من التاريخ

كيف عرض الأنبياء عقيدة التوحيد؟


الإمام الخامنئي "دام ظله"

الجواب على هذا السؤال يوضح مواضع الحساسية التي تستثير المستكبر في هذه العقيدة، وسبب حساسيته من هذه المواضع، وسبب عدم قدرة المستكبر على تحمّل عقيدة التوحيد حين تطرح بهذه الكيفية. وجدير بالذكر أن الجواب على هذا السؤال يوضح لنا من جانب آخر أهمية التوحيد باعتباره القاعدة الأساس التي تقوم عليها الرسالة .
نعلم أن شعار التوحيد هو أول نداء يرفعه النبي في المجتمع .
النبي الخاتم رفع في مكة شعار: « قولوا لا إله إلا الله تفلحوا » .
والقرآن الكريم نقل عن أنبياء كرام مثل: نوح وهود وصالح وشعيب و . . . خطابهم لأممهم، وكان الخطاب يدور حول محور التوحيد .
يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( الأعراف ، 59 ) .

هذه الشعارات - كما ترى - تستند بالدرجة الأولى إلى رفض كل عبودية لغير الله. النبي بهذه الشعارات يهيب بالجهَلَة، الغافلين المنغمسين في أوحال النظام الجاهلي الطاغوتي، أن يكفّوا عن عبودية كل قطب وقدرة غير الله. وهذا يعني أن النبي يبدأ دعوته بإعلان الحرب على كل الذين يجعلون من أنفسهم آلهة من دون الله .
مَن هم أدعياء الألوهية في المجتمع؟ وما معنى إعلان الحرب على الآلهة المزيفة؟ وما هو الوضع الذي تريد دعوة الأنبياء أن توجده في المجتمع؟
عبارة «أدعياء الألوهية » توحي إلى الأذهان عادة أولئك الذين جعلوا من أنفسهم «إلهاً»، أي أولئك الذين ادّعَوا لأنفسهم تلك القدرة الخارقة التي كان البشر يؤمن بها على مر التاريخ بشكل من الأشكال. وهذا فهم سطحي للعبارة.
كان هناك طبعاً في التاريخ مجرمون تافهون استغلّوا قدرتهم السياسية والاجتماعية، فأوحَوا إلى أفراد أتفه منهم أنهم آلهة، بالمعنى المتقدم، أو أنهم يحملون جانباً من روح الإله؛ ولكن لو ألقينا نظرة على المعنى الواسع لألفاظ « العبادة » و « الربوبية » و « الألوهية » في القرآن، لاستنتجنا أن إطار مفهوم « أدعياء الألوهية » أوسع من ذلك الفهم بكثير .
استعمال مادة « العبادة » في القرآن الكريم يفيد أن العبادة تعني التسليم والطاعة المطلقة تجاه إنسان أو أي موجود آخر. حين نستسلم استسلاماً أعمى لشخص، ونتحرك وفقاً لرغباته وأهوائه وأوامره فقد عبدناه؛ وكل قوة تستطيع أن تخضعنا لها، وتسيطر على أجسامنا ونفوسنا، وتسخّر طاقاتنا وفقاً لرغباتها، فإنها تصيّرنا عبيداً لها سواء كانت هذه القوة داخل أنفسنا، أم في محيطنا الخارجي. ومن أمثلة هذه الاستعمالات القرآنية :

موسى يخاطب فرعون في بداية دعوته معاتباً يقول :
وتلك نعمة تمنّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل ( الشعراء ، 22 ) .
فرعون وبطانته يخاطب بعضهم بعضاً فيقولون :
أنؤمن لبشرَين مثلنا وقومهما لنا عابدون ( المؤمنون ، 49 ) .
إبراهيم يخاطب أباه قائلاً :
يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً ( مريم ، 44 ) .
رب العالمين يخاطب البشرية :
ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ( يس ، 60 ) .
الله تعالى يَعِدُ عباده الصالحين :
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى ( الزمر ، 17 ) .
وحول أولئك الذين يعيبون على المؤمنين إيمانهم يقول تعالى :
مَن لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القِرَدة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل ( المائدة ، 65 ) .

هذه الآيات عبّرت عن الطاعة لفرعون ولبطانته وللطاغوت وللشيطان بكلمة « عبادة ». ومن خلال دراسة جميع آيات القرآن في هذا المجال نخلص إلى أن العبادة في المفهوم القرآني هي: الاتباع والتسليم والطاعة المطلقة أمام قدرة واقعية أو وهمية، طوعاً ورغبة أو كرهاً وإلزاماً، مع الشعور بالتقديس والثناء المعنوي أو بدونه.. هذه القدرة هي « المعبود » وهذا المطيع هو « العبد » و « العابد » .
من خلال الإطار العام للمفاهيم المتقدمة يتضح معنى لفظة « الألوهية » ولفظة « الله » باعتبارهما تعبيراً آخر عن كلمة « المعبود » :
في النظام الجاهلي المنحرف المنقسم إلى طبقتين: مستكبرة ومستضعفة، أي المنقسم إلى طبقة مسيطرة ماسكة بزمام جميع الأمور، ومترفة طبعاً، وطبقة مهملة مسخّرة ومحرومة لزاماً، وأبرز مظاهر الألوهية والعبودية هي هذه العلاقة غير المتعادلة بين الطبقتين .
من العبث أن نبحث وراء موجود مقدس بشري أو حيواني أو جامد، في دراسة آلهة المجتمعات الجاهلية على مر التاريخ. فأبرز مظهر للمعبود والإله في هذه المجتمعات، هو تلك الفئة التي تمارس - اعتماداً على ارتباطها بالطبقة المستكبرة - عملية إخضاع وإرضاخ الجماهير المستضعفة، ودفعها على طريق إشباع نهمها وجشعها .
الدين الواقعي في هذه المجتمعات هو « الشرك »، لأن الآلهة فيها متعددة بتعدد مراكز القوة المسيطرة التي تستثمر الناس على طريق أهوائها .

الشرك هو تأليه أفراد إلى جانب الله أو بدلاً من الله. وبتعبير آخر وهو: إيكال أمور الحياة إلى غير الله. وهو الاستسلام أمام كل قدرة غير الله، والاتجاه نحو هذه القدرة لدى الحاجة، والسير على طريقها .
التوحيد يقع في النقطة المقابلة للشرك تماماً: يرفض كل هذه الآلهة، ويرفض التسليم لها، ويقاوم سيطرتها، ويحصّن القلوب من الركون إليها، ويدفع إلى إزالتها وطردها، ويشد الكائن الإنساني بكل وجوده إلى الله .

أول شعار رفعه رسل الله هو ذلك الرفض وهذا التسليم :
ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ( النحل ، 36 ) .
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( الأنبياء ، 25 ) .
الأنبياء إذاً أعلنوا زوال النظام الجاهلي الفاسد المنحط بهذا الشعار. وبهذا الشعار أيضاً دَعَوا إلى كفاح مرير للطواغيت، أي لحماة هذا النظام وللمستهينين بالقيم الإنسانية الأصيلة ولأصحاب تلك القيم التافهة المساندة للظلم والظالمين .

رفض الشرك هو في الواقع رفض لكل الكيانات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المقوِّمة للمجتمع الجاهلي، والمتخذة من مذهب الشرك غطاء وتبريراً لوضع المجتمع المهزوز .
رفض الآلهة المزيفة، يعني طرد كل الذين دأبوا على استضعاف الجماهير، واستغلالها عن طريق القوة والتزوير، من أجل إشباع غرائزهم وأهوائهم الجامحة .
موسى اتجه إلى حرب فرعون بهذا الشعار.. نعم لقد تردد على ألسن بطانة فرعون مسألة رفض موسى لآلهتهم التقليدية:
وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ( الأعراف ، 127 ) .
غير أن فرعون ومَن لفّ لفّه كانوا يعلمون جيداً أن تلك « الآلهة »، أي الأصنام الجامدة ليست إلا غطاء وتبريراً لألوهية فرعون وأتباعه. الصنم الجامد كان في الحقيقة تبريراً لتأليه الأصنام الحية، لذا كان من المنطقي تماماً أن يقف فرعون من دعوة موسى، أي من الدعوة إلى الله الواحد الأحد بارئ السماوات والأرض، موقف المهدد بالسجن وبقتل مَن آمن به وتعذيبهم :
قال لئن اتخذتَ إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين ( الشعراء ، 29 ) .
قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ( الأعراف ، 126 ) .
لأُقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأُصلّبنّكم أجمعين ( الأعراف ، 123 ) .

كل هذا التعنت والتصلب أمام اسم « الله » ودعوة التوحيد، يعود إلى أن هذا النداء لا يعني إلا :
الإيمان بحاكمية الله وحدها على الحياة . . .
ورفض الآلهة المزيفة . . .
والارتباط به وحده وتمزيق كل قيود العبودية الأخرى . . .
وهذه هي روح التوحيد وأبعاده البنّاءة النابضة بالحياة .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد