من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

العوامل المساعدة على انتصار الإسلام وانتشاره (1)

منطلق الدعوة: مكة

 

أ ـ إنه يلاحظ أن الإسلام قد انطلق من أقدس بلدٍ لدى الإنسان العربي، بل ولدى غيره أيضاً، وهو المكان الذي تهوي إليه ثمار الأفئدة من كل مكان، وهو ملتقى لكل العواطف، ومحل آمال الناس، وغاية رجائهم.

 

ب ـ يقول البوطي: (البقعة الجغرافية للجزيرة العربية ترشحها للقيام بعبء مثل هذه الدعوة ؛ بسبب أنها تقع ـ كما قلنا ـ في نقطة الوسط بين الأمم المختلفة التي من حولها، وهذا مما يجعل إشعاعات الدعوة الإسلامية تنتشر بين جميع الشعوب والدول المحيطة بها في سهولة ويسر) (1).

 

وطبيعي: أن هذا الدين لو كان ظهر في بلاد كسرى؛ فإن أتباع قيصر لا يتبعونه، وكذلك العكس؛ وذلك بسبب المنافسة القائمة بين الإمبراطوريتين والحواجز النفسية الحاكمة والمهيمنة على الأمتين.

 

ج ـ لقد بدأ (صلى الله عليه وآله) دعوته في مكان بعيد عن نفوذ الدولتين العظيمتين: الرومان، والفرس، وغيرهما من الدول ذات القوة.

 

إذن، فلا قوة قاهرة تستطيع أن تضرب الضربة الحاسمة، وتقضي على دعوته في مهدها؛ وذلك لأن المحيط الذي بدأ فيه دعوته، والحجاز عموماً، كانت تسيطر عليه الروح القبلية، ويطغى عليه التعصب القبلي، والقوى فيه متكافئة تقريباً، وكانت القبائل المتعددة كثيرة ـ فبطون قريش وحدها كانت عشرة أو تزيد ـ يرقب بعضها بعضاً، ويخشى بعضها بأس بعض.

 

هذا كلّه، عدا عن أنها كانت تعرف: أنها إذا أرادت أن تنتهك حرمة الحرم، ويحارب بعضها بعضاً؛ فإن مكانتها واحترامها ـ وبالتالي مصالحها الحيوية سوف تتعرض لدى سائر العرب لنكسة قاسية، إن لم تكن قاضية.

 

خصائص شخصية الرسول صلى الله عليه وآله

 

أ ـ لقد كان صاحب هذه الدعوة: محمد (صلى الله عليه وآله) من قريش، أعظم قبائل العرب خطراً، وقوة، ونفوذاً، والتي كان ينظر إليها ـ كل أحد ـ بعين الإجلال والإكبار، وبالأخص هو من البيت الهاشمي منها، الذي كان يمتاز بالنزاهة والطهر، وله السيادة والزعامة، والسؤدد في مكة، وله الشرف الرفيع الذي لا يدانيه ولا ينازعه فيه أحد.

 

فمحمد (صلى الله عليه وآله) إذن ليس بحاجة إلى الشرف والزعامة ليجعل من ادّعاء النبوة وسيلة للوصول إليها، والحصول عليها، وقد كان واضحاً ـ لو قيست الأمور بالمقاييس العادية ـ أن دعواه تلك لسوف تجر عليه الكثير من المتاعب والمصائب، ويكون بذلك قد فرط بكل ما لديه من رصيد اجتماعي في هذا المجال، فاستمراره في دعوته مع وضوح أخطارها له يعتبر أمراً غير منطقي، لو كان ما يدعيه لا واقعية له.

 

كما أن كل أحد يكون على استعداد لقبول الدعوة من بني إسماعيل، الذين هم مهبط الوحي، ومعدن الطهر، وسيأتي إن شاء الله تعالى في مباحث عرض الرسول (صلى الله عليه وآله) دعوته على القبائل، أنه لما عرض دعوته على بني عامر بن صعصعة، ورفضوا إلا أن يجعل الأمر فيهم بعده، ورفض هو، وعادوا إلى بلادهم، وتحدثوا بما كان لشيخ لهم، وضع ذلك الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من مطلب؟ والذي نفس فلان بيده، ما تقوّلها إسماعيلي قط، وإنها لحق؛ فأين رأيكم كان عنكم؟.

 

ب ـ تلك الخصائص والمميزات في الرسول (صلى الله عليه وآله) نفسه، والتي أشار إليها جعفر بن أبي طالب بقوله: (بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته وعفافه). حتى لقد لقب ب‍ (الصادق الأمين) فقد كان لذلك أثر كبير في ظهور دعوته، وانتصار وانتشار رسالته، وقد كان تحلّيه (صلى الله عليه وآله) بهذه المواصفات ضرورياً، لأن فقدانها موجب لريبهم، كما قال تعالى: ﴿ ... إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ (2). هذا كله، بالإضافة إلى ما قد تمدّحه الله عليه من خلقه العظيم، فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ (3) (4).

 

ومع ذلك فإننا نود أن نخص بالذكر هنا ما يلي:

 

1 ـ إننا نجد البعض يسلم استناداً إلى شهادة الرسول (صلى الله عليه وآله) نفسه، فقد ورد أن رجلاً دخل على جمل؛ فأناخه في المسجد، وعقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي (صلى الله عليه وآله) متكئ بين ظهرانيهم. فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟ فقال له (صلى الله عليه وآله): قد أجبتك. فقال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة؛ فلا تجد علي في نفسك. فقال: سل عمّا بدا لك. فقال: أسالك بربك ورب من قبلك، أالله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: اللهم نعم. فقال: أنشدك بالله، أالله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟. قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله.. إلى أن قال: فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة الخ.. (5).

 

فإن عدم قدرة ضمام على تمييزه (صلى الله عليه وآله) عن أصحابه، لخير دليل على خلق النبي العظيم، وعلى أن الإسلام لا يعترف بتلك الفوارق المصطنعة بين الحاكم ورعيته، ولا يعتبر أن الحكم يعطي للحاكم امتيازاً، وإنما هو مسؤولية. كما أن إسلام ضمام استناداً إلى شهادة النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه ليعتبر الذروة في الثقة به (صلى الله عليه وآله)، وتأثير هذه الثقة في قبول دعوته، وانتشار رسالته.

 

2 ـ هذا مع ما كانت تعرفه قريش فيه، من وفور العقل، وحسن التدبير، وأصالة الرأي..... ثم ما ظهر له من الآيات والبراهين، حين ولادته، وبعدها، وكونه ابن الذبيحين، الأمر الذي جعل له قدسية خاصة في نفوس الناس. نعم، إن كل ذلك قد وضع قريشاً، وسائر الناس أمام الأمر الواقع، فكان كل من يحاول تكذيبه (صلى الله عليه وآله) يجد نفسه أمام صراع داخلي ووجداني؛ لأن وجدانه وضميره كان يقول له:

 

أنت الكاذب الحقيقي، وهو الصادق الأمين، وهو محل الثقة المطلقة، وأنت مظنّة الخيانة، وهو صاحب الرأي والتدبير، والعقل الكبير، وأنت القاصر المقصر في ذلك، وهكذا الحال في سائر صفاته الغر، وأخلاقه الفضلى.

 

3 ـ وقد عزز ذلك وقوَّاه: أن كل أحد كان يعرف أميته (صلى الله عليه وآله) (6)، وأنه لم يتلق العلم والمعرفة من أحد، وها هو لا يستطيع أحد على وجه الأرض أن يدعي المعرفة بجزءٍ مما جاء به، فضلاً عن بيئته المتناهية في الجهل والضياع، فلم يكن ثمة مجال للارتياب في صدقه، وصحة دعوته، إلا من مكابر، لا يرى إلا نفسه، ولا يفكر إلا فيها.

 

وحتى لو كان قارئاً، فماذا عساه يجد في كتب السابقين، وهل يمكن أن يقـاس ذلـك بما جـاء به (صلى الله عليه وآله) من المعارف العالية، والتشريعات المعجزة، بلسان القرآن، الذي يعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بسورة من مثله؟!

 

4 ـ ثم هو لم يسجد لصنم قط، فلا يستطيع أحد أن يعترض عليه بأنك أنت كنت بالأمس تسجد للأصنام، وتعبد الأوثان؛ فلماذا تكفر بها اليوم؟!. فإن كانت عبادتها تخالف العقل والفطرة، فأين كان عنك عقلك، ولماذا شذت بك فطرتك؟!.

 

5 ـ ثم يأتي بعد ذلك أسلوب دعوته المتطور، على وفق الحكمة، وعلى حسب مقتضيات الأحوال، وفي حدود الأهداف الرسالية، التي لا بد من التقيد بها، وفي حدودها.

 

6 ـ ثم هناك إصراره وصبره وتحمله لكل المشاق والآلام، ورفضه لكل المساومات، حتى إنهم لو وضعوا الشمس في يمينه، والقمر في شماله على أن يترك هذا الأمر ما تركه، بل هو لا يقبل منهم أن يسلموا شرط أن يعطيهم فرصةً زمنية للتزود من عبادة أوثانهم، مما أوضح لهم: أن المسألة تتجاوز حدود اختياره، وأن رب السماء هو الذي يرعى هذا الأمر، ويريده منهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. فقه السيرة ص35 .

2. القرآن الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 48، الصفحة: 402.

3. القرآن الكريم: سورة القلم (68)، الآية: 4، الصفحة: 564.

4. وثمة احتمال آخر في الآية الشريفة . راجع مقالاً لنا بعنوان : فلسفة الأخلاق في الإسلام في كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام.

5. البخاري هامش فتح الباري ج1 ص139 ـ 141 ، وليراجع فتح الباري نفسه أيضاً ، للاطلاع على العديد من المصادر ، والبداية والنهاية ج5 ص60 عن ابن إسحاق وتاريخ الأمم والملوك ، للطبري ج2 ص384 .

6. لنا بحث حول المراد من كونه (صلى الله عليه وآله) أمياً . . وأن المراد أنه أمي بحسب معرفة الناس به ، ولكنه كان قارئاً وكاتباً بالإعجاز الذي فاجأهم وبهرهم ، راجع : مختصر مفيد ج1 ص10

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد