مقالات

جوع العقول والأرواح

الشيخ مرتضى الباشا

 

يولد الإنسان ولديه جوع في ثلاثة جوانب وأبعاد:

الجوع الأول: هو جوع البطن والبدن، والإنسان منذ ولادته وهو يحاول سدّ هذا الجوع من خلال حليب الأم، ثم يتغيّر بمرور الزمن إلى شتى صنوف الأطعمة والأشربة.

 

الجوع الثاني: هو جوع العلم والثقافة، والإنسان بعد ولادته يبدأ بالتعرّف على العالم من حوله، تارة من خلال المشاهدة، أو اللمس، أو التذوق. وبمرور الزمن يبدأ بطرح الأسئلة الكثيرة والمختلفة (لماذا حدث هذا؟ وكيف؟ وأين؟) وتلك الأسئلة تشمل جميع جوانب العالم (أين الله تعالى؟ وكيف خلقنا؟ وأين هو؟ وكيف جئتُ إلى هذه الدنيا؟) وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة.

إلا أنّه بمرور الزمن وبشتى العوامل المختلفة، يبدأ هذا الشغف بالضمور لدى شريحة كبيرة من الناس، فتُزرع قناعة في ذهن الطفل بأنّ الدراسة ملل، أو أنّ العلم لا فائدة فيه إذا لم ينفع في الحصول على وظيفة، وماذا نستفيد من تعلّم قواعد نيوتن، وما شابه ذلك من عوامل وأفكار محبّطة.

 

الجوع الثالث: هو جوع الروح، وهذا الجوع لا يسده إلا الاتصال بالله تعالى بمختلف أنحاء الاتصال، كالصلاة والدعاء والسجود وتلاوة القرآن الكريم {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ  أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

 

وقد جاهد أهل البيت عليهم السلام لتلبية هذه الحاجة الفطرية والضرورية عند الإنسان، من خلال الكثير من الأعمال الواجبة والمندوبة كالصلوات والأدعية والزيارات، وفي طليعة تلك الجهود (الصحيفة السجّادية) التي تعتبر من مفاخر الشيعة، وتحمل الكثير من الكنوز المعرفية بالله تعالى وبالإنسان.

روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار [من لا يحضره الفقيه 3: 359].

 

الإنسان يحتمي من بعض الأطعمة لاحتمال تسببّها في إسهال، أو وجع في البطن، أو بعض الحساسية، أو زيادة السّمنة، وما شابه. وهذا مطلوب في حدّ نفسه، ولا مانع منه، وإنما ينبغي أن يهتم الإنسان بحماية نفسه من الذنوب أكثر من اهتمامه بحماية بدنه وجسمه.

لماذا؟ لأن المشاكل البدنية ربما تبقى معه يومًا أو يومين، وربما شهورًا أو إلى نهاية الحياة الدنيوية، أما الذنوب والمعاصي، فهي تؤدي به إلى نار سجّرها جبّار السماوات والأرض للعصاة خالدين فيها أبدًا. فالحذر من مسببات الدخول في النار أولى بكثير من الحذر من المضرّات الجسدية.

 

وروي عن الإمام السجّاد عليه السلام: عجبت لمن يحتمي عن الطعام لمضرّته، ولا يحتمي من الذنب لمعرّته [بحار الأنوار 75: 159].

والمعرّة هي الإثم، وقد جاءت هذه الكلمة في قوله تعالى {فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25].

 

إذن فالحذر من الإثم أولى من الحذر من مضرّة الطعام، إذ لا مقارنة في الخطورة بين الضرر البدني مهما طال، مع الضرر الأخروي الخالد بلا نهاية، لا سيما بملاحظة غضب الله سبحانه والبعد عن ساحته وقربه.

وروي عن الإمام الحسن بن علي عليه السلام: عجبت لمن يتفكر في مأكوله كيف لا يتفكر في معقوله؟! فيجنب بطنه ما يؤذيه، ويودِع صدره ما يرديه [بحار الأنوار 1: 218].

 

إذا كان الإنسان يفكر (ماذا سآكل؟ ومن أين أحصل عليه؟ أو كيف أعدّ طعامي وشرابي؟) ويتفنن في إعداد طعامه، فكيف لا يفكر في عقله، كيف يكبّر عقله وعلمه ووعيه وتفكيره؟

إذا كان يحذر من تناول الطعام الفاسد، فكيف لا يحذر من تناول العلم الفاسد الباطل؟!!

فيودِع صدره ما يرديه، أي ما يهلكه، وقال عزّ وجل {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ} [طه: 16].

 

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: ما لي أرى الناس إذا قرب إليهم الطعام ليلاً تكلّفوا إنارة المصابيح، ليبصروا ما يدخلون بطونهم، ولا يهتمون بغذاء النفس، بأن ينيروا مصابيح ألبابهم بالعلم، ليسلموا من لواحق الجهالة والذنوب، في اعتقاداتهم وأعمالهم [مستدرك سفينة البحار 6: 537].

إذا قُدّم لك الطعام في الظلام، ولم تدرِ ما الطعام، تتكلف المجيء بمصباح لترى الطعام قبل أن تدخله إلى بطنك، وهذا لا مانع منه، إلا أنّ بعض الناس لا يهتمون بالفحص عن غذاء النفس، فيدخلون إليها الأفكار والاعتقادات قبل فحصها واختبارها والتأكد من صحتها!! وهكذا يقعون في لواحق الجهالة والذنوب بدون عذر مقبول، لأنهم مقصّرون في عملية التعلّم والبحث والفحص.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد