كان لا بد للإمام الحسن عليه السلام من السعي لتحقيق هدفين:
أحدهما: حفظ الشيعة.
والثاني: حفظ جهود الأنبياء، بحفظ الدين في عقائده وسياساته ومفاهيمه، وقيمه، وفي أحكامه وشرائعه.. وقد كان أمام الإمام الحسن عليه السلام خياران للوصول إلى هذين الهدفين: أحدهما: الحرب. الثاني: السلم.
خيار الحرب:
أما خيار الحرب: فإنه يجعله أمام ثلاثة احتمالات، لا بد في كل واحد منها من الموازنة بين التضحيات وبين النتائج، ثم اختيار الخيار الذي يحقق الأتم والأفضل، والأصلح منها، حيث إن موقع الإمامة يفرض على الإمام التفكير في جميع الجوانب، والحالات التي تواجهه في سياسة الأمة، من أجل حفظ دينها، ووجودها، ومصالحها..
ومهما يكن من أمر فإن الخيارات الثلاثة هي التالية:
الأول: أن يتمكن من تحقيق النصر: ولا بد في هذه الحالة من دفع ثمن لهذا النصر، وهو:
أولاً: أرواح المئات، والألوف من المسلمين وفيهم المخلصون، والأطياب الأطهار من أهل الإيمان ومن شيعته، الذين هم خلاصة جهود أمير المؤمنين عليه السلام، ومن قبله الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.. والذين كان معاوية نفسه قد قتل قسماً منهم في حرب صفين، وقُتل قسم آخر منهم في حرب الجمل قبل ذلك..
ثانياً: ما ينشأ عن الحرب من سلبيات وأخطار اجتماعية، واقتصادية، وسياسية وغيرها..
أما نتائج الحرب: فقد لا تكون في قيمتها، وأهميتها في مستوى تلك الخسائر، لأن هزيمة أتباع الخط المناوئ لأهل البيت، لا تعني القضاء عليهم، لأن انتصار الإمام الحسن عليه السلام ليس مثل انتصار معاوية، لأن انتصار الإمام عليه السلام يقتصر على وأد الفتنة، وإسقاط القدرة القتالية للطرف الآخر، وسوف يصبح الجميع بعد الحرب في أمن وأمان، ثم البدء في عملية إصلاح واستصلاح، مع حفظ سلامة الجميع، تماماً كما حصل في حرب الجمل، فإنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها، عومل أولئك المحاربون ـ حتى زعماء الحرب وأركانها، مثل ابن الزبير، ومروان وأضرابهما ـ بالرفق واللين، حتى وكأن شيئاً لم يكن.. كما أن علياً في النهروان قد داوى جرحى الخوارج، ولم يتعرض لهم بالأذى.. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله في فتح مكة قد عفا عنهم، وقال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
أما انتصار معاوية فإنه لا يكون إلا بقتل الحسن ثم الحسين، وبني هاشم وشيعتهم، فضلاً عمن يقتل من سائر الناس. فنصر معاوية نصر إبادة، ونصر النبي صلى الله عليه وآله، والإمام علي، والإمام الحسن، والأئمة عليهم السلام نصر حقن الدماء، وإصلاح، واستصلاح..
انتصار الإبادة:
وقد طبق معاوية سياسة الإبادة هذه، حتى بعد معاهدة الصلح.. حيث بطش في أصحاب علي، واستأصل شأفتهم.. فقد نادى منادي معاوية: أن قد برئت الذمة ممن يروي حديثاً من مناقب علي وفضل أهل بيته. وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة، لكثرة من بها من الشيعة، فاستعمل زياد ابن أبيه وضم إليه العراقَيْن: الكوفة والبصرة، فجعل يتتبع الشيعة، وهو بهم عارف، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وصلبهم في جذوع النخل، وسمل أعينهم، وطردهم وشردهم، حتى نفوا عن العراق فلم يبق بها أحد معروف مشهور، فهم بين مقتول أو مصلوب، أو محبوس، أو طريد، أو شريد.
وكتب معاوية إلى جميع عماله في جميع الأمصار: أن لا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.. وكتب إليهم أيضاً أن يقتلوا كل من يحب أهل البيت، أو يشك، أو يتهم بحبه لهم.. ومن جهة أخرى، فإن النصر العسكري للإمام الحسن عليه السلام، لا يعني بطلان أطروحتهم وبوار حجتهم..
والشاهد على ما نقول: إن معاوية قد استطاع أن يخدع الناس بباطله، حتى في مقابل أمير المؤمنين عليه السلام، الذي لا يدانيه أحد في الأمة في جهاده، وتضحياته، ومقامه وفضائله.
ولا يجرؤ أحد على ادعاء شيء منها في مقابله.. فهل يعجز هو والأخطبوط الأموي من ورائه، والزبيريون وأتباعهم، والخوارج وأصحاب الأطماع، وكذلك الذين لا يعتقدون بإمامته عليه السلام، بل يوالون غيره ـ هل يعجز هؤلاء كلهم ـ عن بلبلة الأفكار، وإثارة الشبهات، والشكوك حول الإمامة والإمام، خصوصاً بعد خديعة التحكيم، التي أعطته الجرأة ليتسمى بأمير المؤمنين..
ثم بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام، وصيرورة الأمر إلى ولده الإمام الحسن عليه السلام، حيث تداعى الجيش العراقي، وظهرت فيهم حسيكة النفاق، وساروا في صراط الخيانة والغدر..
والخلاصة: أن انتصار الإمام الحسن عليه السلام، لا يعني أن تصبح النتائج على صعيد وضوح الحق، وإبطال كيد أهل الباطل، في المستوى المطلوب، بل سيبقى مثيرو الشبهات، وأصحاب الادعاءات الباطلة، يثيرون الشبهات بدعواهم شراكة الإمام علي عليه السلام في قتل عثمان، ولادعاء أن معاوية قد ظلم، وأن كل من معه قد ظلموا معه، وسيقولون للناس: إن النصر العسكري لا يعني أن المنتصر محق..
فالانتصار عليهم إذن لن يكون مانعاً لهم من التشكيك في أحقية أهل البيت بمقام الإمامة، فكيف إذا أصبحوا يدَّعون المظلومية لأنفسهم، والغاصبية والعدوانية من أهل البيت عليهم السلام، وعلى رأسهم الإمام علي عليه السلام، عليهم وعلى حقوقهم؟!..
وسوف يجدون الكثيرين من البسطاء والسذج، وطلاب الدنيا، والجهال، وحديثي العهد بالجاهلية، يستمعون إليهم، ويقبلون منهم، ويأخذون عنهم..
كما أن الخوارج والزبيرية والعثمانية، والموالين لغير أهل البيت، وأهل المطامع والأهواء، سوف ينشطون لمواجهة خط أهل البيت عليهم السلام ونهجهم، وسوف يسرحون، ويمرحون، ويضلون، ويشككون، ويثيرون الفتن، ويشيعون الباطل في الناس. ولربما تحدث تقلبات وفتن تزيد الطين بلة، والخرق اتساعاً، حين تتشارك آلاف الأيدي الأثيمة، في تشويه صورة الحق، وفي زرع الفتنة، وتمزيق المسلمين..
الثاني: أن لا يتحقق انتصار حاسم لأي من الطرفين، بل يبقى كل فريق في موقعه، كما كان الحال عليه في زمن الإمام علي عليه السلام..
ومن الواضح: أن هذا الأمر لن يأتي بسهولة، بل سوف يكون ثمنه خوض حروب صعبة، قد تكون كبيرة وخطيرة، بالإضافة إلى الكثير من الضحايا من خلص الشيعة، ومن الناس عامة..
أما النتائج: فهي بلا شك ستكون ضئيلة، وغير متكافئة مع حجم التضحيات وفقاً لما أوضحناه آنفاً، وذلك في ظل النشاط التخريبي للأخطبوط الأموي، وكل المناوئين لأهل البيت عليهم السلام..
ولعلك تقول:
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا حارب الإمام علي عليه السلام معاوية، ولم يسع إلى الصلح معه؟!..
ونقول في الجواب:
إن الإمام علياً عليه السلام كان قادراً على الحرب، وعلى تسجيل النصر الحاسم فيها.. فسعيه لمسالمة معاوية يعطي الانطباع بأن معاوية محق فيما يدعيه..
الثالث: أن ينتصر معاوية في الحرب، والثمن سوف يكون في هذه الحالة أعلى وأغلى، فإن الدماء التي سوف تسفك في حرب كهذه، سوف تكون كثيرة وغزيرة، ولن يقتصر ذلك على دماء شيعة الإمام علي عليه السلام، بل هي سوف تتعداهم إلى غيرهم، كما أن الآثار السلبية للحرب السياسية منها، والاجتماعية، والأخلاقية، والاقتصادية، وغيرها سوف تكون كبيرة وخطيرة جداً..
أضف إلى ذلك: أن هذه الحرب سوف تتمخض عن نتائج مرعبة هي بلا شك الأشر والأضر: هي قتل أهل بيت النبوة، واستئصالهم، ثم الملاحقة بالإبادة الأكيدة لجميع أهل الإيمان، أينما كانوا، وحيثما وجدوا..
وإذا كان معاوية قد تتبع شيعة الإمام علي عليه السلام حتى استأصلهم رغم أنه لم يخض مع الإمام الحسن عليه السلام حرباً، ورغم العهود التي أعطاها في صلحه وعقد هدنته معه، فماذا ستكون النتيجة؟!..
وكيف سيعامل شيعة الإمام علي والإمام الحسن عليهما السلام، لو أن الإمام الحسن عليه السلام كان قد حاربه، وانتصر هو على الإمام عليه السلام؟!..
وإذا تمخضت الحرب عن هذه النتائج، فمن يا ترى يمكن أن يكون الداعي إلى الحق، والمدافع عنه؟!، ومن يجرؤ على تعريف الناس به، أو دلالتهم عليه؟!..
فإن هذا الدين سوف يصبح بلا شك أسيراً بأيدي الأشرار، وعلى رأسهم من هو مثل يزيد لعنه الله، والوليد، ومروان، ومن تابعهم وشايعهم، من أمثال الشمر بن ذي الجوشن، وعمر بن سعد، وعبيد الله بن زياد، والحجاج، وخالد القسري، وغيرهم ممن هو على شاكلتهم..
ومن جهة أخرى: فإن معاوية الذي استطاع أن يجند المسلمين لحرب أعظم رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن يخدع الناس بشبهاته وشائعاته، وأن يستفيد إلى أبعد الحدود من قتل عثمان، ومن علاقته بعمر بن الخطاب.. لو انتصر على الإمام الحسن عليه السلام، فسوف يكون أقدر على تشويه الصورة، وقلب الحقائق، وسوف يستعين بكل ما له من مال ورجال، وسيشتري الضمائر، ويشوه الدين، ويعبث بأحكامه بلا رقيب، أو عتيد..
فلا بد من تجاوز مرحلة معاوية بأفضل الطرق والوسائل، خصوصاً بعد أن سمى نفسه بأمير المؤمنين بعد التحكيم، حيث إن هذا سيجعله أكثر شراسة في الدفاع عما يعتبره إنجازاً عظيماً في سياق تحقيق طموحاته وأطماعه الكبرى..
ولعلك تقول:
إن هذه الأمور لا بد أن تمنع أيضاً من مواجهة الإمام الحسين عليه السلام ليزيد لعنه الله..
ونقول في الجواب:
إن الأمر بعد الصلح قد أصبحت له حيثيات أخرى، فإن حركة الإمام الحسين عليه السلام الجهادية قد جاءت لتؤكد ثمرات هذا الصلح، وتحفظها..
وإذا كانت الأمور تسير باتجاه تكريس النصر العسكري لصالح معاوية، حين استطاع أن يخرج الألوف الكثيرة من جيش الإمام الحسن عليه السلام، من دائرة الصراع المسلح، من خلال شراء ضمائر قادتهم، وكان من بينهم أقرب الناس إلى الإمام، وواليه على اليمن، وابن عم النبي صلى الله عليه وآله، وهو عبيد الله بن العباس الذي خان الإمام الحسن عليه السلام، ولحق بمعاوية في ثمانية آلاف، لقاء مئة ألف درهم، كما رواه الفضل بن شاذان في بعض كتبه....
مع أن معاوية قد قتل له طفلين في اليمن، فقد أتي بهما أحد قواده، وهو بسر بن أبي أرطأة، فذبحهما..
هذا فضلاً عمن انحاز إلى معاوية، مع غير عبيد الله، مع العلم بأن جيش الإمام الحسن عليه السلام بأجمعه ربما لم يكن يزيد على العشرين ألفاً... في مقابل ستين ألفاً عند معاوية كما نصت عليه المصادر.. وفي بعضها أن معاوية كان في مئة ألف..
ويدل على أن عدة جيش الإمام الحسن عليه السلام لا تزيد على ذلك، أما ما ذكروه من أنه كان ولى كندياً على أربعة آلاف فانحاز إلى معاوية في مئتين منهم، ثم أرسل أحد بني مراد على أربعة آلاف أيضاً، فانحاز إلى معاوية أيضاً، فأعلم الناس بذلك، فادعوا: أنهم مناصحون له، فقال لهم: «إن معسكري بالتحلية، فوافوني، وإني لأعلم أنكم غادرون بي، ووالله، لا تفون بعهدي، ولتنقضن الميثاق بيني وبينكم»..
ثم إنه أخذ طريق النخيلة فعسكر عشرة أيام، فلم يحضره إلا أربعة آلاف..
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة