الشيخ عبدالوهاب الكاشي
لا تظنّ أنّ ثورة الحسين عليه السلام وتضحياته السخيّة المباركة قد خدمت التشيّع فحسب! كلاّ. بل خدمت المسلمين كأمّة واحدة وبأجمعهم أيضاً؛ وذلك بما ولّدته فيهم من وعي وإحساس تنبّهوا بهما إلى أمر خطير، وغلط كبير جدّاً كان محدقاً بهم وكاد أن يبدّل دينهم وهم لا يشعرون.
وهو: أنّ المسلمين من حيث العموم كانوا ينظرون إلى الخلفاء والأمراء الذين حكموهم منذ أن قبض النبي محمد (ص) بصفة مزدوجة، هي صفة المشرّعين والمنفّذين في آن واحد، أي كانوا يتصوّرون أنّ الخليفة له صلاحية التشريع والتحليل والتحريم والتغيير والتبديل.
كما له حقّ التطبيق وصلاحية التنفيذ قياساً لهم على رسول الله (ص) الذي كان هو المشرّع والمنفّذ معاً. ومن هذه النظرة الخاطئة من المسلمين إلى حكّامهم، تجرّأ بعض أولئك الحكّام على الاجتهاد ضدّ نصوص الكتاب والسنّة الشريفة، وعلى التلاعب بأحكّام الإسلام حسب شهواتهم ومصالحهم.
فما أن التحق رسول الله (ص) بالرفيق الأعلى حتّى بدأ الاختلاف بين سيرته وسيرة المسؤولين بعده، إلى أن جاء دور عثمان، فكان الاختلاف بين سيرته وسنّة رسول الله بلغ إلى حدّ قالت عنه عائشة، وقد أخرجت ثوباً من ثياب النبي (ص) تعرضه على الناس: انظروا، هذا ثوب رسول الله بعدُ لمْ يبلَ وعثمان قد أبلى سنتّه.
والخطر الأكبر الذي كان يكمن في تلك الظاهرة هو: أنّ المسلمين كانوا يأخذون تلك التصرّفات الشاذة عن نصوص القرآن والسنّة الشريفة من قِبل الخلفاء بعين الاعتبار، وبأنّها من صميم الإسلام وشريعة الله تعالى؛ لذا فقد استغل الأمويّون تلك النظرة أكبر فرصة لهم في سبيل تحقيق مؤامراتهم العدوانية ضدّ الإسلام ونبي الإسلام، فأخذوا يحرّفون ويشوّهون ويتلاعبون بشعائره ومقدّساته حيثما شاؤوا.
فمن ذلك مثلاً: أنّ معاوية صلّى بهم ذات مرّة صلاة الجمعة يوم الأربعاء فصلّوها معه، وسنّ لهم سبّ الإمام أمير المؤمنين على المنابر وفي صلاة الجمعة، وأعطى الجزية للرومان مقابل سحبه المرابطين على الحدود؛ ليحارب بهم أمير المؤمنين عليه السلام، ولبس الحرير والذهب، وشرب الخمر، وقتل النفوس المحترمة على الظنّة والتهمة، وألحق زياد بن سميّة بأبيه أبي سفيان خلافاً لنص الحديث الشرف: «الولد للفراش وللعاهر الحجر». وحوّل الخلافة الإسلاميّة إلى ملك وراثي عضوض، إلى غير ذلك من بدعه ومخالفاته التي يطول شرحها.
وكان الناس يأخذون تلك البدع بعين الاعتبار، وأنّها من الدين، كما قدّمنا، ولكن بعد ثورة الحسين عليه السلام تغيّرت نظرة المسلمين إلى الحكّام والأمراء، وظهروا أمام الرأي العام الإسلامي على أنّهم سلاطين جور وحكّام بالقهر والغلبة، وملوك دنيويون ليس لهم صفة شرعيّة ولا سلطة تشريعية.
فالإسلام شيء وسيرة الحكّام والأمراء الذين يحكمون المسلمين شيء آخر، لا يمثّل أحدهما الآخر في شيء أبداً؛ ولهذا التبدل والفصل بين الحكّام وأعمالهم من جهة وبين الإسلام والمسلمين من جهة أخرى، بقي الإسلام محفوظاً ومصاناً على الصعيد الفكري إلى يومنا هذا. ولولا ذلك لكان الإسلام خبراً بعد عين، ولكان المسلمون اليوم أمّة جاهليّة إباحيّة لا تعرف الله، ولا تؤمن بنبي، ولا تقرأ كتاباً.
وليس أدلّ على ذلك - أي على ما قلناه من أنّ ثورة الحسين عليه السلام عزلت الحكّام عن الشعب، وانتزعت منهم صلاحية التشريع وصفة الشرعية عن سلوكهم - من ظهور الطوائف، وتعدد المذاهب، وتزايد الفرق الإسلاميّة بعد عصر الحسين عليه السلام مباشرة.
ووجه الدلالة فيه هو: من حيث إنّ الحكّام لـمّا شعروا بمقت الأمّة لهم وتنفّر الرأي العام منهم، وأنّ الحسين عليه السلام قد انتزع بثورته المقدّسة الخالدة السلطة الروحية من أيديهم، وبالتالي تبيّن لهم أنّهم أصبحوا معزولين عن الشعب روحيّاً ودينيّاً؛ لذا حاولوا أن يستعيدوا سلطتهم على الأمّة وسيطرتهم على الشعب ولو من طريق غير مباشر، أي بواسطة عملاء لهم من رجال الدين والعلماء الذين تغريهم المناصب وتستغويهم الأموال؛ ليكون هؤلاء العملاء كحلقة وصل بين الشعب والحكّام؛ ينفّذون سياسة الحكّام، ويبرّرون إجرامهم، ويدعون إلى سلطانهم اللاشرعي؛ ومن ثمّة يكونوا سلاحاً بيد السلطات يحاربون بهم الدين، ويدافعون بهم عن حكمهم وسلطانهم القائم باسم الدين، وهكذا كان.
فقد بدأ الحكّام بعد الحسين عليه السلام سياسة التفرقة الطائفية، وتمزيق وحدة المسلمين بالطائفية، وتعدد المذاهب التي بلغت في أواسط الدولة العباسية إلى أكثر من ثلاثمئة طائفة وفرقة، وكلّ طائفة تنتمي وتنتسب إلى رجل دين أو عالم أو محدّث؛ إما مساير للسياسة والحكّام كليّاً، أو سلبيّ مجامل لهم على أحسن الفروض، وبذلك نجحت سياسة (فرّق تسد) في خدمة الحكّام نجاحاً كبيراً، وظلّوا محتفظين بكراسيهم وسيطرتهم من هذا الطريق.
وظلّ أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام ومعهم شيعتهم وأصحابهم هم الطائفة الوحيدة بين تلك الطوائف الإسلاميّة الكثيرة الذين يمثّلون الحزب المعارض لتلك الحكومات الجائرة، والذين يقفون في وجه أولئك العلماء الدجّالين ورجال الدين المنافقين السائرين في ركاب الحكّام والأمراء.
فهذا مثلاً الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بعث إليه المنصور الدوانيقي مرّة، يقول له: يا أبا عبد الله، هلاّ تغشانا وتزورنا كما يغشانا غيرك من العلماء؟
فأرسل إليه الإمام عليه السلام، يقول له: «ليس عندنا من الدنيا ما نخافك عليه، وليس عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولست في نعمة حتّى نهنّيك، ولا ترى نفسك في مصيبة حتّى نعزّيك، وقد قال رسول الله (ص): إذا رأيتم العلماء على أبواب الأمراء فقولوا: بئس العلماء وبئس الأمراء. وإذا رأيتم الأمراء على أبواب العلماء فقولوا: نِعم العلماء ونِعم الأمراء. فعلامَ نصحبك بعد هذا؟!».
فأرسل إليه المنصور ثانية، يقول له: تصحبنا لتنصحنا. فقال الإمام عليه السلام: «إنّ مَنْ يريد الدنيا لا ينصحك، وإنّ مَنْ يريد الآخرة لا يصحبك».
ولقد بذل الحكّام جهوداً كثيراً، وحاولوا شتّى المحاولات لكي يستميلوا أهل البيت عليهم السلام نحوهم، ويجذبوهم إلى جانبهم ليكسبوا تأيدهم، ولكن فشلوا وخاب ظنّهم، وما وجدوا من آل محمد (ص) إلاّ الاستقامة على الحقّ، والتصلّب ضدّ الباطل، وإعلان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لا تأخذهم في الله لومة لائم؛ لذلك قابلوهم بكلّ ظلم واضطهاد، وحاربوهم بكلّ قسوة وعنف، واضطهدوا شيعتهم ومنعوا الناس من الوصول إليهم، وأغلقوا أبوابهم، وتركوهم شتّى مصارعهم وأجمعها فظيعة:
فمكابدٌ للسمّ قد سقيت حشاشته نقيعَهْ
ومضرّجٌ بالسيف آثر عزّه وأبى خضوعَهْ
ومصفّدٌ لله سلّم أمر ما قاسى جميعَهْ
وسبيّة باتت بأفعى الـهمّ مهجتها لسيعهْ
وهذا الاضطهاد والتعسّف الذي مارسه الحكّام ضدّ أئمّة الهدى من آل البيت عليهم السلام، هو السبب في انقسام الشيعة أنفسهم إلى عدّة فرق وطوائف أيضاً؛ لأنّ إمام الحقّ كان ممنوعاً من إظهار نفسه والدعوة إليه، وكان بسطاء من الشيعة يُخدعون بالدعايات المضلّة والمظاهر الجذابة فيلتفّون حول بعض الأشخاص من أبناء الأئمّة عليهم السلام، أو من أقاربهم ويقولون بإمامتهم.
مثل: الكيسانية الذين دانوا بإمامة محمد بن الحنفيّة رحمه الله بعد الحسين عليه السلام؛ لما كان يتحلّى به محمد من علم وشجاعة، وإنّه ابن الإمام علي عليه السلام، وأخو الحسين عليه السلام، وبالتالي هو أكبر من الإمام زين العابدين عليه السلام.
ثمّ الزيديّة الذين دانوا بإمامة زيد بن علي بن الحسين عليه السلام بدل الإمام محمد الباقر عليهالسلام، ثمّ الإسماعيلية الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن الصادق عليه السلام بدل أخيه الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وهكذا إلى غيرها من الفرق الشيعية الأصل والتي شذّت عن طريق الحقّ بسبب اختفاء صوت إمام الحقّ، أو الإرهاب الذي كان يحول دون وصولهم إلى إمام الحقّ، وقد أبيد أكثر تلك الطوائف والفرق ولم يبقَ منها إلى اليوم سوى الطائفة الزيدية في اليمن والطائفة الإسماعيلية في الهند والباكستان.
إلى جانب الطائفة الحقّة الجعفرية الإمامية الذين يشكّلون أكبر طائفة إسلاميّة في العالم، والذين ساروا مع التشيّع الصحيح إلى آخر الشوط، ودانوا بإمامة الأئمة الاثني عشر المنصوص عليهم من رسول الله (ص) بالإمامة، وهم: علي بن أبي طالب، ثمّ ابنه الحسن عليه السلام، ثمّ أخوه الحسين عليه السلام، ثمّ ابنه علي زين العابدين عليه السلام، ثمّ ابنه محمد الباقر عليه السلام، ثمّ ابنه جعفر الصادق عليه السلام، ثمّ ابنه موسى الكاظم عليه السلام، ثمّ ابنه علي الرضا عليه السلام، ثمّ ابنه محمد الجواد عليه السلام، ثمّ ابنه علي الهادي عليه السلام، ثمّ ابنه الحسن العسكري عليه السلام، ثمّ ابنه محمد المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) صاحب العصر والزمان (صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً).
الشيخ مرتضى الباشا
إيمان شمس الدين
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطهراني
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد هادي معرفة
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبد الجليل البن سعد: القيم والتقوى: ركائز الأمان والتمييز في بحور النفس والمجتمع
عبور لنهر هيراقليطس، أمسية لهادي رسول في الخبر
برنامج أسريّ بعنوان: (مودّة ورحمة) في جمعيّة تاروت الخيريّة
المشكلة الإنسانية، جديد الدكتور حسن العبندي
الأسرة الدافئة (2)
السّيادة والتّسيّد وإشكاليّات التّغيير، الزهراء عليها السلام نموذجًا (2)
حبيبة الحبيب
السيدةُ الزهراءُ: دُرّةَ تاجِ الجَلال
السّيادة والتّسيّد وإشكاليّات التّغيير، الزهراء عليها السلام نموذجًا (1)
نمط حياتك قد ينعكس على صفحة دماغك ويؤدي إلى شيخوخته