مقالات

التربية الروحية

الشيخ حسين معن

 

إنّ للتربية الروحية علاقة صميمة وارتباطاً وثيقاً باستقامة المسيرة على خطّ الإسلام فكرياً وعملياً وبتجاوز فتنة الاضطهاد، والتعذيب الجسمي والنفسي التي يتعرّض لها رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله وأصحابه بفعالية علمهم وتماسك صفهم. ولنعرض ذلك بشيء من التفصيل فيما يلي:

- التربية الروحية واستقامة المسيرة:

ليس من الهيّن أنْ تستقيم مسيرة المؤمنين العاملين في سبيل الله على الخطّ الذي يرتضيه الله تعالى، ويشترعه الإسلام من الناحية الفكرية المفاهيمية، والناحية العملية والسلوكية.

(1) - لأنّ الحضارة الجاهلية والمفاهيم الاجتماعية المادّية التي كان يعيش في وسطها أصحاب الرسول صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله تدعوهم إلى الانحراف. بسبب أنّهم أبناء هذه البيئة التي تعيش هذه المفاهيم الحضارية المادّية، فمن المعقول أنْ تؤثّر فيهم عن طريق الوراثة الفكرية والإيحاء الثقافي. والميل النفسي عند كل إنسان إلى التوافق الاجتماعي واتخاذ الأخلاء، ولو عن طريق التنازل الفكري والسلوكي.

(2) - ولأنّ استعجال النصر. والنزق واستباق المراحل تدعو هؤلاء المؤمنين إلى التنازل عن بعض أفكارهم، وتليين مواقفهم من أجل أنْ تجد دعوتهم طريقها إلى قلوب الناس، وتتقدّم في الجو الاجتماعي، ولو على حساب بعض جوانبها الرسالية .

(3) - ولأنّ الأهواء الشخصية هنا، وهناك قد تتجمّع وتظهر في صيغ ثقافية لتعمل على حَرف المسيرة، وتمييع الشخصية الإسلامية الأصيلة، والارتباط بالله سبحانه وبرسالته.

هذه العوامل وغيرها دواع للانحراف ملازمة لكلّ عملٍ اجتماعي في عصر الرسول صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله أو بعده. والتربية الروحية شرط ضروري للتعالي على هذه العوامل، والانفلات من تأثيرها؛ لأنّ التربية الروحية تقيم المؤمن في علاقة محكمة مع الله. يعبده ولا يعبد سواه ويرجوه، ويعمل له لا لغيره. يتأثّر بوحيه، ورسالته، ويقطع صلته (التأثر) بالناس، ويقيم معهم بدل ذلك صلة (التأثير) والتوجيه.

لأنّ الانفصال عن الناس وحضارتهم. وعن أهواء النفس وشهواتها لا يتمّ إلاّ من خلال عملٍ تربوي جاد يبني الإنسان فيه نفسه مع الله ويقطعها به عمّا سواه (يعبده ولا يعبد غيره، ويرجوه ولا يرجو غيره، ويخافه ولا يخاف غيره). وبكلمة يقطع قلبه وشعوره وكيانه عن كلّ شيء عدا الله وما أمر الله به (أنْ يوصل) بهذا وحده يمكن أنْ تستقيم وتثبت على خطّ الإسلام.

ونكرّر. ليست الاستقامة المطلوبة هيّنة أو يسيره ونزيد هنا. حتى على رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله نفسه. ومن هنا ينقل عنه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله أنّه كان يقول: (شيّبتني هود) إشارة إلى قوله تعالى في سورة هود: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ).

وفي رواية عن ابن عبّاس: (ما نزل على رسول الله صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله آية كانت أشدّ عليه، ولا أشقّ مِن هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله، قال: (شيبتني هود والواقعة).

ولنقرأ هنا مجموعتين مِن الآيات الكريمة نزلت على رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله من أجل تحصينه - وهو المعصوم - من الحيف، أو الانحراف عن خطّ الإسلام. وهما مجموعتان عجيبتان تدعوان للتفكير، والدرس، والتأمّل الكثير. بشكل واضح بين الاستقامة على الخط. والتربية الروحية.

(1)- (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلاّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ).

(2) - (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً *. وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً * أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً * وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً).

 

التربية الروحية وتماسك الصف:

تماسك الصف يعتمد على وحدة الأهداف، والمنطلقات ووحدة المشاعر، والتعاطف القلبي. ويتعرّض تماسك الصف إلى عوامل التفتيت، والتجزئة باستمرار. (اختلاف الآراء، والمصالح الشخصية التي تغلب على المصلحة العامّة عند بعض الناس، واختلاف المذاقات والمشاعر الخ).

والتربية الروحية. وبناء العلاقة بالله تعالى وتنميتها، هي دائماً في صالح التماسك. فإنّ التربية الروحية تعمل على ما يلي:

أ - توحيد المنطلق النفسي للمؤمنين في العمل.  الدافع والهدف). حبّ الرسالة، والرغبة في نشرها وتطبيقها مقابل الرغبات الشخصية، والأهداف الذاتية التي تختلف عادة من شخص إلى آخر.

ب - الحب في الله تعالى، حبّ المؤمنين، والأنس بهم والإخوة فيما بينهم والمشاركة الوجدانية.

ج - التقيد بالخلق الإسلامي في التعامل بين المؤمنين.

د - الحرص على المصلحة الدينيّة والخوف على الرسالة.

هذه المعاني الأربعة وما يتفرّع عنها هي أساس التماسك والحصانة من التزلزل والتصدع. وهي معان لا يبنيها سوى الإيمان باللّه، والإخلاص له تعالى، وحبّه الذي ينبسط على المؤمنين، وكذلك طاعته، والصبر عليها في مواجهة الأهواء الشخصية ومشاعر الأنا والاستقلال. وهذه الأمور هي جوهر البناء الداخلي الروحي للمؤمن.

(وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

(إنّ سرعة ائتلاف الأبرار إذا التقوا، وإنْ لم يظهروا التودّد كسرعة اختلاط ماء السماء بماء الأنهار، وإنّ بُعد ائتلاف قلوب الفجّار إذا التقوا وإنْ اظهروا التودّد بألسنتهم كبُعد البهائم مِن التعاطف وإنْ طال اعتلافها على مذود واحد).

 

التربية الروحية والثبات على الدين:

وأوضح ممّا سبق صلة التربية الروحية، والثبات على الدين في الأيام الصعبة، وامتصاص المحن، والحرب النفسية والاضطهاد الجسمي، والنفسي الذي تواجه به الجاهليةُ أصحابَ الرسول صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ومَن بَعدهم، ومَن قَبلهم أتباع الرسل والأنبياء. إنّ الصمود في المحن والبلاء. وفتنة العذاب والمواجهة هو سمة المؤمنين في القرآن الكريم:

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).

(قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

إلى آخر ما هنالك من آيات الصمود الإيماني في مواجهة قوى الضغط والعذاب.

كيف أتيح لهذه الأفواج المؤمنة أنْ تصمد في وجه التحدّيات، وتواجه الآلام، والإغراءات، والاضطهاد بالصبر والثبات؟ وما هو غذاء أصحاب موسى، وأصحاب الأخدود الربيّين، وأصحاب محمد في رحلة المكاره، والمصاعب؟ وبأي وقود استطاعوا الثبات، والتحدي، حتى وهم تحت سياط الجلادين، وقبضة الطغاة؟

كان غذاؤهم، وعزاؤهم، ووقودهم في كل هذه المرحلة الزهد.

(فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ)

وذكر الله، والتوكّل عليه، واحتسابه.

(وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)

(الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)

(وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)

والتطلّع إلى ثواب الله تعالى في اليوم الآخر، واسترخاص هذه الحياة الزائلة إلى حيث تلك الحياة الخالدة. والأُفق الواسع في تصور الحياة، ووعي حركتها، وقلة متاع الظالمين. وهكذا خوف الله واستشعار مراقبته. وهذا هو أيضاً جوهر التربية الروحية.

وأمثلة الصابرين بالله تعالى في المحنة، والبلاء بسبب عمق صلتهم بالله تعالى، وشديد تعلقهم به كثيرة جداً نعرف الكثير منها، ونجهل الكثير.

 

سجل القرآن الكريم بعضها وسجل التأريخ بعضها الآخر، وأسدل ستار الزمن على الكثير مِن صبر الصابرين في الله. ونحن هنا نستشهد بالمثالين التاليين، في كلّ تلك الحوادث:

1 - عن الفضل بن شاذان أنّه (سعي بمحمد بن أبي عمير إلى السلطان: إنّه يعرف أسامي عامة الشيعة بالعراق، فأمَره السلطان أنْ يسميهم فامتنع، فجر، وعلق بين (العقارين) نخلتين، وضرب مِئة سوط قال الفضل فسمعت ابن أبي عمير يقول: لما ضربت فبلغ الضرب مِئة سوط أبلغ الضرب الألم إليّ، فكدت أنْ أُسمّي فسمعت نداء محمد بن يونس بن عبد الرحمان يقول: يا محمد بن أبي عمير، اذكر موقفك بين يدي الله تعالى، فتقوّيت بقوله فصبرت، ولم أُخبر، والحمد لله).

2 - ومِن أروع ما يرويه الأصفهاني عن مجموعة الحسنيين التي سُجنت من قِبل المنصور، لعدم معرفته بمكان محمد بن عبد اللّه (ذو النفس الزكية) الذي كان قد بُويع بالخلافة سرّاً منذ العهد الأموي، ما رواه عن عليّ بن الحسين العابد الذي كان ضمن هذه المجموعة الصابرة.

(أ) - عن أحد السجناء منهم: حبسنا في المطبق، فما كنا نعرف أوقات الصلاة إلا بأجزاء القرآن يقرأها علي بن الحسن.

(ب) - وفي رواية: لـمّا حمل بنو الحسن إلى أبي جعفر أتى بأقياد يُقيّدونه بها، وكان عليّ بن الحسن قائماً يُصلّي وكان في الأقياد قيدٌ ثقيل، فجعل كلّما قرُب إلى رَجلٍ تفادى منه واستعفى، فانفتل عليّ من صلاته فقال: (لشدّ ما جزعتم شرعه هذا). ثمّ مدّ رجليه فقُيّد به.

(ج) وعن أحد السجناء: لـمّا حُبسنا كان معنا عليّ بن الحسن وكانت حلَق أقيادنا قد اتّسعت، فكنّا إذا أردنا صلاة أو نوماً جعلناها عنّا، فإذا خفنا دخول الحرّاس أعدناها، وكان عليّ بن الحسن لا يفعل فقال له عمّه: يا بني، ما يمنعك أنْ تفعل؟ قال: (لا واللّه لا أخلعه أبداً حتى أجتمع أنا، وأبو جعفر عند اللّه تعالى فيسأله لم قيّدني به؟).

(د) - وعن أحدهم: لـمّا دخلنا السجن قال عليّ بن الحسن: (اللهم إنْ كان هذا من سخط منك علينا، فأشدد حتى ترضى).

(ه‍) - وعن الحسن بن نصر قال: حبَسهم أبو جعفر في محبس ستّين ليلة ما يدرون بالليل، ولا بالنهار، ولا يعرفون وقت الصلاة ألاّ بتسبيح عليّ بن الحسن، قال فضجر عبد الله (أبو محمد) ضجرة فقال: يا علي، ألا ترى ما نحن فيه من البلاء؟ ألا تطلب إلى ربّك عزّ وجل أنْ يخرجنا من هذا الضيق والبلاء؟ قال: فسكت عنه طويلاً، ثمّ قال: (يا عم: إنّ لنا في الجنّة درجة لم نكن لنلقيها إلاّ بهذه البليّة، أو بما هو أعظم منها، وإنّ لأبي جعفر المنصور في النار موضعاً، لم يكن ليبلغه حتى يبلغ منّا مثل هذه البلية، أو أعظم منها، فإنْ تشأ تصبر فما أوشك فيما أحسبنا أنْ نموت، فنستريح من هذا الغم، كأنْ لم يكن منه شيء. وإنْ لم تشأ أنْ ندعو ربّنا أنْ يخرجك من هذا الغم، ويقصد بأبي جعفر غايته التي له في النار فعلنا، قال: لا، بل أصبر. فما مكثوا إلاّ ثلاثاً حتى قبضهم الله إليه.  

(ط) - ومن روايات أبي الفرج أيضاً، وعن أبي عبد اللّه ابن موسى قال: سألت عبد الرحمان بن أبي الموالي وكان معه بنو الحسن بن الحسن في المطبق: كيف كان صبرهم على ما هم فيه؟ قال: كانوا صبراء، وكان فيهم رجل مثل سبيكة كلّما أوقدت عليه النار ازدادت خلاصاً وهو إسماعيل بن إبراهيم، كان كلّما اشتدّ عليه البلاء ازداد صبراً.

هذه بعض الآثار العملية المهمّة للجانب الروحي. وهناك آثار أخرى: فالمؤمن العامل يصدر عن خلفية إيمانية، ورصيد روحي كبير، وعلاقة وثيقة باللّه تعالى هو الأكثر اندفاعاً، وإنتاجاً، والأكثر ثباتاً، واستقراراً في ظلّ المتغيرات الحياتية، من رفاه ورخاء إلى محنة وابتلاء ومن انفتاح الناس وتقبلهم إلى جفائهم وتكذيبهم، ومن بساطة العمل للّه إلى التعقد والتشابك، إنّ الإيمان وحده بما له من آثار في النفس، والشعور هو وحده القادر على الجمع بين الاندفاع في العمل، والهدوء في المشاعر والتسامي في الوجدان، وهي معانٍ من أصعب المعاني في مجال التربية.

كيف لا ينطلق المؤمن من الإثارة الخارجية؟ وكيف لا تهزّه العواطف والمتغيّرات؟ وكيف لا ينشغل بجزئيّات الحياة عن الاهتمامات الرسالية الكبرى؟ وكيف لا يضيق صدره من مواجهات التكذيب والسخرية ويحتفظ بطمأنينة ورباطة جأشه في أحرج اللحظات؟ وكيف يحتفظ بدرجة اندفاعه، وينمو عنده هذا الاندفاع في مختلف الظروف والأحوال؟!

وأخيراً. كيف يحافظ على استقامته الشرعية في معمعة العمل الاجتماعي، وضوضاء الحياة؟

والجواب: إنّ كل هذا ليس له سوى منبع واحد. هو الإيمان حينما يثبت في الجوارح كلّها في القلب والمشاعر، والإرادة، والوجدان.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد