جورج جرداق
بيانٌ لو نطق بالتفريع لانقضّ على لسان العاطفة انقضاضاً. ولو هده الفساد والمفسدين لتفجّر براكين لها أضواءٌ وأصوات. ولو دعا إلى تأمّل لرافق فيك منشأ الحسّ وأصل التفكير، فساقك إلى ما يريده سوقاً ووصلك بالكون وصلاً.
ويندمج الشكل بالمعنى اندماج الحرارة بالنار، والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما أنت إزاءه إلا ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر والبحر إذ تموج والريح إذ تطوف.
أمّا إذا تحدّث إليك عن بهاء الوجود وجمال الخلق فإنّما يكتب على قلبك بمدادٍ من نجوم السماء.
ومن اللفظ ماله وميض البرق، وابتسامة السماء في ليالي الشتاء، هذا من حيث المادّة.
أمّا من حيث الأسلوب، فعليّ بن أبي طالب ساحر الأداء. والأدب لا يكون إلا باسلوب، فالمبنى ملازمٌ فيه للمعنى، والصورة لا تقلّ في شيءٍ عن المادة، وأيّ فنّ كانت شروط الإخراج فيه أقلّ شأناً من شروط المادّة؟
وإن قسط عليّ بن أبي طالب من الذوق الفنّي، أو الذوق الجمالي، لممّا يندر وجوده، وذوقه هذا كان المقياس الطبيعيّ الضابط للطبع الأدبيّ عنده.
أمّا طبعه هذا، فهو طبع ذوي الموهبة والأصالة الذين يرون فيشعرون، ويدركون فتنطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم، وتنكشف عنه مداركهم انطلاقاً عفويّاً، لذلك تميّز عليّ بالصدق كما تميّزت به حياته، وما الصدق إلا ميزة الفنّ الأولى، ومقياس الأسلوب الذي لا يخادع.
وإنّ شروط البلاغة، التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال، لم تجتمع لأديبٍ عربيّ، كما اجتمعت لعليّ بن أبي طالب.
فإنشاؤه أعلى مثلٍ لهذه البلاغة، بعد القرآن.
فهو موجزٌ على وضوح، قويٌّ جيّاش، تامّ الانسجام لما بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف، حلو الرنّة في الأذن موسيقيّ الوقت. وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي الشدّة، ويشتدّ ويعنف في غيرها من المواقف، ولا سيما ساعة يكون القول في المنافقين والمراوغين وطلاّب الدنيا على حساب الفقراء والمستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة، فأسلوب علي صريحٌ كقلبه وذهنه، صادق كطويّته، فلا عجب أن يكون نهجاً للبلاغة!
وقد بلغ أسلوب عليّ من الصدق حدًّا ترفع به حتى السجع عن الصنعة والتكلّف، فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجّعة أبعد ما يكون عن الصنعة وروحها، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر.
فانظر إلى هذا الكلام المسجع وإلى مقدار ما فيه من سلامة الطبع: "يعلم عجيج الحوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النينان في البحار العامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات".
أو إلى هذا القول من إحدى خطبه: "وكذلك السماء والهواء، والرياح والماء، فانظر إلى الشمس والقمر، والنبات والشجر، والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال، وتفرّق هذه اللغات، والألسن المختلفات... الخ".
وأوصيك خيراً بهذا السجع الجاري مع الطبع : "ثمّ زيّنها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب وأجرى فيها سراجاً مستطيراً وقمراً منيراً، في فلكٍ دائر، وسقفٍ سائر...الخ".
فإنّك لو حاولت إبدال لفظٍ مسجوع في هذه البدائع جميعاً بآخر غير مسجوع لعرفت كيف يخبو إشراقها، ويبهت جمالها، ويفقد الذوق فيها أصالته ودقّته، وهما الدليل والمقياس. فالسجع في هذه الأقوال العلوية ضرورةٌ فنّيةٌ يقتضيها الطبع الذي يمتزج بالصنعة امتزاجاً، حتى لكأنّهما من معدنٍ واحد، يبعث النثر شعراً له أوزانٌ وأنغامٌ ترفق المعنى بصورٍ لفظيّة، لا أبهى منها ولا أشهى.
ومن سجع الإمام آياتٌ ترد النغم على النّغم ردّاً جميلاً، وتذيب الوقع في الوقع على قراراتٍ لا أوزن منها على السمع ولا أبّ ترجيعاً.
ومثال ذلك ما ذكرناه من سجعاته منذ حين، ثمّ هذه الكلمات الشهيّات على الأذن والذوق جميعاً: "أنا يومٌ جديد، وأنا عليك شهيد، فاعمل فيّ خيراً، وقل خيراً".
وإذا قلنا: إنّ أسلوب عليّ توفّر فيه صراحة المعنى، وبلاغة الأداء، وسلامة الذوق الفنّي، فإنّما نشير إلى القارىء بالرجوع إلى نهج البلاغة ليرى كيف تتفجر كلمات عليّ من ينابيع بعيدة القرار في مادّتها، وبأية حلّةٍ فنّيةٍ رائعة الجمال تمور وتجري. وإليك هذه التعابير الحسان في قوله: "المرء مخبوء تحت لسانه" وفي قوله: "الحلم عشيرة" أو في قوله: "من لان عوده كثفت أغصانه" أو في قوله: "كل وعاءٍ يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنّه يتّسع" أو في قوله أيضاً: "لو أحبّني جبلٌ لتهافت".
أو في هذه الأقوال الرائعة: "العلم يحرسك وأنت تحرس المال.
رب مفتونٍ يحسن القول فيه.
إذا أقبلت الدنيا على أحدٍ أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.
ليكن أمر الناس عندك في الحق سواء.
افعلوا الخير ولا تحقروا منه شيئاً فإنّ صغيره كبيرٌ وقليله كثير.
هلك خزان المال وهم أحياء. ما متّع غنيٌّ إلا بما جاع به فقير" .
ثمّ استمع إلى هذا التعبير البالغ قمّة الجمال الفني وقد أراد به أن يصف تمكّنه من التصرف بمدينة الكوفة كيف شاء، قال: "ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها...".
فأنت ترى ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير والتعبير، هذه الأصالة التي تلازم الأديب الحقّ بصورةٍ مطلقة ولا تفوته إلا إذا فاتته الشخصية الأدبية ذاتها.
ويبلغ أسلوب عليّ قمة الجمال في المواقف الخطابية، أي في المواقف التي تثور بها عاطفته الجياشة، ويتّقد خياله فتعتلج فيه صورٌ حارةٌ من أحداث الحياة التي تمرس بها. فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه وتتدفّق على لسانه تدفق البحار. ويتميز أسلوبه، في مثل هذه المواقف، بالتكرار بغية التقرير والتأثير، وباستعمال المترادفات وباختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين المتدفّق عذوبةً ومتانة، وقد تتعاقب فيه ضروب التعبير من إخبارٍ إلى استفهامٍ إلى تعجبٍ إلى استنكار.
وتكون مواطن الوقف فيه قويةً شافيةً للنفس وفي ذلك ما فيه من معنى البلاغة وروح الفنّ. وإليك مثلاً لهذا، خطبة الجهاد المشهورة، وقد خطب عليّ بها الناس لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على مدينة الأنبار بالعراق وقتل عامله عليها: "هذا أخو غامدٍ قد بلغت خيله الأنبار، وقتل حسّان بن حسّان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها وقتل منكم رجالاً صالحين. وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينزع حجلها، وقلبها، ورعاثها، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلمٌ، ولا أريق لهم دم، فلو أنّ امرءًا مسلماً مات من بعد هذا أسفاً، ما كان به ملوماً، بل كان عندي جديراً. فيها عجباً، والله يميت القلب ويجلب الهمّ اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم، فقبحاً لكم حين صرتم غرضاً يرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون".
فانظر إلى مقدرة الإمام الفنية في هذه الكلمات الموجزة، فإنّه تدرّج في إثارة شعور سامعيه حتى وصل بهم إلى ما يصبو إليه. وسلك إلى ذلك طريقاً تتوفّر فيه بلاغة الأداء وقوة التأثير. فإنّه أخبر قومه بغزو سفيان بن عوف الأنبار، وفي ذلك ما فيه من عارٍ يلحق بهم. ثم أخبرهم بأنّ هذا المعتدي إنما قتل عامل أمير المؤمنين في جملة من قتل، وبأنّ هذا المعتدي لم يكتف بذلك فإغمد سيوفه في نحورٍ كثيرة من رجالهم وأهليهم.
وفي الفقرة الثانية من الخطبة توجّه الإمام إلى مكان الحميّة من السامعين، إلى مثار العزيمة والنخوة من نفس كلّ عربي وهو شرف المرأة.
(كتاب الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
السيد عبد الأعلى السبزواري
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي رضا بناهيان
الفيض الكاشاني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ مرتضى الباشا
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (1)
انتظار المخلّص بين الحقيقة والخرافة
تلازم بين المشروبات المحلّاة صناعيًّا أو بالسّكّر وبين خطر الإصابة بمرض الكلى المزمن
أسرار الحبّ للشّومري في برّ سنابس
الميثاق الأخلاقي للأسرة، محاضرة لآل إبراهيم في مجلس الزّهراء الثّقافيّ
الشيخ عبد الكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (9)
البسملة
لماذا لا يقبل الله الأعمال إلا بالولاية؟
أشدّ النّاس خسرانًا
كن أنت!