمر بالسلطان التركي والد السلطان سليم، فلم ينجدهم، حتى فعل بهم الاسبانيون ما فعلوا، ولكن السلطان التركي قتل الشيعة المسلمين في بلاده، وحارب السلطان الفارسي المسلم... وهكذا كان بأس الملوك المسلمين بينهم"


الشاه إسماعيل والتشيع:
قال المستشرق الكبير «براون» المتخصص بالأدب الإيراني في كتاب «الأدب في إيران» معرب ص 20 طبعة 1954: "كان الفاطميون في مصر أكبر خصوم العباسيين من الناحية الدينية والسياسية، وكانوا يمثلون فريقاً من الفريقين العظيمين اللذين انقسم إليهما المتشيعون لعلي، فالفريق الأول هم الإسماعيلية الذين ينتسب إليهم الفاطميون، والفريق العظيم الآخر من فرق الشيعة هم الاثنا عشرية، وكان الفرس دائماً يميلون إليه، حتى اتخذوه مذهباً رسمياً لهم عند قيام الدولة الصفوية على يد الشاه عباس سنة 908 هجري".
وأمر الشاه عباس أن يؤذن بحي على خير العمل في جميع بلاد إيران، ونقش على النقود اسم علي وآله، ونشر في الأقطار المجاورة لإيران الدعاة لمذهب التشيع، وحين دخل إلى بغداد، وذلك في 25 جمادى الآخرة سنة 914، فرح الناس بقدومه، والتجأوا إلى عدله، وكانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، وأخذوا يقدمون القرابين والذبائج إكراماً له، وفي اليوم التالي بلا فاصل توجه إلى كربلاء، وأدى مراسم الزيارة، وبات ليلته معتكفاً في الحائر، منكباً على قبر الحسين الشهيد (ع)، وأمر بصنع الصندوق المذهب للقبر الشريف، وعلق بالحضرة 12 قنديلاً من الذهب، وفرشها بأنواع السجاد الثمين، كما أمر بصنع صناديق أخرى للنجف الأشرف والكاظمية وسامراء بدلاً عن صناديقها القديمة.
ثم سافر إلى النجف الأشرف، وتشرف بزيارة المشهد العلوي، وقدم القناديل من الذهب والفضة، والمفروشات الثمينة، وفي هذه السنة شرع ببناء حرم الكاظميين والمسجد الكبير المعروف بمسجد الصفويين. وأمر بحفر النهر الذي كان قد حفره عطا ملك، ثم اندثر بمرور الزمن، فجدده الشاه إسماعيل، ووقف ريعه على خدام المشهدين: العلوي والحسيني، هذا، إلى حبه وتعظيمه العلماء والعلويين، وإنعامه عليهم بالأموال والمناصب، والاستعانة بأهل الكفاءة والمقدرة على نشر المذهب، وإعلان أسماء الأئمة الاثني عشر على المنابر وفي المحافل، وبشتى المناسبات.
ولده الشاه عباس سنة 892، وتولى السلطنة سنة 905، وتوفي سنة 930 في تبريز، ودفن في مقبرة جده صفي الدين بأردبيل، ومدة ملكه 24 سنة وخلفه ولده الشاه طهماسب.


الشاه طهماسب:
وما أن ملك الشاه طهماسب بعد أبيه، حتى قامت في وجهه القلاقل، والفتن الداخلية، وثار عليه أخوه القاص ميرزا، وكان له أعوان وأنصار. وأعلن سليمان القانوني ابن السلطان سليم الحرب على الشاه، واستولى على أذربيجان، ودخل جيشه تبريز، ومكث فيها غير أن البرد القارص، والأمطار الشديدة جرفت قسماً من المدفعية، وأماتت الحيوانات، فاضطر الأتراك إلى الانسحاب، واتجه السلطان إلى بغداد، فاستولى عليها، وأفتى له شيوخ السوء بقتل الشيعة المارقين، وخرج العراق من أيدي الإيرانيين سنة 941 هجري، وكانوا قد استولوا عليه سنة 914، وبنى السلطان قبر أبي حنيفة، كما زار العتبات المقدسة في الكاظمية وكربلاء والنجف.
وتدلنا هذه الحوادث، وما إليها أن الدولة الإيرانية، والدولة التركية كانتا أقوى دول الشرق على الإطلاق، وأن غيرهما من الدول والإمارات كانت تتذبذب بين الإمبراطوريتين، فتارة تؤثر طاعة هذه، وأخرى تلك، حسب الظروف والمناسبات.


الشاه طهماسب والتشيع:
وترسم الشاه طهماسب خطى أبيه الشاه إسماعيل في تأييد المذهب، وقد بالغ في إكرام العلماء وأهل الدين، حتى جعل أمر المملكة بيد عالم العصر المحقق الثاني الشيخ علي عبد العال، وقال له فيما قال: أنت أولى مني بالملك، لأنك نائب الإمام حقاً، وأنا عامل منفذ، وكتب إلى جميع الولاة، وأرباب المناصب بإطاعة الشيخ، والعمل بأوامره وتعاليمه، فكان الشيخ يطبق الشرع الشريف، ويقيم الحدود، كما عين الأئمة للصلاة، والمدرسين في المدارس، والوعاظ لبث المذهب ونشره.
ومن آثار الشاه طهماسب ترميم الحائر الحسيني، واصلاحه، وتوسيع الصحن، وتجديد المنارة المعروفة بمنارة العبد.
ولد هذا الشاه سنة 919 هجري، وملك سنة 930، ومات سنة 984، وكانت مدة ملكه 54 سنة.
وكان له أولاد كثر، تنازعوا الملك بعده، وتغلب أحدهم على اخوته، وهو إسماعيل الثاني، وبقي في الحكم سنة واحدة وبضعة أشهر، وقام بعده أخوه محمد خدابنده، وكان أعمى، ضعيف الرأي، وقد اضطرب أمر المملكة على عهده، وقامت ثورات وفتن، وانشق عليه ولده عباس، واستقل بالحكم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد