الشيخ باقر شريف القرشي
أطل الإمام أبو جعفر (ع) على عالم مليء بالفتن والاضطراب والاحداث، ورأى الأمة الإسلامية قد فقدت جميع مقوماتها، ولم تعد كما يريدها الله في وحدتها وتكاملها، وتطورها في ميادين العلم والإنتاج.. ووجه الإمام بحكم قيادته الروحية جهده لإعادة مجد الأمة، وبناء كيانها الحضاري، فرفع منار العلم، وأقام صروح الفكر، وقد انصرف عن كل تحرك سياسي، واتجه صوب العلم وحده متفرغًا له يقول المستشرق «روايت م. رونلدس» «وعاش مكرمًا متفرغًا للعلم في عزلته بالمدينة، وكان الناس يأتونه فيسألونه عن الإمامة» [1].
وقد خف إليه زمرة من أعيان الأمة لتلقي العلوم منه، وكان ممن وفد عليه العالم الكبير جابر بن يزيد الجعفي فقد قال له الإمام في أول التقائه به:
ـ من أين أنت؟
ـ من أهل الكوفة.
ـ ممن؟
ـ من جعف.
ـ ما أقدمك هنا؟
ـ طلب العلم.
ـ ممن؟
ـ منك [2].
وقد أخذت الوفود العلمية تترى إليه لتأخذ عنه العلوم والمعارف، يقول الشيخ أبو زهرة: «وما قصد أحد من العلماء مدينة النبي (ص) إلا عرج عليه ليأخذ عنه معالم الدين» [3] وقد أخذ عنه أهل الفقه ظاهر الحلال والحرام [4].
وعلى أي حال فقد استمد العالم الإسلامي من الإمام جميع مقومات نهوضه وارتقائه، ولم يقتصر المد الثقافي الذي يستند إليه على عصره، وإنما امتد إلى سائر العصور التي تلت بعده، فقد تبلورت الحياة العلمية، وتطورت العلوم تطورًا هائلًا مما ازدهرت به الحياة العلمية في الإسلام.
إن الحياة الثقافية في الإسلام مدينة لهذا الإمام العظيم فهو الباعث والقائد لها على امتداد التأريخ.
العلوم التي بحثها
وخاض الإمام عدة علوم في بحوثه التي ألقاها على العلماء في الجامع النبوي أو في بهو بيته، وكان من بينها:
الحديث
وأولى الإمام أبو جعفر (ع) المزيد من اهتمامه في الحديث الوارد عن جده رسول الله (ص) وعن آبائه الأئمة الطيبين (ع) فهو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وله الأهمية البالغة في الشريعة الإسلامية، فهو يتولى تخصيص عمومات الكتاب، وتقييد مطلقاته، وبيان ناسخه من منسوخه، ومجمله من مبينه، كما يعرض لأحكام الفقه من العبادات والمعاملات، وإعطاء القواعد الكلية التي يتمسك بها الفقهاء في استنباطهم للحكم الشرعي، وبالإضافة إلى ذلك كله فإن فيه بنودًا مشرقة لآداب السلوك، وقواعد الاجتماع، وتنظيم الأسرة، وصيانتها من التلوث بجرائم الآثام، إلى غير ذلك مما يحتاج إليه الناس في حياتهم الفردية والاجتماعية. فلذلك عنى به الإمام أبو جعفر (ع)، وتبناه بصورة إيجابية، وقد روى عنه جابر بن يزيد الجعفي سبعين ألف حديث، وأبان بن تغلب مجموعة كبيرة، كما روى عنه غيرهما من أعلام أصحابه طائفة كبيرة من الأخبار.
والشيء المهم أن الإمام أبا جعفر (ع) قد اهتم بفهم الحديث، والوقوف على معطياته، وقد جعل المقياس في فضل الراوي هو فهمه للحديث ومعرفة مضامينه، فقد روى يزيد الرزاز عن أبيه عن أبي عبد الله عن أبيه أنه قال له: «اعرف منازل الشيعة على قد رواياتهم، ومعرفتهم، فإن المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدراية للرواية يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان.. إني نظرت في كتاب لعلي فوجدت في الكتاب أن قيمة كل امرئ وقدره معرفته أن الله تعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا ..» [5]
إن وعي الراوي للحديث ووقوفه على معناه مما يستدل به على سمو منزلته، وعظيم مكانته العلمية.
ولشدة اهتمام الإمام وعنايته بالحديث فقد وضع بعض القواعد لتميز الصحيح من غيره عند تعارض الأخبار سنذكرها عند البحث عن علم الأصول الذي خاضه الإمام.
روايات الأئمة (ع)
أما روايات الأئمة الطاهرين (ع) التي أثرت عنهم في عالم التشريع والأحكام، فهي لا تحكي آرائهم الخاصة، وإنما هي امتداد لقول الرسول (ص) ورأيه ولذا ألحقت بالسنة ـ عند الشيعة ـ وقد ألمح إلى ذلك الامام أبو جعفر (ع) في حديثين له مع جابر بن يزيد الجعفي.
١ ـ قال (ع) لجابر: «إنا لو كنا نحدثكم برأينا لكنا من الهالكين، ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (ص) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم ..» [6]
٢ ـ قال (ع) لجابر: «والله يا جابر لو كنا نحدث الناس أو حدثناهم برأينا لكنا من الهالكين، ولكنا نحدثهم بآثار عندنا من رسول الله (ص) يتوارثها كابر عن كابر نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم ..» [7]
إذن فلم تستند أحاديث أئمة أهل البيت (ع) لهم، وإنما تستند إلى جدهم الرسول (ص)، وهم الذين حافظوا على تراثه العلمي فكنزوه كما يكنز الناس الذهب والفضة.
أحاديث الإمام الباقر (ع)
أما أحاديث الإمام أبي جعفر (ع) عن جديه رسول الله (ص) والإمام أمير المؤمنين (ع) فهي على قسمين:
الأولى : ـ المرسلة، وهي التي لم يذكر فيها رجال السند، وينسب الإمام الحديث رأسًا إلى النبي (ص) أو للإمام أمير المؤمنين (ع) وقد سئل عن سنده في ذلك فقال: «إذا حدثت بالحديث فلم أسنده فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله (ص) عن جبرائيل عن الله عز وجل..» [8]
الثانية : ـ المسندة، وهي التي يذكر فيها سنده عن آبائه الطاهرين عن رسول الله (ص). وسواء أكانت روايته مرسلة أم مسندة فهي حجة بلا خلاف عند الشيعة إن صح طريق سندها إليه، وإلا فتعامل معاملة بقية الأخبار التي فيها الضعيف والموثق والحسن.
رواياته عن النبي (ص)
أما أحاديثه عن النبي (ص) فهي تتعلق تارة بالفقه الإسلامي، وقد عرضت لها موسوعات الفقه والحديث، وأخرى بآداب السلوك والأخلاق، كما عرضت بعضها لفضل العترة الطاهرة ولزوم مودتها، وفيما يلي ذلك:
١ ـ روى (ع) عن آبائه عن رسول الله (ص) أنه قال: «فضل العلم أحب إلى الله من فضل العبادة، وأفضل دينكم الورع..» [9]
وفي هذا الحديث دعوة إلى طلب العلم والحث عليه، فهو أفضل من العبادة التي لا ينتفع بها إلا صاحبها، كما فيه الحث على الورع عن محارم الله، والاجتناب عن المآثم التي تؤدي إلى سقوط الشخص وانحرافه عن الطريق القويم.
٢ ـ روى (ع) عن آبائه عن رسول الله (ص) أنه قال: «ما جمع شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم.. » [10]
إن الاتصاف بالعلم والحلم مما يرفعان مستوى الشخص، ويميزانه عن غيره فليس هناك شيء أفضل من هاتين الخصلتين.
٣ ـ روى (ع) بسنده عن آبائه عن رسول الله (ص) أنه قال: «فوق كل بر بر، فاذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر، وفوق كل عقوق عقوق حتى يقتل الرجل أحد والديه، فإذا قتل أحدهما فليس فوقه عقوق.. » [11] إن منتهى البر وغايته هي الشهادة في سبيل الله، فإذا استشهد الشخص من أجل ذلك فقد انتهى إلى غاية البر، كما أن منتهى الإثم والعقوق هي قتل الرجل أحد والديه، فإذا فعل ذلك فقد سقط في حضيض من الأثم ليس له من قرار.
٤ ـ قال (ع): قال رسول الله (ص): «من المروءة استصلاح المال» [12]
رواياته عن الإمام أمير المؤمنين
روى (ع) عن آبائه طائفة من حكم جده الإمام أمير المؤمنين (ع)، وهذه بعضها :
١ ـ قال (ع) : قام رجل من أهل البصرة إلى الامام أمير المؤمنين (ع) فقال له: «يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الإخوان!.» فأجابه الإمام (ع): «الإخوان صنفان: إخوان الثقة، وإخوان المكاشرة، فأما إخوان الثقة فهم الكف والجناح، والأهل والمال، فإن كنت على حد الثقة فابذل له مالك، وبدنك، وصاف من صافاه، وعاد من عاداه، واكتم سره، وعيبه، وأظهر منه الحسن، واعلم أيها السائل أنهم أقل من الكبريت الأحمر، وأما إخوان المكاشرة فإنك تصيب منهم لذتك، فلا تقطعن ذلك منهم، ولا تطلبن ما وراء ذلك من صغيرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك، من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان..» [13]
أما إخوان المكاشرة في هذا العصر فهم الأكثرية الساحقة تسيرهم الأطماع والرغبات، وتدفعهم المصالح والأهواء، أما مظاهر صداقتهم فهي طلاقة الوجه وعذوبة اللسان ـ كما قال الإمام ـ.
٢ ـ قال (ع) : قال أمير المؤمنين (ع): «الفتن ثلاث: حب النساء، وهو سيف الشيطان، وشرب الخمر، وهو مخ الشيطان، وحب الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان، فمن أحب النساء لم ينتفع بعيشه، ومن أحب الأشربة حرمت عليه الجنة، ومن أحب الدينار والدرهم فهو عبد الدنيا، وأضاف (ع) يقول: قال عيسى بن مريم بالدينار داء الدين، والعالم طبيب الدين فإذا رأيتم الطبيب يجر الداء على نفسه فاتهموه، وأعلموا أنه غير ناصح لغيره..» [14]
٣ ـ قال (ع) في كتاب علي ثلاث خصال: لا يموت صاحبهن أبدًا حتى يرى وبالهن، البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وإن أعجل الطاعة ثوابًا لصلة الرحم، وإن القوم ليكونوا فجارًا فيتواصلون فتنمي أموالهم، ويبرون فتزداد أعمارهم، وإن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها، ويثقلان الرحم، وإن تثقل الرحم انقطع النسل..» [15]
تفسير القرآن الكريم
من العلوم التي خاضها الإمام أبو جعفر (ع) في محاضراته تفسير القرآن الكريم، فقد خصص له وقتًا من أوقاته، تناول فيه جميع شؤونه، وقد أخذ عنه علماء التفسير ـ على اختلاف آرائهم وميولهم ـ الشيء الكثير، فكان (ع) من ألمع المفسرين في الإسلام...
علم الكلام
وبحث الإمام أبو جعفر في كثير من محاضراته المسائل الكلامية، وسئل عن أعقد المسائل وأدقها في بحوث هذا العلم فأجاب عنها، ومن الجدير بالذكر أن عصر الإمام كان من أشد العصور الإسلامية حساسية فقد امتد فيه الفتح الإسلامي إلى أغلب مناطق العالم وشعوب الأرض، فأثار ذلك موجة من الحقد في نفوس المعادين للإسلام من الشعوب المغلوبة على أمرها ، ومن غيرها، فقاموا بحملة دعائية ضد العقيدة الإسلامية فأذاعوا الشكوك والأوهام بين أبناء المسلمين، وقد شجعت الحكومات الأموية الأفكار المعادية للإسلام، فلم يؤثر عن أي أحد من ملوك بين أمية أنه قاومها او تصدى لإيقافها وعدم نشرها بين المسلمين، ولم يكن هناك أحد قد انبرى إلى إنقاذ المسلمين في ذلك العصر سوى الامام أبي جعفر (ع) فقد تصدى إلى تزييفها والرد عليها ببالغ الحجة والبرهان...
الإمامة
الإمامة نفحة من روح الله، ورحمة من رحماته أنعم بها على هذا الإنسان لتدله على الإيمان، وتلهمه الخير، وتهديه إلى سواء السبيل وهي من أصول الدين، وأركان الإسلام عند الشيعة الإمامية لأنها القاعدة الصلبة التي تتركز عليها العدالة الاجتماعية في الإسلام، وقد تحدث الإمام أبو جعفر (ع) عن كثير من جوانب الإمامة. قال (ع) : «نحن ولاة أمر الله، وخزان علم الله، وورثة وحي الله، وحملة كتاب الله، طاعتنا فريضة، وحبنا إيمان، وبغضنا كفر، محبنا في الجنة، ومبغضنا فى النار..» [16]
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] عقيدة الشيعة ( ص ١٢٣ ).
[2] المناقب ٣ / ٣٣١.
[3] الإمام زيد ( ص ٢٢ ).
[4] عيون الأخبار وفنون الآثار (٢١٣).
[5] ناسخ التواريخ ٢ / ٢١٩.
[6] ناسخ التواريخ ٢ / ٢١٧.
[7] ناسخ التواريخ ٢ / ٢١٧.
[8] أعلام الورى ( ص ٢٧٠ ).
[9] الخصال : ( ص ٤ ).
[10] الخصال ( ص ٥ ).
[11] الخصال ( ص ١٠ ).
[12] الخصال ( ص ١١ ).
[13] الخصال ( ص ٤٩ ).
[14] الخصال ( ص ١٠٩ ).
[15] الخصال ( ص ١١٩ ).
[16] مناقب آل ابي طالب ٢ / ٣٣٦.
السيد عبد الأعلى السبزواري
السيد عباس نور الدين
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي رضا بناهيان
الفيض الكاشاني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد جواد مغنية
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
إيمان شمس الدين
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
البسملة
لماذا لا يقبل الله الأعمال إلا بالولاية؟
أشدّ النّاس خسرانًا
كن أنت!
زكي السالم: كيف تصبح من ملاقيف الفعاليات في دقيقتين؟
قوم يحبهم الله ويحبونه
السبب في اشتمال القرآن على المتشابه
الإسلام حرب على الظلم والفساد
نادي (صوت المجاز) يحتفي بسنويّته الأولى
التصاق كهربائي بين معادن صلبة وخضار وفواكه ولحوم