السبب في اهتمام الله ورسوله بشأن خديجة
لقد تخلّت حضرة السيّدة خديجة سلام الله عن جميع الأوهام والاعتبارات من أجل طلب مرضاة الله سبحانه فقط، ولهذا فمن الطبيعي أن يذكرها النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله طوال عمره... إذ إنّ النبيّ الأكرم لا يذكر أحداً بهذا الشكل دون سبب؛ فهل كان ذكر النبيّ لها مجرّد ذكر لإحدى زوجاته التي توفّيت عن عمر يناهز الخامسة والستين؟! ما الذي يدعوه إلى ذكرها حتّى آخر حياته؟ أم ما الذي يدفعه إلى البكاء عليها؟! نعم، فالنبيّ كان يذكرها ويبكي عليها! فهذه الأمور ليست اعتباطيّة أبداً بل لها ألف حساب وكتاب.
فهذا جابر بن عبد الله الأنصاري يروي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال: عندما رجعت من المعراج، قلت لجبرئيل: يا جبرئيل هل لك من حاجة؟ فقال: حاجتي أن تقرأ على خديجة من الله ومنى السلام وحدثنا عند ذلك أنها قالت حين لقيها نبي الله عليه وآله السلام فقال لها الذي قال جبرئيل، قالت: إنّ الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعلى جبرئيل السلام.
فالله سبحانه يقول لنبيّه في ليلة المعراج أن يقرأ السلام على زوجته خديجة! ونحن نعلم أنّ الله لا تربطه علاقة ولا قرابة بأحد، بل بابه مفتوح لجميع الناس، فالسيّدة خديجة كانت امرأة كبقيّة النساء، وفرداً كبقيّة الأفراد، لكنّها جاءت وخطت بقدم الصدق في طريق الله سبحانه، فبلغت إلى ذلك المقام الرفيع بحيث أنّ الله سبحانه ـ كما أوصى نبيه بأمير المؤمنين عليه السلام في ليلة المعراج ـ فإنّه أوصاه كذلك بالسيّدة خديجة، وطلب منه أن يقرأها السلام عنه!
يقول محمّد حسين هيكل في كتابه "حياة محمّد": إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يذهب إلى غار حراء مرّات عديدة طوال السنّة، ولكنّه بالإضافة إلى ذلك كان يقضي شهر رمضان كاملاً في غار حراء. وكانت السيّدة خديجة تبقى لوحدها في المنزل طوال مدّة غيبته، وكانت سلام الله عليها تحمل له الطعام بشكل منتظم فتصعد به إلى الغار في أعالي جبل النور... اذهب لتشاهد المكان الذي انتخبه النبيّ في أعالي الجبال، وترى الغار في وسط ذلك الجبل بحيث أنّ الوصول إليه عسير حتّى لمن يعرفه، فما بالك بمعرفة موقعه من الأساس؟!
لقد قضى النبيّ سنوات عديدة على هذه الحال، وكانت السيّدة خديجة ـ رغم صعوبة الوصول إلى هناك ـ تذهب كلّ أسبوع إلى غار حراء مشياً على الأقدام لكي تحضر الطعام للنبيّ! فلماذا كانت تفعل ذلك؟ لكي تساعد النبيّ في الوصول إلى المقام الذي ينبغي أن يصل إليه... لكي لا يضطرّ النبيّ إلى الرجوع إلى مكّة من أجل تحصيل الغذاء... فهذا يعني أنّ السيّدة خديجة تحمّلت مصاعب الوحدة والبعد عن النبيّ الأكرم؛ فهي رغم تعلّقها الشديد به، لكنّها كانت تبقى صابرة في المنزل لكي يصل النبيّ إلى المقام المطلوب منه ويطوي المراحل التي أمامه، فهي كانت تعرف المراحل التي على النبيّ الأكرم أن يقطعها، وكانت تعلم أنّ قطعها وعبورها يستلزم المجيء إلى الغار، فالوصول إلى تلك المراحل العالية يقتضي أن يختار الإنسان العزلة والبعد عن الناس، ويجب أن يحدّد لنفسه في كلّ يوم وقتاً ليخلو به مع نفسه، ونحن لدينا العديد من الروايات الواردة بشأن العزلة، كما يوجد بعض التعارضات التي ينبغي بيانها...
ومن ذلك ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: اجعل لنفسك وقتاً لتتفكّر في نفسك وأعمالك. فإذا ما واظب المرء على ذلك، صارت عنده ملكة، وانتقلت فائدة ذلك إلى بقية الأوقات، أمّا من لا يفعل ذلك، فإنّ الأحداث التي تمرّ عليه أثناء اليوم ستحرف ذهنه بشكل كامل عن الالتفات إلى القضايا الواقعية، فلا يبقى له حضور قلب ولا توجّه...
لقد كان النبيّ صلّى الله عليه وآله بحاجة إلى الذهاب إلى غار حراء لكي يصل إلى المقام المنشود، وإلاّ فقد كان بإمكانه أن يبقى في منزله، فذلك النبيّ الذي له تلك الخصوصيّات المعيّنة كان يتوجب عليه أن يبتعد عن زوجته... فرغم أن السيّدة خديجة كان لها ذلك المقام الرفيع، إلا أنّ النبيّ كان بحاجة إلى الابتعاد عن كلّ شيء حتّى عن السيّدة خديجة وإلى الذهاب إلى غار حراء. وكانت السيّدة خديجة تفهم ذلك وتدركه جيّداً، وهي قد تحمّلت ذلك وصبرت عليه من أجل مساعدة النبيّ في الوصول إلى هدفه المنشود.
اختيار النبيّ لخديجة
هذا من ناحية السيدة خديجة عليها السلام، أمّا من الناحية الأخرى [أي من ناحية النبيّ الأكرم] فنلاحظ أنّ النبيّ قد تزوّج السيّدة خديجة وهو في الخامسة والعشرين من عمره.. ذلك السنّ الذي يكون الإنسان فيه في قمّة فوران غرائزه، فصحيح أنّ السيّدة خديجة في ذلك الوقت كانت ذات مكانة اجتماعيّة وذات ثروة عظيمة، ولكنّها عند الزواج من النبيّ الأكرم كان عمرها أربعين سنة، وبالتالي فقد كانت أكبر من النبيّ بخمسة عشر عاماً!! كما أنّها كانت قد تزوّجت مرتين قبله، وكلا زوجيها كان قد ارتحل من الدنيا.
فالنبيّ الأكرم الذي كان في ذروة شبابه، وفي الفترة التي تكون الغرائز فيها في أقوى مراحلها ـ فالنبيّ الأكرم كان في النهاية شابّاً كسائر الشباب، أضف إلى ذلك أنّه كان يعيش في الجزيرة العربيّة حيث الأجواء الحارّة وما يقتضيه ذلك من طبائع خاصّة عند أهل تلك البلاد ـ إنّ مثل هذا النبيّ يقدم على الزواج من امرأة عمرها أربعون سنة، واستمرّ زواجه منها حتّى زمان بعثته الشريفة خمس عشرة سنة، وبهذا يكون عمر السيّدة خديجة عند بعثة النبيّ الأكرم خمساً وخمسين سنة، ثمّ كان ارتحال السيّدة خديجة بعد عشر سنوات من البعثة؛ أي في الخامسة والستين من عمرها الشريف. وبالتالي يظهر لنا أنّ النبيّ الأكرم تزوّج من السيّدة خديجة في الخامسة والعشرين من عمره، وكان في الخمسين من عمره عند وفاتها، وكما تعلمون فإنّ تمتّع الشاب بالمسائل الجنسيّة يبلغ ذروته وأوجه في هذه الخمسة والعشرين سنة من عمره، أليس كذلك؟ فهذه المرحلة تبدأ من الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين حتّى الخامسة والأربعين أو حتّى الخمسين كحدٍّ أقصى، وبعد ذلك تبدأ بالتراجع تدريجيّاً.
وهنا لنا الحقّ أن نسأل بأنّه: هل كان ذلك الزواج زواجاً عاديّاً؟! والأعظم من ذلك، أنّ النبيّ الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله ـ لم يتزوّج من امرأة أخرى طالما كانت السيّدة خديجة على قيد الحياة؛ يعني إنّ النبيّ الأكرم حتّى وفاة السيّدة خديجة وهي في الخامسة والستين من عمرها، وهو في الخمسين من عمره لم يتزوّج من امرأة أخرى إطلاقاً! إنّ النبيّ الأكرم لم يتزوّج امرأة أخرى طوال هذه المدّة احتراماً وتعظيماً للسيّدة خديجة عليها السلام!
ثمّ بعد ذلك نأتي لنرى أنّ هؤلاء المستشرقين المعاندين يدّعون أنّ النبيّ الأكرم كان إنساناً شهوانيّاً طالباً للرئاسة والسلطة، وأنّ الهدف من دعوته كان الوصول إلى الملك والسلطنة، وأنّه كان كثير الزواج بحيث أنّه كان ينتخب زوجة من كلّ مكان يذهب إليه، وكلّما أعجبته فتاة فإنّه كان يتزوّجها، حتّى بلغ عدد زوجاته تسعة أو إحدى عشر أو ثلاثة عشر بناء على أحد الأقوال، ما عدا الإماء اللاتي كنّ عنده!!
والحال أنّنا رأينا أنّ النبيّ الأكرم لم يتزوّج هؤلاء النساء إلاّ بعد الخمسين من عمره، رغم أنّ أقصى درجات القدرة إنما كانت في السنوات الخمسة والعشرين السابقة لذلك والتي قضاها مع السيّدة خديجة، ومع ذلك لم يتزوّج امرأة غيرها، فهذا النبيّ عندما تزوّج بعد ذلك فهل كان الدافع وراء زواجه هو هذه المسائل العاديّة؟! وهل كان زواجه مبنيّاً على هذه المسائل المتعارفة؟! كلاّ، من الواضح أنّه لم يكن كذلك؛ بل كان ذلك مبنيّاً على حسابات أخرى غير هذه؛ فالنبيّ كان في أفق آخر.. النبيّ الأكرم كان يحلّق عالياً في مكان آخر.. النبيّ الأكرم لم يكن في هذا العالم أصلاً!!
ومن هنا نعلم لماذا أمر الله سبحانه جبرئيل في ليلة زواج النبيّ من خديجة أن يأخذ قبضة من مسك الجنّة وقبضة من العنبر وقبضة من الكافور، فينثرها على جبال مكّة، ويقال أنّ جميع أهل مكّة كانوا يتعجّبون من راحة العطر التي شمّوها في تلك الليلة. إنّ هذا الأمر يعدّ من ضمن التأثيرات الملكوتيّة لهذا الزواج المبارك! وهذه تأثيرات عجيبة، وأظنّ أنّكم سمعتم بأنّه في بعض الأوقات قد تترشّح من الإنسان رائحة عطرة بسبب بعض الحالات الروحيّة فتعطّر الأجواء، وهذا العطر هو عطر من الجنّة، لا مثيل له في الدنيا.
ينقل عن المرحوم السيّد علي القاضي، أو عن المرحوم السيّد جمال الدين الكلبايكاني أنّه كان قد ذهب إلى وادي السلام في النجف وبينما هو في طريق العودة ينقل أحدهم ـ ويبدو أنّه المرحوم الشيخ محمّد تقي الآملي ـ أنّه أحسّ برائحة عطر غاية في اللطف تترشّح منه وتتصاعد، ويقول: لقد تتبّعت مصدر العطر وسرتُ خلف صاحبه، فلمّا وصلت إلى سوق النجف والتقيت بأحد كبار النجف ومراجعه وسلّمت عليه وتكلّم معي أن أين أنتم؟ ولماذا لا نراكم في مجالسنا؟! فزالت تلك الرائحة العطرة، حينها يلتفت صاحب هذه الرائحة إلى ورائه ـ وهو يعلم بمن وراءه غاية الأمر أنّ من وراءه لم يكن يعرف ذلك ـ ويقول لي: أرأيت كيف أنّ لقاء واحداً وكلاماً واحداً يسلب من الإنسان ما آتاه الله... حديث واحد وسلام واحد مختصر... فما هو ذاك العطر الذي لا نظير له؟ إنّه تلك الجهة الملكوتيّة للإنسان والتي حصلت له بسبب زيارة وادي السلام.
وعلى أيّة حال، فقد قضى النبيّ صلّى الله عليه وآله مدّة من عمره في غار حراء كما تنقل الروايات، وقد كان يذهب إلى الغار في مختلف أيّام السنة إضافة إلى أيام شهر رمضان المبارك، إلى أن بعث بالرسالة في السابع والعشرين من رجب كما هو معروف في القصّة المفصّلة. وقد كان من المتعارف في ذلك الزمان عند الكثير من رجال العرب ومفكّريهم أن يعتزلوا الناس ويقضوا مدّة من عمرهم في التفكّر تقرّباً إلى الآلهة، وذلك نظير الاعتكاف الرائج عند المسلمين، وقد كان يحصل لهؤلاء روحانيّة خاصّة وتجرّد في الجملة فتمتاز أعمالهم وسيرتهم عمّا عليه الناس، وبالطبع لم يكن هؤلاء من الموحّدين، إلاّ أنّهم كانوا يعدّون الأصنام وسائط للوصول إلى الله والتقرّب منه، وكان يسمّى عملهم هذا بالتحنّف، وهو يعني الاستقامة وصحّة العبادة لله، تقول الآية: {وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاء}، {ما كانَ إِبْراهيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكين}، فالحنيف هو سالك الصراط المستقيم وطريقه هو الطريق المستقيم.
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها
هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (2)
أزمة العلمانية مع الإسلام
تفسير القرآن الكريم بمعناه اللّغوي
البسملة