مقالات

في رحاب دعاء أبي حمزة الثمالي (4)

السيد منير الخباز

مما ورد عن أبي حمزة الثمالي عن مولانا زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: ”وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي أُنادِيهِ كُلَّما شِئْتُ لِحاجَتِي وأَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ لِسرِّي بِغَيْرِ شَفِيعٍ فَيَقْضِي لِي حاجَتِي“ والإمام ركز هنا على ملتقى الخلوة قال ”وأَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ لِسرِّي“ الله عز وجل فتح لنا هذا الباب وهو باب الخلوة به ”وأَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ لِسرِّي“ أي أن الهدف والداعي من الخلوة هو أباحة أسرار لا يمكن إباحتها لغيرة مهما دقق الإنسان ومهما فحص وبحث فلن يجد من يستقبله ويخلو به إلا الله لا يتصور أن يخلو الإنسان بغير الله مهما خلى الإنسان بأخيه بزوجته بولده فأن هذه ليست خلوة حقيقية.

الخلوة الحقيقية مع الموجود الذي إذا وقفت بين يديه أستقبلك بكل ما عندك وهذا لا يتحقق بالخلوة مع غيره أبدًا مهما خلوت بأحد غيره حتى لو كان أقرب الناس إليك حتى لو كان زوجتك ولدك أخاك فإنه يحمل تصورات أخرى غير الذي تتكلم، إذا خلوت بصديقي أو خلوت بأخي وأردت أن أحدثه عن ذنوبي وعن معاصيّ وأردت أن أحدثه عن أخطائي وعن شناعة جرمي فهل سيستقبلني؟ إني أخاف أن أفصح له عن ذنوبي فتكون له ردت فعل اتجاهي بالرفض والنبذ والاشمئزاز إنني أخاف أن أبوح له بذنوبي فيسلط عليّ لسان الوم والسخرية والاحتقار إني أخاف أن أبوح له بذنوبي فيحمل عن صورة مقيتة يذكرني بها متى شاء ومتى أراد.

فإذن الخلوة بأخي ليست خلوة حقيقية فإن معنى الخلوة الحقيقة التي تخلو من كل ردة فعل ”أَخْلُو بِهِ“ ”والحمدلله الذي أَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ لِسرِّي“ بمعنى أنني إذا وقفت بين يديه باكياً تائباً منيباً تحققت خلوة وليست معنى الخلوة، الخلوة المكانية وإنما معنى الخلوة: أنني إذا وقفت بين يديه خلا من أي رفض لي خلا من أي نبذ ليّ خلا من أي ردة فعل اتجاهي ولم يكن دوره اتجاهي إلا القبول والاحتضان ومسح الآثار السيئة والمسح لما مضى من الذنوب المقيتة فأي لقاء مع أخ أو صديق أو زوجة أو ولد ليس خلوة إذا لا يستطيع هذا الإنسان المقابل مهما أحبني مهما قربني لا يستطيع أن لا يتصور صورة سيئة عني لا يستطيع فلا تحقق خلوة مع إنسان وإنما تحقق الخلوة مع الموجود الذي وهبني الحياة وأفاض عليّ النعم وقربني وآذناني وناداني في كل حين﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[1] .

فالله هو ملتقى الخلوة لقاء الله هو الخلوة لأن لقاءه ستر لذنوب أبوح بذنوبي فيمحوها وأتكلم بعيوبي فيسترها حتى عن ملائكة حتى عن المكان الذي فعلت فيه الذنب حتى عن الزمن الذي صنعت فيه الرذيلة يمحو كل رقيب عليّ وهو الذي يحتضنني ويستقبلني ويقول ليّ أنا الموجود الوحيد الذي يغير حالك إلى أحسن الحال لو شكوت إلى غيري شكوت إلى مخلوق عاجز مثلك لا يستطيع تغير أوضاعك لو شكوت ذنوبك ومعاصيك وعيوبك إلى غيري من المخلوقين حتى لو استقبلك فإنه لن ينفعك بشيء لأنه ليس بيديه أن يغير أوضاعك إلى وضع أخر فأنا الوحيد الذي أستقبلك وأنا الوحيد الذي أمحو ذنوبك وأنا الوحيد الذي أغير وضعك إلى أحسن الحال فالخلوة بغيري خلوة صورية شكلية، وأما لقائي فهو الخلوة الحقيقية ”أَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ لِسرِّي“ الذي لا أريد أن يعرفه غيري، فما هي معالم الخلوة الحقيقية؟ كل واحد منا يريد أن يخلو مع الله خلوة حقيقية، فما هي معالم الخلوة الحقيقية؟

للخلوة معالم:

المعلم الأول: استذكار المعصية: إذا جلست بين يدي ربيّ فلأستذكر معاصي حتى المعاصي التي تبت منها حتى المعاصي التي استغفرت منها حتى المعاصي التي تبت منها حتى المعاصي استغفرت منها فلأمر على شريط المعاصي معصية معصية معصية استذكار المعصية والذنب.

المعلم الثاني: استشعار الحسرة: لأخرج من قلبي شيئًا يخيم على قلبي وهو وجع الذنب ألم المعصية الفرق بين المؤمن والمنافق أن المؤمن يتألم إذا عصى والمنافق لا يغير من وضعه شيء .أن المؤمن إذا أذنب كان ذنبه كصخرة ثقيلة على صدره وإن المنافق إذا أذنب كان ذنبه كذبابة مرت على أنفه فأطارها، المؤمن من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن، المؤمن هو الذي يتألم يتوجع من المعصية إذا أردت أن تخلو مع الله فأخرج هذا الوجع من القلب إلى العين إلى اللسان حاول أن تستشعر الحسرة حاول أن تستشعر الآهة حاول أن نستشعر الندم.

أمير المؤمنين علي عندما يصف المتقين

أمّا الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلاً يحزّنون به أنفسهم، تحزين لا يوجد مؤمن لا يحمل حزن المؤمن يحمل رصيدًا من الحزن منغمسًا في قلبه. المؤمن يستثير ذلك الحزن ”يحزنون به أنفسهم وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ“ استثارة الخلوة تحتاج إلى استثارة، استثارة الحسرة والآهة والندم ليطغى عليك الحزن والألم ”إلهِي إنْ كانَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْب تَوْبَةً، فَإنِّي وَعِزَّتِكَ مِنَ النَّادِمِينَ، وَإنْ كَانَ الاسْتِغْفارُ مِنَ الْخَطيئَةِ حِطَّةً، فَإنِّي لَكَ مِنَ الُمُسْتَغْفِرِينَ، لَكَ الْعُتْبى حَتّى تَرْضى“.

المعلم الثالث: استمطار الدمعة: ربما يجد الإنسان نفسه جافًا قاسيًا حجرًا صلدًا كلما حاول أن يستنزف دمعة لم يستطع كلما حاول أن يستجلب عبرة عجز.

ما هو سبب جفاف العين؟ ما هو سبب جذب الدمع؟ إنه قسوة القلب، هل وراء العين نبع ينبض بالحياة كي تدمع العين؟ أم وراء العين حجر جاف؟ ما هو الذي أحمله في صدري؟ هل أحمل في صدري نبعًا ينبض بالحياة؟ أو أحمل في صدري حجرًا صلدًا جافًّا؟

هناك من يحمل في صدره نبعًا فيه حياة فيه شعور بالله فيه شعور بالآخرة لأنه يحمل قلبًا ينبض بالحياة فعلام نبض الحياة نزول الدمع من جفنيه هذه العلامة على أنه يحمل بين أضلاعه نبع الحياة لكن أنا أحمل بين أضلاعي صخرة أمشي وأنا أشعر في صدري صخرة قاسية لا نبض فيها ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾[2]  جرب أن تضع حجرة على صدرك هل ترتاح؟ حجرة لا حياة فيها حجرة تخنقك تضيق أنفاسك القلب القاسي أشد من هذه الحجرة التي تخيم على صدرك القلب القاسي يضيق أنفاسك يمنعك من الدمعة يمنعك من الحسرة يحجب عنك الآهة.

﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾لكن قلبي ليس كذلك وسبب قساوة قلبي ترادف الذنب على الذنب كلما قلت انتهيت خلصت ارعويت عدت لذنب مرة أخرى ترادف الذنب على الذنب ملء قلبي قسوة وتحجر بل جعل قلبي جيفته ممتنة لا تطاق لذلك لم أستطع استمطار الدمعة مع شدة محاولاتي لم أستطع استمطار الدمعه المعلم الثالث من معالم الخلوة الحقيقة استمطار الدمعة.

المعلم الرابع: جلب العفو: يا عفو يا غفور اللهم اعف عنا جلب العفو، كيف تجلب العفو؟ هنا تحتاج إلى حالة التدلل أهل المعرفة يقولون أجمل اللقيا ساعة التذلل أجمل لقاء التذلل، التذلل بعد الحسرة بعد الدمعة أجمل لقاء التذلل هو تذلل الطفل على والده أما رأيت طفلًا يتذلل على والده، أما رأيت طفلًا يمسك بثوب أبيه يلح يصر يلح يصر إلى أن يستجيب له والده. إن الله يريد بك هذه الحاله من معالم الخلوة أن تصر تلح تتذلل تترجى تتوسل تكثر من الكلام تكثر من الإلحاح أشعر نفسك بأنك متذلل﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾[3]  لولا هذا الإصرار والإلحاح والتذلل لماذا يخلو بك دون غيرك؟ ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ فنحتاج إلى حالة التذلل.

المعلم الخامس: رجاء الزلفى: إذا عفوت عني فأزلفني لديك قربني منك ادنني منك رجاء الزلفى ورجاء الزلفى يتم بحالة الصعق، هل وجدت إنسانًا مصعوقًا؟ نعم تحتاج إلى أن تعيش حالة الصعق مع الله عز وجل لاحظ الإنسان الذي إذا فقد عزيز كيف يصعق لفقد عزيزه لاحظ الإنسان الذي إذا فقد ولد أو أب أو صديق عزيز كيف يصعق يصاب بالهستيريا يصرخ يلطم يضرب هذه حالة الصعق يفقد شعوره لأنه فقد عزيز، لاحظ الإنسان الذي يصاب بإحباط في الحياة نتيجة فقد الرزق نتيجة فقد المستقبل كيف يصعق كيف يصاب بالهستيريا هذه الحالة لو حصلت لنا مع الله لكانت مقربًا ومحققًا لزلفى أن الإنسان يصعق أمام ربه.

إذا جلس في صلاة الليل وتذكر الذنب واستشعر الحسرة واستمطر الدمعة وجلب العفو بالتذلل ووصل إلى هذه الحالة الأخيرة حالة الصعق صار يصرخ يبكي يتألم يتوجع إذا وصل إلى حالة الصعق وصل إلى شيء ورشحة من رشحات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي كان يصعق كل ليلة وكان يغشى عليه من شدة البكاء وهو سيد الموحدين وأمير المؤمنين فيحرك فإذا هو كالخشبة اليابسة أمير المؤمنين يحاسب نفسه إذا خلا ويقلب كفيه على ما مضى أمير المؤمنين يمثل هذه الحالة حالة الصعق.

موسى رأى نور ربه: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾[4]  ولكن أمير المؤمنين لم يحتج إلى أن يرى الجبل دكًّا حتى يخر صعقًا بل كان في كل لقاء مع ربه يخر صعقًا فلو عشنا هذه الحالة ليلة من ليال رمضان يوم من أيام السنة الكاملة دقائق من الدقائق عشنا حالة الصعق لمحت كثير من الذنوب وأزيلت كثير من أوساخنا وطهرت كثير رذائلنا ”أَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ لِسرِّي“.

والإمام زين العابدين علي في دعاء أبي حمزة يركز على مبادئ الصعق مقدمات الصعق ”ومالي لا أبكي“ البكاء هو المقدمة هو الطريق لحصول حالة الصعق ”وَمالي لا أبْكي وَلا أدْري إلى ما يَكُونُ مَصيري، وَأرى نَفْسي تُخادِعُني، وَأيّامي تُخاتِلُني، وَقَدْ خَفَقَتْ عِنْدَ رَأسي أجْنِحَةُ الْمَوْتِ، فَمالي لا أبْكي أبْكي، لِخُروجِ نَفْسي، أبْكي لِظُلْمَةِ قَبْري، أبْكي لِضيقِ لَحَدي «هذا الضيق الذي أراه في الحياة نتيجة الذنوب سأراه في القبر ضيقًا ماديًّا»، أبْكي لِسُؤالِ مُنْكَر وَنَكير إيّايَ، أبْكي لِخُرُوجي مِنْ قَبْري عُرْياناً ذَليلاً حامِلاً ثِقْلي عَلى ظَهْري، أنْظُرُ مَرَّةً عَنْ يَميني وَأخْرى عَنْ شِمالي، إِذِ الخَلائِقُ فِي شَأْنٍ غَيْرِ شَأْنِي لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ“.

ــــــــــــ

[1]  سورة الزمر، آية 53،
[2]  سورة البقرة، آية 74.
[3]  سورة الفرقان، آية 77.
[4]  سورة الأعراف، آية 143.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد