مقالات

أين الله في حياتك؟

السيّد عبد الحسين دستغيب

 

قال الإمام الرضا عليه السلام: «الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قسّم في الناس شيء أقلّ من اليقين. قال: قلت: فأيّ شيء اليقين؟ قال عليه السلام: التوكّل على الله، والتسليم لله، والرضى بقضاء الله، والتفويض إلى الله»(1).

 

العلم والعبوديّة: جوهران أساسيّان

نقل العلامة المجلسيّ (رضوان الله تعالى عليه) في شرح هذا الحديث عن بعض المحقّقين أنّ العلم والعبوديّة جوهران، وكلّ ما يراه المرء أو يسمعه في الكتب الدينيّة وبيانات العلماء ومواعظ الواعظين فإنّما هو لأجلهما (العلم والعبوديّة)، بل إنّ مجيء الأنبياء عليهم السلام وبعثتهم، وإنزال الكتب السماويّة، وخلق السماوات والأرض وما فيهما هو كذلك من أجلهما. وقد بيّن القرآن الكريم أهميّة هذين الجوهرين:

1. أهميّة العلم: يكفي لمعرفة أهميّة شرف العلم هذه الآية الشريفة: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ (الطلاق: 12)؛ فقد ذكر سبحانه في هذه الآية الشريفة أنّ الهدف من إيجاد العالم هو العلم بالله وإدراك علمه وقدرته اللامتناهيين كما مرّ.

2. أهميّة العبادة: يكفي لبيان شرف العبادة هذه الآية الشريفة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56).

 

العلم هو الدين والإيمان

العلم والعبادة هما لازم وملزوم وسبب ومسبّب؛ لأنّ العلم سبب زيادة العبوديّة، والعبوديّة سبب زيادة العلم. والمراد بالعلم هو الدين والإيمان، أي معرفة الله والملائكة الذين هم واسطة الوحي، ومعرفة كتاب الله، ومعرفة الأنبياء عليهم السلام ويوم الجزاء كما قال سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ (البقرة: 285).

وللعلم والإيمان مراتب في القوّة والضعف ودرجات في الزيادة والنقصان بعضها أعلى من بعض. والسبب في ذلك أنّ الإيمان يكون بمقدار العلم والنور الذي يضيء في القلب بواسطة رفع الحجاب بين العبد وربّه كما قال تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾ (البقرة: 257).

وعن الإمام الصادق عليه السلام: «وليس العلم بكثرة التعلّم، إنّما هو نورٌ يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه»(2).

وبمقدار ما يُرفع الحجاب، يزداد هذا النور ويقوى، إلى أن يضيء جميع جنبات القلب، وعندها يحظى الإنسان بنعمة شرح الصدر وفهم حقائق الأشياء، ويُكشف له الغيب (ما وراء المادة والطبيعة)، ويرى كلّ شيء على حقيقته. وبمقدار ما يكون حظّه من النور وشرح الصدر، يتّضح له صدق الأنبياء عليهم السلام في ما أخبروا به إجمالاً وتفصيلاً، وينبعث فيه دافع العمل (الميل والإرادة) بكلّ ما أَمروا به واجتناب كلّ ما نَهوا عنه، وهنا تتحقّق لديه ملكة التقوى، ومن ثمّ يزداد نور معرفته بأنوار أخلاقه الفاضلة وطبائعه الكريمة. قال تعالى: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ (التحريم: 8).

وكلّ عبادة تؤدّى بشكلٍ صحيح، تهب القلب صفاءً ومعرفة ويقيناً، وتهيّئه لتقبّل إفاضة النور عليه، وتشرح الصدر.

 

درجات الإيمان

1. الإسلام: أولى درجات الإيمان هي الإسلام كما قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: 14).

2. التصديق وعدم الشكّ: أمّا درجات الإيمان الوسطى، فهي التصديق النقيّ الخالص من كلّ شكّ وشبهة كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ (الحجرات: 15).

وغالباً ما يُطلق لفظ الإيمان على هذه الدرجة من الإيمان كما قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (الأنفال: 2).

3. الرؤية بعين القلب: وآخر درجات الإيمان هي التصديق المطهّر من كلّ شكّ وشبهة في المرتبة السابقة، ولكن بإضافة الكشف والشهود، والذوق، والعيان، أي الرؤية بعين القلب وبذائقته، ومحبّةُ الله التامّة والشوق التامّ إليه سبحانه كما قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء﴾ (المائدة: 54).

ويعبّر عن هذه المرتبة من الإيمان باليقين كما قال تعالى: ﴿وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ (البقرة: 4). كما يعبّر عنها بالإحسان، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه»(3).

وقد أشير إلى هذه المراتب الثلاثة للإيمان في هذه الآية الشريفة: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (المائدة: 93).

 

مراتب اليقين

لليقين أيضاً ثلاث مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين، قال تعالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ (التكاثر: 5 - 7)، وقال أيضاً: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ (الواقعة: 95).

والفرق بين هذه المراتب الثلاثة يتّضح بذكر مثال عن علم اليقين: عندما ترى دخاناً يتصاعد، يحصل لك العلم بوجود النار. وعين اليقين يحصل عند رؤية النار نفسها، وحقّ اليقين يحصل عند الاحتراق بتلك النار. وليس فوق هذه المراتب الثلاثة شيء، وهي ليست قابلة للزيادة كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً»(4).

وهنا انتهى ما أورده العلامة المجلسيّ رحمه الله(5).

 

«أين الله؟»

يُقال إنّ عبد الله بن عمر رأى غلاماً يرعى غنماً، فقال له: بعني شاة، قال الراعي: ليس الغنم ملكي، ولم يأذن لي المالك بالبيع، فقال ابن عمر: بعني الشاة وخذ ثمنها وقل للمالك: أكلها الذئب، فقال الراعي: فأين الله؟ أي إذا لم يكن المالك موجوداً، فإنّ الله حاضر ناظر.

وقد كان لمراقبة هذا الراعي لحضور الله سبحانه أثر كبير في نفس ابن عمر، فقد ذهب إلى مالكه واشتراه وأعتقه، ثمّ اشترى قطيع الغنم من المالك ووهبه لذلك العبد المحرّر، وصار ابن عمر يردّد لاحقاً كلمة هذا الراعي ويقول: «فأين الله؟»(6).

 

يسلّم الغنيمة النفيسة

عندما دخل المسلمون المدائن، وغنموا ما استطاعوا جمعه، جاء رجل يحمل صندوقاً ليسلّمه إلى بيت المال، فشكّ المسلمون بأمر هذا الصندوق الذي لم يروا مثله، وسألوا الرجل: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: لولا أنّي أؤمن بالله وأعتقد أنّه مطّلع على خفايا أعمالنا، لما جئتكم بهذا الصندوق، فسألوه عن اسمه، فأقسم بالله أن لا يُذكر اسمه حتّى لا تُنقل قصّته فيُمدح، فيدخله الغرور. ولـمّا رجع لحق به من يراقبه ليعرفه، فإذا هو عامر بن عبد قيس(7).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 52.

(2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي،ج 67، ص 140.

(3) المصدر نفسه، ج 62، ص 116.

(4) المصدر نفسه، ج 40، ص 153.

(5) يراجع: مرآة العقول، العلامة المجلسي، ج 7، ص 328 – 331.

(6) المصدر نفسه.

(7) يراجع: تاريخ الطبري، ابن جرير الطبري، ج 3، ص 128.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد