من التاريخ

بنو مرداس (1)


 السيد حسن الأمين

 ثلاث إمارات عربية تنتمي في ولائها إلى أهل البيت
شهد القرنان الحادي عشر والثاني عشر، في بلاد الشام، قيام إمارات عربية تنتمي، في ولائها، لأهل البيت، وقدر لها أن تمسك بالزمام العربي جهادًا للغزاة من البيزنطيين في حين، ومن الصليبيين في حين آخر، ورعاية للأدب والشعر والعلم. فيكون منها الذادة والقادة في ميادين الحرب، ويكون منها العلماء البارعون والشعراء المبدعون في مجالات الفكر.
هذه الإمارات ثلاث، هي إمارة بني عمار اللبنانية السورية.
أقول اللبنانية السورية لأن رقعتها شملت أرضًا من لبنان وأرضا من سوريا، فإذا كانت عاصمتها لبنانية، وهي طرابلس، فإن ما ارتبط بتلك العاصمة، كان أرضًا ممتدة من تخوم بيروت حتى تخوم أنطاكية.
وإذا كان هناك من رأي يقول إن بني عمار هم من أصول أفريقية أمازيغية، وإن صح هذا القول، فإن حياتهم العربية الطويلة، منذ انتقالهم إلى مصر، وتمركزهم فيها التمركز العربي الأصيل، ثم انتقال أحد فروعهم إلى طرابلس وثبوت جذورهم فيها الثبوت البعيد المدى، قد جعلهم من العرب في الصميم.
وهناك من ينفي ذلك، ويجعل جذورهم عربية، موغلة في عروبتها، فقد نقل صاحب كتاب ((المجتمع العربي في بلاد الشام)) أن بني عمار بطن من الدواسر، وهم إحدى قبائل بادية نجد، كما ذكر أنهم من أشهر قبائل الزيدية في بلاد قعطبة بجنوبي الجزيرة العربية، وأنهم فرقة من بني سعيد إحدى عشائر سورية الشمالية على ما يذكر وصفي زكريا في كتابه((عشائر الشام)).
ويقول صاحب ((المجتمع العربي)) إن محمد الشيخ قد فصل ذلك تفصيلًا كاملًا في رسالته ((الإمارات العربية في بلاد الشام)).
والإمارة العربية الثانية هي إمارة بني مقنذ في ((شيزر))، وهم الذين ترجع أصولهم إلى كنانة....
أما الآن فإننا سنتحدث، بإيجاز، عن ثالثة هذه الإمارات، وهي إمارة بني مرداس الذين ينتمون إلى بني كلاب.


أصول بني مرداس وقدومهم إلى بلاد الشام
يقول ابن العديم، في تاريخه، إن جماعة من بني كلاب رحلت إلى الشام، في نهاية العهد الإخشيدي وبداية العهد الحمداني، وإن محمد بن طغج الإخشيد قد أقام أبا العباس أحمد بن سعيد الكلابي واليًا على حلب سنة 325ه.
على أن وصول بني كلاب إلى بلاد الشام كان قبل عهد الإخشيد، فقد وصلوا إليها منذ الفتوحات الإسلامية التي شارك فيها القيسيون مشاركة بارزة، ثم توالى وصولهم منذ بداية العصر العباسي لا سيما أيام المأمون. ثم كان إقبالهم الإقبال الكبير في أوائل القرن الرابع الهجري وإقامة إمارتهم في حلب.
وكلاب التي ينتمي إليها المرداسيون هي القبيلة العربية التي نزلت ضفاف الفرات والجزيرة. وهي كلاب بن ربيعة، بطن عظيم من عامر بن صعصعة من قيس عيلان من العدنانية.
وكان الكلابيون مادة الدولة المرداسية وركيزتها، منهم تستمد القوة وعليهم تعول في الشدائد.
وعاش بنو كلاب قرابة قرن في بلاد الشام قبل إقامة دولتهم، واستطاعوا بفضل كثرتهم العددية أن يفرضوا إرادتهم في منطقة حلب، كما خلقوا لأنفسهم المناخ المناسب لإقامة إمارتهم وسط القوى المتصارعة في ذلك الوقت. وهم كانوا انتقلوا من المدينة (يثرب) في الحجاز، واتجهوا شمالًا فسكنوا في غرب الضفة العليا لنهر الفرات، وذلك مع هجرات القبائل العربية منذ القرن السابع الميلادي. وقد لعبت هذه القبيلة دورًا هامًّا في الحياة السياسية في سوريا عامة وفي شمالها بصورة خاصة، وذلك منذ القرن السابع حتى القرن الحادي عشر.
وقد عاصر بنو مرداس ثلاثة خلفاء عباسيين هم: القادر باللّه والقائم بأمر اللّه والمقتدي باللّه. وشملت دولتهم بعلبك وحمص وصيدا والرحبة، وامتدت إلى ((عانة))، فملكت جميع وادي الفرات الشامي.
ويقول ابن شداد في ((الأعلاق الخطيرة)): إن صالح بن مرداس ملك حصن ابن عكار سنة 416، كما قال ابن العديم: إن صالح ملك سنة 416 حمص وبعلبك وصيدا وحصن ابن عكار في ناحية طرابلس.
يقول صاحب ((النجوم الزاهرة)): ((لما ملك نصر بن صالح بن مرداس ((حلب))، طمع صاحب أنطاكية الرومي في حلب، وجمع الروم وسار إليها وأحاط بها وقاتل أهلها، فكبسه شبل الدولة نصر من داخلها ومعه أهل البلد فقتلوا معظم أصحابه، وانهزم ملكهم صاحب أنطاكية إليها في نفر يسير من أصحابه، وغنم نصر أموالهم وعساكرهم)).


انتصارات وشعر يخلدها
ومع أنه كان للمرداسيين شعراؤهم المتغنون بانتصاراتهم، فلم أجد شعرًا يذكر هذا النصر.
على أن انتصار نصر على البيزنطيين الذين زحفوا بجيش بالغ بعضهم في تقدير عدده، فجعله ستمئة ألف مقاتل، فيهم الروس والخزر والبلغار والألمان والبلجيك والخزر والأرمن، بقيادة الملك البيزنطي ((أرمانوس)) سنة 421.ه فوقف نصر في وجه هذا الجيش، وقاتله وهزمه وتبع فلوله إلى أعزاز وأسر جماعة من أولاد الملوك المشاركين فيه.
إن انتصار نصر هذا الانتصار الباهر أنطق شاعره الحسين بن أبي حصينة المعري بقصيدة قال فيها:
ديار الحي مقفرة يباب
 كان رسوم دمنتها كتاب
نأت عنها الرباب وبات يهمي
عليها، بعد ساكنها، الرباب
إلى نصر، وأي فتى كنصر
إذا حلت بمغناه الركاب
أمنتهك الفرنج غداة ظلت
حطامًا فيهم السمر الصلاب
جنودك لا يحيط بهن وصف
وجودك لا يحصله حساب
وذكرك كله ذكر جميل
وفعلك كله فعل عجاب
و((أرمانوس)) كان أشد بأسًا
وحل به على يدك العذاب
أتاك يجر بحرًا من حديد
له في كل ناحية عباب
إذا سارت كتائبه بأرض
تزلزلت الأباطح والهضاب
عاد وقد سلبت الملك عنه
 كما سلبت من الميت الثياب
فما أدناه من خير مجيء
ولا أقصاه عن شر ذهاب
فلا تسمع بطنطة الأعادي
فإنهم، إذا طنوا، ذباب
ولا ترفع لمن عاداك رأسًا
فإن الليث تنبحه الكلاب

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد