كثيراً ما نتساءل: ما هي الحكمة من أداء فريضة الحج؟
للإجابة على هذا السؤال نقول: إن هناك حكماً عديدة تكمن وراء حج بيت الله الحرام، وهذه الحكم يبينها الله جل وعلا في القرآن في أكثر من آية وسورة، كقوله عز من قائل في سورة الحج: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الاَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾.
فالحج هو معراج روحي للإنسان، كما هو الحال بالنسبة إلى الصلاة. فقد جاء في الحديث الشريف: "الطواف بالبيت صلاة".
والحج هو تذويب للفوارق بحميع أنواعها إثارة وتأجيجاً لمشاعر الوحدة الإسلامية القائمة على أساس المبادئ السامية، وهو أيضاً حركة اقتصادية واسعة، ومؤتمر حضاري إسلامي عظيم...كل ذلك وغيره يمثل حكماً تدفع الإنسان نحو الحج.
حكمة التعارف في الحج:
وهنا سوف أركز حديثي على حكمة أساسية من حكم الحج، قد تكون خافية على الكثير منا، ألا وهي حكمة التعارف الذي جعله الله سبحانه وتعالى هدفاً وغاية لخلق البشرية، وذلك في قوله سبحانه: ﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات/13).
والتعارف الذي يعني، تعرف الناس على بعضهم البعض، يمثل أساس حضارة الإنسان فوق هذا الكوكب. ونحن نعلم أن كلمة (الحضارة مشتقة من الحضور، والحضور على نوعين؛ حضور لجسد مع جسد آخر، وحضور الروح عند الروح، والإرادة لدى الإرادة الأخرى. وبتعبير آخر؛ هو حضور معنوي يفرز الحضارة والتقدم والتطور لدى الإنسان، لأن الإنسان الذي يكون له حضور إلى جنب أخيه الإنسان روحياً ومعنوياً، ويعترف منذ البدء بوجوده وحقوقه، فإن هذا الشعور هو الذي يجعل الفردين الحاضرين عند بعضهما يتعاونـان. من المعلوم أن التعاون سـوف ينتهـي بالتالـي إلى التقـدم والتكامـل.
الحضور المعنوي هو الأساس:
ولذلك فإن الحضارة المستنبطة من فكرة الحضور والشهود، إنمـا تنفع إذا كانت تعني الحضور المعنوي ولم تكتف بالحضور المادي. فكلما كان حضور الإنسان عند الآخرين أكثر، فإن حضارتهم سوف تكون أسرع نمواً وأكثر نضجاً، لأن الإنسان الذي يتعاون مع إنسان آخر في جوانب معينة فإن الحضارة عندهما ستكون محدودة بحدود تعاونهم مع بعض. ولذلك فإذا كان هناك إنسانان مفترقان من الناحية المكانية، كأن يكون أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، وساد بينهما التعاون من جميع جوانبه، فإنهما سوف يستطيعان إفراز الحضارة رغـم أنهما ليـسا حـاضرين عند بعضهما جسديـّاً.
ولذلك فإن القرآن الكريم يستعمل بدقة مصطلح (التعارف) بدلاً من الحضارة، ذلك لأن معرفة البعض بالبعض الآخر، والوعي الحضاري المتبادل، وإدراك الإنسان أن عليه أن يتعاون مع الآخرين.. فإن كــل ذلك هو بداية انطلاق الحضارة مـن كل موقــع.
ومما لاشك فيه أن هذا التعارف يتجسد كأحسن ما يكون التجسد في حج بيت الله الحرام، لأن نخبة من أبناء الأمة الإسلامية من كافة الأقطار والطبقات سوف يتوافدون على منطقة واحدة، ويجردون أنفسهم عن الفوارق؛ ومن ضمن مظاهر هذه الفوارق الثياب، والجدل، والتفاخر بالآباء، والعمل، واستخدام الوسائل الترفيهية.. ولكن هذه الفوارق تذوب جميعها أثنـاء موسم الحج، كما يقول تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَـجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ (البقرة/197).
فالجدال الذي يفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان محرّم، وكذلك الفسوق والرفث، وكل ما من شأنه أن يميز إنساناً عن إنسان آخر.
وهكذا فإن الحج هو البوتقة الواحدة التي تذوب جميع الفروق والحدود والحواجز المصطنعة بين أبناء البشر. وقمة هذا الذوبان، هو التعارف. ونحن - المسلمين- بحاجة ماسة إلى هذه الحكمة سواء عبر فريضة الحج، أو الوسائل الأخرى.
أهمية التعارف في توثيق العلاقات:
ومن أجل أن نبين أهمية التعارف في توثيق العلاقات الاجتماعية والإنسانية نقول: لنفرض أنه قد قيل لك إن لك إخواناً مسلمين يعيشون في إحدى الجزر النائية تعرضوا لزلزال عنيف وقتلوا نتيجة لهذا الزلزال، فإن هذا الخبر من الممكن أن لا يهزك، ولا يثير مشاعرك إلاّ لفترة موقتة. أما لو أخبرت أن زميلاً لك في الدراسة قد كسرت رجله، ورقد في المستشفى، فإنك ربما تتأثر أكثر. والسبب في ذلك أنك تعرف زميلك هذا، وهو يعيش في وعيك، لأن معرفتك به، وذكرياتك معه هي التي تدفعك إلى التأثر والتألم.
وإذا ما افترضنا أنك قد ذهبت إلى الحج، وفي أثناء أدائك لمراسم هذه الفريضة تعرفت بشكل أو بآخر على أهالي هذه الجزيرة، وتحدثت معهـم، فحينئذ سيختلف وقـع الخبر السابــق بالنسبة إليك، فتبـادر إلى مشاركتهم الحزن والأسى.
هل نحن في مستوى التعارف:
وللأسف فإن المسلمين يعيشون اليوم حالة انفصام عن بعضهم. فلا يعرف بعضهم البعض الآخر، إلاّ بقدر معرفتهم بالأخبار العامة.
وإذا ما أردنا ان نطرح هذه المشكلة في أفق أوسع، فلا بد أن نقول: إن مشكلة العالم الثالث الذي ننتمي إليه، هي مشكلة تخلفنا في مجال التطور العلمي. في حين أن الإسلام جعل طلب العلم فريضة على كل إنسان مسلم، والنبي صلى الله عليه وآله يحثنا على طلب العلم قائلاً: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد" و"اطلبوا العلم ولو بالصين"، والإمام الصادق عليه السلام يشدد على أصحابه في طلب العلم قائـلاً: "ليت السياط على رؤوس أصحابـي حتى يتفقهوا في الحلال والحـرام ".....
ضرورة استقاء المعلومات:
إن من جملة واجبات الإنسان المسلم اليوم، والعالم الإسلامي يتسع ومشاكله تزداد، معرفة إخوانه المسلمين. فالمعلومات يحب أن تنتشر الآن بين المسلمين، لأن هذه المعلومات هي التي تمثل سلاح الإنسان المستضعف ضد المستكبر. فينبغي إذًا على كل مستضعف أن يمتلك المعلومات الكافية، ولذلك يؤكد النبي صلى الله عليه وآله على أن طلب العلم، وقد جعله فريضة على كل إنسان مسلم دون استثناء، ولم يقصدها على الفقهاء أو على نخبة معينة أخرى من الأمة.
ونحن - للأسف الشديد – لا نعرف أين يعيش إخواننا المسلمون، وكيف يعيشون، وماذا يجري على شعوبنا، وما هي أساليب الاستكبار العالمي إزاءهم، وما هي المؤامرات والأساليب التي يستخدمونها في الخداع والتضليل والدسائس التي يحوكونها ضدنا... كل ذلك نجهله، فكيف نتوقع أن نقاومهم، ونتحرك نحو الوحدة الإسلامية؟!
ولذلك فإني أوصي المسلمين جميعاً أن يخصصوا جزءًا مهماً من أوقاتهم، للتعـرف على إخوانهـم في العالم من خـلال الجرائد والمجلات، والاتصالات الشخصية عبر السياحة والسفر. وموسم الحج خير فرصة لذلك.
لذا يجدر بالمسلم عندما يذهب إلى الحج، أن لا يكون همّه التفتيش عن الأمتعة والبضائع الجديدة، بل يتعين عليهأان يحاول جاهداً إقامة جسور العلاقات مع إخوانه مهما كانت انتماءاتهم، وأن يتعرف على أحوالهم وأفكارهم وتجاربهم في الحياة. فليس من الهين أن يجتمع مليون إنسان في مكان واحد يمثلون مجموعة مختارة من صفوة المؤمنين في جميع أرجاء العالم الإسلامي.
﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ (الحج/27)
ففي الطريق إلى الديار المقدسة يعاني هؤلاء الكثير من المشكلات والصعوبات، ومع ذلك فإنهم يتوجهون لأداء فريضة الحج برحابة صدر ورضى، لأن تلك الصعوبات والمشكلات تعمل على امتصاص سلبياتهم، وتزيل من التصاقهم بالمادة، وتبلور شخصياتهم، وتلغي الفوارق بينهم، وتزودهم بالنقاء الروحي، فيتجهون -بالتالي- إلى الله جل وعلا وحده.
ولو أن هذا العدد الهائل من المسلمين اتصلوا ببعضهم، واستقى بعضهم من البعض الآخر المعلومات والخبرات، ثم عادوا إلى بلادهم محملين بهذه المعلومات القيمة، فكم ستكون هذه المعلومات ذات آثار إيجابية بناءة على مستقبل البلدان الإسلامية؟! لأن هؤلاء الحجاج عندما يعودون إلى بلدانهم سوف يشرحون لإخوانهم هناك المعلومات التي حصلوا عليها من إخوانهم المسلمين في مختلف أنحاء العالم، الأمر الذي سيؤدي إلى أن يتعرف المسلمون على بعضهم البعض، وبالتالي فإن الشعور بوحدة المصير والهدف سيسود بينهم.
الشعور السائد في الحج:
فإنك عندما تلتقي بالحاج هناك، فإنك سوف لا تشعر أنك قادم من آسيا وهو من أفريقيا مثلاً، وأنك أبيص وهو أسود.. بل يسودك الإحساس بأنكما حاجان تلتقيان بعيداً عن جيمع الفوارق والحواجز. وعلى الحجاج أن يستغلوا هذه الحالة المعنوية التي تسودهم في الحج، لكي يلتقوا بسائر إخوانهم المسلمين، ويتعرفوا على ما يعانونه من مشكلات في بلدانهم، وليشرحوا لهم - هم بدورهم - أوضاعهم ، ومشكلاتهم.. فلابد من أن ينفتح الإنسان المؤمن على أخيه المؤمن ليتعاونا معاً، من أجل حل مشكلاتهما.
إن الإنسان المسلم الذي يأتي من أقصى الأرض، وذلك الذي يعيش في مكّة، هما سـواء في هذا البيت الـذي جعله الله لجميع المسلمين دون فرق، كما يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ (الحج/25).
من منافع الحج:
ثـم يقـول عـز وجـل: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ (الحج/25-28).
وهذه المنافع التي يشير إليها الله تقدست أسماؤه، لا تقتصر بالتأكيد على الذبائح في منى، بل تشمل أيضاً منافع المسلمين ومصالحهم، لأنه تعالى يقول: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾.
ومن المعلوم أنه كلمة (الشهادة) تختلف عن كلمة العلم والمعرفة، لأن الشهادة هي وعي عميق. فعندما تقول: أشهد أن لا اله إلا الله. فإن هذا يعني أنك قد وصلت في علمك إلى مرحلة الشهادة، والعلم الحضوري - إن صح التعبير -.
ثم يضيف سبحانه، مشيراً إلى منافع وفوائد أخرى ترتجى من وراء الحج: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الاَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ (الحج/28-29).
فالحج يعمل على تطهير نفوس المسلمين من الأدران والنفايات والرواسب التي علقت بهم، لكي يصلوا إلى مرحلة النقاء والصفاء والطهارة والتزكية، وشكر الله تعالى على رزقه إياهم وتوفيره النعم لهم، ولكي يدفعهم الحج إلى الرفق بالإنسان الفقير، وتقديم العون والمساعدة لـه.. لكي تسود الوحدة والانسجام بين الشعوب والمجتمعات الإسلاميـة، ويحدث التعارف بينهم ويسهموا في بناء حضارتهم الإسلاميـة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.
السيد عبد الأعلى السبزواري
السيد عباس نور الدين
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي رضا بناهيان
الفيض الكاشاني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد جواد مغنية
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
إيمان شمس الدين
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
البسملة
لماذا لا يقبل الله الأعمال إلا بالولاية؟
أشدّ النّاس خسرانًا
كن أنت!
زكي السالم: كيف تصبح من ملاقيف الفعاليات في دقيقتين؟
قوم يحبهم الله ويحبونه
السبب في اشتمال القرآن على المتشابه
الإسلام حرب على الظلم والفساد
نادي (صوت المجاز) يحتفي بسنويّته الأولى
التصاق كهربائي بين معادن صلبة وخضار وفواكه ولحوم