من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

الخوارج سياسياً وتاريخياً (2)

 

السيد جعفر مرتضى  
عليّ (عليه السّلام) وجرحى الخوارج :
ويقول البلاذري عن حرب النهروان : (ووجد عليّ (عليه السّلام) ممّن به رمق أربع مائة فدفعهم إلى عشائرهم ولم يجهز عليهم ، وردّ الرقيق على أهله حينما قدم الكوفة ، وقسّم الكراع والسلاح وما قوتل به بين أصحابه ) ، وهذا معناه أنّه حينما أخبر (عليه السّلام) أنّه لا يفلت منهم عشرة كان يقصد أنّه لا يفلت منهم ولومن الجراحة ، نعم ... وكذلك فعل (عليه السّلام) مع جرحاهم الأربعين في سواد الكوفة ، وذلك يعبر عن أنّه (عليه السّلام) إنّما كان يتعامل معهم من منطلق إنساني إسلامي بعيداً عن أي تأثّر وانفعال ، ولم يكن كأولئك الذين لا ينطلقون في مواقفهم إلاّ من مصالحهم الشخصية ، وعلى أساس من انفعالاتهم وعصبياتهم .


عوامل ساعدت على ظهور الخوارج :
وبعد ، فلم يكن ظهور الخوارج في مناسبة حرب صفين أمراً عفوياً وليد ساعته ، وإنّما كان ثمّة أجواء ومناخات ، وعوامل وأسباب ساعدت على ظهورهم ، ونذكر منها :
العامل الثقافي الناقص والمنحرف ، حيث كانوا في الأكثر أعراباً جفاة ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولا اهتدوا بهدى العقل. .
إنّ أكثرهم كانوا من تميم ، وهي من ربيعة ، وكانت القبائل الربيعية ـ حسبما يراه البعض ـ تحسد قريشاً على استيلائها على الخلافة ، وبينها وبين مضر إحن جاهلية ، خفف الإسلام من حدّتها ، ولم يذهب بكلّ قوتها ، ولعلّ لأجل ذلك نجد أبا حمزة الخارجي حينما غزا المدينة كان يقتل القرشي ويدع الأنصاري ، كما أنّ الأصمعي يصف الجزيرة بأنّها خارجية ، لأنّها مسكن ربيعة ، وهي رأس كلّ فتنة .


لقد شاع عن الخوارج : إنّهم من الزهّاد والعُبّاد حتى اعتقد كثير من الباحثين : أنّ ثورتهم كانت خالصة لله تعالى ، ولم يكن للدنيا في تفكيرهم أي نصيب ، ولكن الذي يبدو هو أنّ الدنيا كانت تستأثر بجانب كبير من تفكيرهم ، واهتماماتهم ، وقد كان لمفاهيمهم الجاهلية ، وعصبياتهم القبلية ومصالحهم الشخصية ، وأملهم بالفوز والنصر أثر كبير في إصرارهم على موقفهم ذاك من عليّ (عليه السّلام) ، والذي كان مبنياً على حالة من الشكّ والتردد كما صرّحوا به أنفسهم ، وكما صرّح به الإمام الصادق (عليه السّلام) . أمّا موقفهم من الأمويين وغيرهم من حكام الجور فقد كان لهم فيه مقالاً ـ كما عن عليّ (عليه السّلام) ـ ولم يكن لديهم أدنى شكّ في صحته وسلامته ، ولكن ذلك لا يعني إنّهم في حربهم لهم لا يطلبون الحكم والسلطان ، والحصول على شيء من حطام الدنيا أيضاً ، فإنّ ذلك كان مدّ نظرهم ، ومطمح نفوسهم ، وكشاهد على كل ما تقدم نذكر :
ألف ـ إنّ علياً (عليه السّلام) يقول عنهم : ( غرّهم الشيطان ، وأنفس بالسوء أمارة ، غرّتهم بالأماني ، وزيّنت لهم المعاصي ، ونبّأتهم بأنّهم ظاهرون ) .
ويدلّ على صحة ذلك : ما كانوا يرتكبونه من جرائم وموبقات في حقّ الأبرياء حتى النساء والأطفال ، وحتى قبل معركة النهروان أي قبل أن يضعوا لأنفسهم منهجاً عقائدياً يبيح لهم تلك العظائم والجرائم .
ب ـ إنّ من جملة ما نقموه على عليّ (عليه السّلام) : أنّه لم يقسم بينهم السبي في حرب الجمل ، كما قسم بينهم الغنائم .
ج ـ إنّ شيخاً منهم بعد أن رجع عن مقاتلتهم أخبر عنهم : إنّهم كانوا إذا هووا أمراً صيروا حديثاً .
د ـ إنّ شبيب بن يزيد الشيباني قد طلب من عبد الملك أن يفرض له في أهل الشرف ، فرفض ، فغضب وجمع الرجال ، وخرج عليه يحاربه .
وقد أخذ أتباعه عليه ، أنّه كان لا يطبّق التعاليم الخارجية على قومه ، أمّا نجدة الخارجي ، فلم يعاقب رجلاً كان يشرب الخمر في معسكره ، بحجة أنّه شديد النكاية على العدو، وبعض زعمائهم وهو عبيدة بن هلال يُتّهم بامرأة حداد ، فيحتال خليفتهم ( قطري بن الفجاءة ) لتبرئته .
هـ ـ وفي بعض حروبهم : ( جعلت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها ، والسوط ، والعلف ، والحشيش ، أشدّ قتال ) .
وـ وزياد بن أبيه يولّي أحدهم سابور ويرزقه أربعة آلاف درهم كلّ شهر ، فيلزم الطاعة ، ولا يفارق الجماعة ، على حدّ تعبيرهم ، كما أنّ زياداً حينما يعطيهم ما يركبون يُقبلون بالتردد عليه ، والسمر عنده .
ز ـ بل إنّنا نجدهم مستعدّين لأن يقتل بعضهم بعضاً في قِبال إطلاق سراحهم من سجن ابن زياد .
إلى غير ذلك من الشواهد التي لا مجال لتتبعها .
رابعاً ـ إنّ العراق الذي كان على اتصال مباشر بغير العرب قبل فتحه في عهد عمر بن الخطاب ، الذي كان له سياسة خاصة في تمييز العرب على غيرهم ، كان ينظر إلى الخليفة الثاني نظرة خاصة متميزة ، حتى أنّ علياً لم يستطع أن يمنع جنده من صلاة التراويح حيث تنادوا : يا أهل الإسلام غُيّرت سنّة عمر ، كما لم يستطع أن يعزل شريحاً عن القضاء ، لأنّه منصوب من قبل عمر ، وقد بايعوه على أن لا يغيّر شيئاً ممّا قرّره أبوبكر وعمر ، على حدّ تعبيرهم .


وأصحاب الجمل أيضاً قد نادوا بأمير المؤمنين : أعطنا سنّة العمرين ، وقال الخوارج لقيس بن سعد : ( لسنا متابعيكم أبداً وتأتونا بمثل عمر ) إلى غير ذلك ممّا يدلّ على عظمة الخليفة الثاني في نفوس الناس والخوارج بالذات .
وما اشتهر من أنّ الكوفة كانت علوية ، فإنّما كان ذلك بعد استيطان عليّ (عليه السّلام) لها ، وبذله الكثير من الجهود في سبيل توعية أهلها على الكثير من الحقائق التي كان لا بُدَّ لهم من التعرّف عليها ، ومن ذلك مناشدته للناس بحديث الغدير في رحبة الكوفة ، وفي صفين ، وإخباراته الغيبية الكثيرة لهم ، ومنه إخباره بمصير أهل النهروان ، وبحديث المخدّج ، وغير ذلك .
ومع ذلك فلم يكن في الكوفة خمسون رجلاً يعرفونه حقّ معرفته ، وحقّ معرفة إمامته كما عن الإمام الصادق ، وإنّما يحاربون معه وفاءً بالبيعة التي كانت له في أعناقهم ، بالإضافة إلى ما سمعوه من وعن النَّبيّ (صلى الله عليه وآله) في فضله الأمر الذي جعل له مكانة واحتراماً خاصاً لديهم .
خامساً ـ إنّ العراق قد فُتح في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ليواجه الحياة العسكرية ، ويتحمّل آثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وإذا كان يرافق ذلك عدم توفر العمق الإيماني إلاّ في حدود العواطف والأحاسيس ، وعدم توفّر العناية الكاملة بالتربية الإسلامية ، والتأهيل لاستيعاب التعاليم الإلهية ، ثمّ التفاعل معها بالشكل المناسب والمقبول ، والمفاهيم الجاهلية ، والأهواء ، والطابع المميز للحياة آنئذٍ ، ولاسيما على مستوى الزعامات القبلية ، مع فارق وحيد ، وهو أنّ ذلك أصبح يتلوّن ويتلبّس باسم الدين ، ويستفاد منه في التمرير والتبرير ، والدّين من ذلك كله براء .


سادساً ـ إنّ الذين حاربوا علياً في وقعة الجمل ، والذين يتعاطفون مع عثمان في محنته التي تعرّض لها ، قد أصبحوا الآن في جيش عليّ (عليه السّلام) فقد كان حي الناعطين في الكوفة عثمانياً ، كما أنّ الناس كانوا بعد حرب صفين ، فيهم المعجب بنتائجها ، وفيهم الكاره ، والغاشّ والناصح كما يقولون ، وإذن فليس لنا أن نتوقع من هؤلاء ـ بملاحظة حالتهم الثقافية الدينية وعلاقاتهم القبلية وغير ذلك ـ أن يكونوا مخلصين له كلّ الإخلاص ، ولاسيما وإنّهم هم الذين يتحمّلون أعباء الحرب وآثارها لا يرون إنّهم يحصلون في مقابل ذلك على نفع يذكر حسب مقاييسهم ومفاهيمهم عن الربح والخسران في حالات كهذه .
وإذا كان عليّ (عليه السّلام) لا يقيم وزناً للزعامات القبلية ، ويقيم علاقاته معها على أساس ما تملكه من معان إنسانية نبيلة ، وما تقدّمه من خدمات في سبيل الدّين والإنسان ، ولم يكن ليميّز أحداً على أحد مهما كانت الظروف والأحوال ، وإذا كان أهل الشام يعتبرون قضية معاوية قضيتهم ، ومصيره مصيرهم ، وهو يبذل الأموال فيهم ، ويشتري الرجال ـ إذا كان كل ذلك ـ فإنّ الفرصة تكون مواتية لمعاوية ليصطاد الزعامات القبلية في عراق عليّ بالذات ، ويتحفهم بالأموال والأماني سرّاً وجهراً ، ويكيد بهم علياً والإسلام ، ولم يكن ثمّة مناعات وحصانات كافية للوقوف في وجه أمر كهذا ، حسبما تقدّم .


تركيبة الخوارج :
أمّا تركيبة الخوارج ، فلم تكن لتشجع على التفاؤل ـ فبالإضافة إلى إنّهم أعراف جفاة يهيمن عليهم الجهل والقسوة ـ فقد كانوا أخلاطاً من العرب والموالي ، والعرب منهم يحتقرون الموالي ، كما أنّ معظمهم كان من السفلة فلم يكونوا من أهل البيوتات المعروفة بالشرف والسؤدد ، ولا كان ثمّة تقارب في المآرب والأغراض التي كان كلّ منهم يطمح إلى تحقيقيها ، ولذا فقد كان من الطبيعي أن تكثر بينهم التحزّبات والانقسامات ، وليترك ذلك آثاراً بارزة على قدراتهم ، وفعالية مواقفهم وحركاتهم .
الخوارج ... والأمويون :
وأمّا بعد عهد عليّ (عليه السّلام) فلقد حارب الخوارج الأمويين بضراوة وعنف ، حتى أنهكوا الحكم الأموي ، ومهّدوا السبيل لإسقاطه ، وكان انشغال مروان الجعدي بحربهم مانعاً له عن أن يمدّ يد العون لعامله نصر بن سيّار الذي كان يواجه الضربات الساحقة من أبي مسلم الخراساني القائم بأمر الدعوة العباسية ، بل إنّ المهلب بن أبي صفرة الذي قاتل الخوارج في عهد الزبيريين والأمويين معاً قد حاول الاستفادة من شخصية وشعارات طالما جهد الزبيريون والأمويون في طمسها والقضاء عليها ، فيخطب أصحابه محرّضاً لهم على قتالهم ، فيكون ممّا يقول : ( قاتلوهم على ما قاتل عليه أوّلهم عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه ) ، ثمّ جعل شعار أصحابه ـ لو تعرّضوا للبيات من قبل الخوارج ـ : ( حم ، لا ينصرون ) وهوشعار النَّبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، ويروى أنّه كان شعار أصحاب عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ، كما يروي المعتزلي .
ويبدوأنّ سياسة الأمويين الظالمة تجاه الناس ، قد ساهمت في إقبال الناس على الانخراط في سلك الخوارج لمحاربتهم حتى ليبلغ عدد جيش الضحّاك الخارجي مئة وعشرين ألفاً كما يقولون .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد