مقالات

ما الحكمة من زيارة قبر الحسين عليه ‌السلام؟

الشيخ عبدالوهاب الكاشي

 

قال بعض الأدباء:

بزوّارِ الحسينِ خلطتُ نفسي

لتُحسب منهمُ يوم العدادِ

فإنْ عُدّتْ فقد سعدتْ وإلاّ

فقد فازتْ بتكثيرِ السوادِ

 هذه ظاهرة أخرى عند الشيعة لم تسلم أيضاً من النقد أحياناً، ومن التساؤل والاستفهام عنها أحياناً أخرى، وهي زيارة قبر الحسين عليه ‌السلام بكربلاء من أرض العراق في مواسم عدّة من أيّام السّنة، وخاصة يوم عاشوراء وهو يوم ذكرى مصرعه، ويوم الأربعين، أي العشرين من شهر صفر وهو يوم ذكرى عودة الرأس الشريف من الشام، والتحاقه بالجسد على يد الإمام زين العابدين عليه‌ السلام، الذي عاد في ذلك اليوم مع السبايا من الشام في طريقهم إلى المدينة المنورة فصادف وصولهم إلى كربلاء في يوم الأربعين بعد قتل الحسين عليه ‌السلام.

وهناك مواسم أخرى لزيارة قبر الحسين في خلال السنة، مثل ليلة النصف من شعبان، وليلة القدر من شهر رمضان، ويوم عرفة، ويوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى وغيرها تمتلئ فيها مدينة كربلاء بالزائرين من الشيعة والقادمين إليها من كلّ مكان.

 

وهذه الظاهرة ليست جديدة عند الشيعة، وإنّما هي سنّة مستمرة بينهم منذ تاريخ قتل الحسين عليه‌ السلام، ومنذ سنة إحدى وستين هجرية حتّى الآن، وقد حافظوا على القيام بزيارة قبر الحسين بكلّ إمكانياتهم، وقابلوا لأدائها تحدّيات جمّة كلّفتهم الأموال والأنفس في كلّ من العهدين المشؤومين الأموي والعباسي.

والآن وفي عصرنا يوجد أناس يتساءلون: ما هو الغرض العقلائي من زيارة قبر الحسين، وخاصّة إذا كانت الزيارة تستلزم شدّ الرحال، وتجشّم عناء السفر، وصرف الأموال؟

نقول: إنّ زيارة قبر الحسين عليه ‌السلام خير موضوع، فمَنْ شاء استقل ومَنْ شاء استكثر على حدّ تعبير الإمام الصادق عليه ‌السلام. أجل، إنّه عمل صالح وموضوع حسن ومحبوب عقلاً وشرعاً؛ أمّا حسنه من الناحية العقلية: فلأنّ تقديس العظماء وتمجيد الأبطال بعد موتهم نزعة فطرية وسنّة عقلائيّة سائدة في أنحاء العالم كافة، وبين جميع الأمم والشعوب العلميّة والحضارات الإنسانية منذ أقدم العصور وإلى يومنا هذا، بل إنّ عصرنا هذا وجيلنا الحاضر هو أكثر تمسّكاً وأشدّ محافظة على هذا التقليد من السابق.

فترى بعض الدول التي ليس لها زعيم سابق معروف وبطل عالمي شهير تمجّد فيه البطولة والفداء في سبيل الأمّة يعمدون إلى بناء نصب تذكاري يسمّونه (الجندي المجهول)، يرمزون به إلى التضحية الفذّة والفداء المثالي في سبيل الوطن، ويمجّدون فيه البطولة والشهامة.

وها نحن نسمع ونقرأ ونرى أنّه ما من رئيس دولة زار أو يزور دولة أخرى في الشرق أو في الغرب إلاّ وكان في برامج زيارته موعد خاص لزيارة ضريح عظيم تلك الدولة أو مؤسسها أو محرّرها، أو زيارة النصب التذكاري فيها للجندي المجهول، فيضع على ذلك الضريح أو ذلك النصب إكليلاً من الزهور ويؤدي التحيّة المرسومة.

والخلاصة هي: إنّ زيارة قبور الأبطال ومراقد العظماء وأضرحة الشهداء سيرة عقلائيّة وسنة إنسانية، لا تخصّ قوماً أو أمّة أو طائفة، فلماذا يُلام الشيعة أو ينتقدون إذا زاروا مرقد الإمام الحسين عليه ‌السلام بكربلاء وهو سيّد الشهداء الأحرار، وقدوة القادة الأبطال، والمثل الأعلى لرجال الإصلاح والفداء في العالم، الذي أنقذ أمّته من خطر المحو والزوال، ودفع بها نحو الأمام والسير على الطريق المستقيم بعد أن كلّفه ذلك جميع ما ملك في هذه الحياة؟!

 

ففي زيارة قبر الحسين عليه ‌السلام من المكاسب الروحيّة والفوائد الفكريّة والأخلاقيّة ما ليس مثلها في زيارة أيّ مرقد وضريح آخر؛ ولذا قال الإمام الصادق عليه ‌السلام: «مَنْ زار الحسين عليه ‌السلام عارفاً بحقّه فكأنّما زار الله في عرشه». وفي حديث آخر عنه عليه‌ السلام قال: «زيارة الحسين عليه ‌السلام فرض على كلّ مَنْ يؤمن للحسين عليه ‌السلام بالولاية».

ألا ترى الشعوب غير المسلمة تنحت الصور، وتقيم التماثيل لرجالها المصلحين في الساحات العامّة والمواقع الحساسة من مدنها؟ لماذا يصنعون ذلك؟ لا شك أنّك تعرف أنّهم يفعلون ذلك تكريماً لذكراهم، وشكراً لتضحياتهم، وتلقيناً لسيرتهم وعملهم إلى الشباب الحاضر والأجيال القادمة، غير أنّ الإسلام يحرّم النحت وصنع التماثيل مطلقاً، ولأيّ شخص كان.

فلذا ليس أمامنا نحن المسلمين لأجل تكريم زعمائنا المخلصين وشهداءنا الأحرار؛ لأجل الإعراب عن شكرنا لهم، ولأجل تلقين أجيالنا الطالعة سيرتهم ومبادئهم، إلاّ زيارة قبورهم، والوقوف أمام مراقدهم خاشعين مستوحين منها ذكريات التضحية والفداء في سبيل المصلحة العامّة.

هذا منطق الشيعة وفلسفتها لهذه الظاهرة، وهو كما تراه منطق العقل في كلّ زمان ومكان.

 

وفي الختام: إليك نبذة من كتاب (أبو الشهداء) للعقاد حول هذا الموضوع قال: وشاءت المصادفات أنْ يُساق ركب الحسين عليه ‌السلام إلى كربلاء بعد أنْ حيل بينه وبين كلّ وجهة أخرى، فاقترن تاريخها منذ ذلك اليوم بتاريخ الإسلام كلّه، ومن حقّه أنْ يقترن بتاريخ بني الإنسان حيثما عرفت لهذا الإنسان فضيلة يستحق بها التنويه والتخليد.

فهي - أي كربلاء - اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى، ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة، ولكنّها - أي كربلاء - لو أُعطيت حقّها من التنويه والتخليد لحقّ لها أنْ تُصبح مزاراً لكلّ آدمي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة وحظّاً من الفضيلة؛ لأنّنا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء بعد مصرع الحسين عليه ‌السلام فيها.

فكلّ صفة من تلك الصفات العلويّة التي بها الإنسان إنسان، وبغيرها لا يحسب إلاّ ضرباً من الحيوان السائم، فهي مقرونة في الذاكرة بأيّام الحسين عليه ‌السلام في تلك البقعة الجرداء(1). انتهى محلّ الشاهد من كلام العقاد.

وقد التزم أهل البيت عليهم ‌السلام وشيعتهم بالحفاظ على زيارة الحسين عليه ‌السلام في ظروف صعبة وشاقّة، وقد كلّفتهم تضحيات غالية؛ ففي عصر المتوكّل العباسي مثلاً فرضت ضريبة مالية قدرها ألف دينار من ذهب على كلّ شخص يرد كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه ‌السلام، ولـمّا رأت السلطات العباسيّة أنّ هذه الضريبة الباهظة لم تمنع الناس من زيارة الحسين عليه ‌السلام أضافوا إليها ضريبة دموية، فكانوا يقتلون من كلّ عشرة زائرين واحداً يعيّن من بينهم بطريق القرعة.

وكان أئمّة أهل البيت عليهم‌ السلام يعلمون ذلك كلّه ولم يمنعوا الناس من زيارة الحسين عليه ‌السلام لما فيها من مكاسب روحية واجتماعية وسياسية للمؤمنين، بل يحثّونهم على الاستمرار في زيارة قبر الحسين عليه ‌السلام رغم كلّ الصعاب والعقبات، ويقولون لهم إنّ لزائر قبر الحسين عليه ‌السلام بكلّ خطوة يخطوها حسنة عند الله سبحانه.  

ـــــــــــــــــــــــــــ

(1). أبو الشهداء الحسين بن علي / 129. 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد