ما مدى صحّة حديث: «إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه»، وإذا صحّ فماذا نفهم منه؟ وهل الحبّ مرتبط بابتلاء؟ بمعنى آخر هل يمكن أن نستنتج أنّه عندما يحبّ الله عبداً فهو يبتليه أو الذي يحبّه أكثر يبتليه أكثر وهكذا؟
ورد هذا الحديث بهذه الصيغة في كتاب (التمحيص : 55 - 56) المنسوب إلى محمّد بن همام الإسكافي (336 ه -)، ولو غضضنا الطرف عن أصل الكتاب لكفى عدم وجود سند بين الإسكافي والراوي الذي روى الحديث عن الإمام، فقد جاء الحديث فيه على النحو التالي: عن سفيان بن السمط، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إنّ الله إذا أحبّ عبداً ابتلاه وتعهّده بالبلاء، كما يتعهّد المريض أهله بالطرف، ووكل به ملكين فقال لهما: أسقما بدنه وضيّقا معيشته وعوّقا عليه مطلبه حتى يدعوني، فإنّي أحبّ صوته، فإذا دعا قال: اكتبا لعبدي ثواب ما سألني، فضاعفاه له حتى يأتين ، وما عندي خير له».
وروى البيهقي في (شعب الإيمان 7 : 146) عن أبي هريرة أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عز وجل إذا أحبّ عبداً ابتلاه ليسمع صوته». وورد الحديث أيضاً بصيغة: «إنّ الله إذا أحبّ قوماً ابتلاهم»، وذلك في مصادر الحديث عند أهل السنّة.
وهذا الحديث يجرّ إلى تحليل قضيّة مفصليّة في موضوع البلاء والابتلاء ونزول العذاب، وخلاصتها - من وجهة نظري المتواضعة - أنّ أمامنا في النصوص الدينية عدّة مجموعات تتعرّض لنزول المصائب بشخص أو أمّة - سواء كانت هذه المصائب بلاءً وعذاباً أو امتحاناً وابتلاءً واختباراً - وأهمّها ما يلي:
المجموعة الأولى: ما يفيد أنّ المصيبة أو النازلة التي تنزل تكون بمثابة الابتلاء الذي يُهدف منه اختبار قدرة الإنسان وصبره وإيمانه، تماماً كما هي الدنيا التي تعدّ بنفسها داراً للاختبار والامتحان والابتلاء، فليست المصيبة شيئاً استثنائيّاً خارجاً عن المنطق العام للابتلاء في الحياة الدنيا.
المجموعة الثانية: وهي تؤدّي نفس مضمون المجموعة الأولى مع إضافة خصوصيّة، وفي هذا السياق يأتي هذا الحديث وأمثاله، بمعنى أنّ الله يبتلي العبد ليوفّر له مناخاً للأوبة إليه والتضرّع والدعاء، فقد يقوم شخص بأفعال الخير فيعلم الله من نفسه الخير، فيجازيه بمزيد من التقريب له إليه، وذلك بأن يُنزل به ابتلاءً، لكي يجرّه أكثر فأكثر إلى الدعاء والتضرّع والعودة إلى الله والإحساس الروحي به والذي هو الغرض الأصلي من الحياة في الفلسفة الدينية.
وهذا لا يعني أنّ الذي لا ينزل به الابتلاء لا يكون محبوباً لله، بل غاية ما يعني أنّه من الممكن أنّه لا يحتاج لنزول الابتلاء؛ لأنّه يعود إلى الله ولو من دون ابتلاء، فيكون أكمل من الذي ابتلي. فالابتلاء هنا معناه توفير الله فرصةً للإنسان الذي يكون محبوباً لله تعالى ويعلم الله صلاحه وأنّه سوف يرجع بقلبه إلى الله عندما تشتدّ عليه الأمور، ويكون ذلك مساحةً جديدة له لتقوية علاقته بالله سبحانه. إنّ الابتلاء هنا فرصة يوفّرها الله لمن يجد في قلبه الخير والإيمان أو مقوّماتهما، فبعض الناس يحتاجون لهزّات في الحياة لكي يشتدّ إيمانهم، فعندما يعلم الله الخير فيهم ويحبّهم فهو يوفّر لهم مثل هذه الهزات.
المجموعة الثالثة: وهي التي تشير إلى الابتلاء الهادف لإسقاط الإنسان في المزيد من الخسارة والهلاك، وذلك يكون على شكل عقوبة له على أفعال أقدم عليها، فعندما يفسد الإنسان ويطغى قد يبتليه الله سبحانه بالمسرّات والمضرّات، عقوبةً له على طغيانه، فيزداد هذا الإنسان طغياناً بهذه المسرّات والمضرّات المبتلى بها، بدل أن تكون عنصر عودة له إلى الضمير والوجدان والحقّ، وهذا يعني أنّه إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، وكذلك إذا أبغضه قد يفعل معه الشيء نفسه، وهذا معنى أنّ الله يمدّ أهل الكفر والضلالة، ويمتّعهم إلى حين، ويبتليهم بالعافية، كما أنّ هذا هو معنى الإمهال بوجهٍ من الوجوه.
المجموعة الرابعة: وهي التي تشير إلى البلاء والعذاب والغضب الإلهي، وهي نصوص كثيرة تدلّ على ذلك من حديث القرآن الكريم عن الأقوام الذين نزل بهم البلاء والعذاب على أشكالهما.
وهذا كلّه يعني أنّ ما نراه نحن مصيبةً يحتمل احتمالات: إمّا هو من حبّ الله للعبد، وإمّا هو من بغضه له وعقوبته، وإثبات أنّ النازلة أو المصيبة المعيّنة من أيّ النوعين أمرٌ ليس بالبسيط بالنسبة إلينا؛ لجهلنا بخفايا الأمور وبعالم الإرادة الإلهيّة في غالب الموارد، لكنّنا نتفاءل بأنّ ذلك من حبّ الله لنا، فيدعونا ذلك إلى التضرّع والعودة إليه سبحانه.
ومؤدّى هذا كلّه أنّ الشرّ - إن صحّ التعبير - الذي يواجهه الإنسان من خلال المصائب والبلايا والأزمات، هو ذو وجهين، فقد يحتمل الرحمة والابتلاء، وقد يحتمل الغضب والبلاء والعذاب، ففي علم الله تعالى تكون الأمور واضحة، أمّا في علمنا المحدود فمن الصعب علينا التمييز، فلو أخذنا اليوم عذاباً من عذاب الأمم الماضية - مع بقائهم أحياء - والتي حدّثنا عنها القرآن الكريم، ودرسناه على المستوى التاريخي والطبيعي، فلن نتمكّن من اكتشاف أنّه جاء بنحو العذاب أو الابتلاء، وبنحو المحبّة أو الغضب، كلّ ما يظهر لنا هو نتيجة الحدث المادي، أمّا الأغراض التي بني عليها الحدث المادّي، والكامنة في عالم الإرادة الإلهيّة فمن الصعب اكتشافها؛ لأنّ الحدث المادّي لا يحكي عنها، كما أنّه متساو النسبة إليها، ولولا أنّ النصّ القرآني أخبرنا بأنّ هذا كان عذاباً لما علمنا بذلك، ولخمّناه تخميناً.
وهكذا الحال في عصرنا الحاضر، حيث يبتلي الناس بالظنون والتخمينات، فلو نزل عذابٌ بقوم - من زلزال أو عاصفة أو غير ذلك - قالوا: هو غضب، ولو نزل بهم، قالوا: هو ابتلاء وامتحان، أو محبّة بتطهيرنا من الذنب عبر إنزال العذاب الدنيوي لتجاوز العذاب الأخروي، وقد يكون الأوّل ابتلاء والثاني غضباً وبالعكس.
لكنّ منطق التفاؤل الإيماني يدعونا لكي نتقوّى على مواجهة المصائب بالأخذ بالأمل. وعنصر الأمل هنا هو أن يكون الله تعالى قد ابتلانا وأحبنا، كما قد نحتاج أحياناً إلى عنصر الغضب الإلهي عندما نريد أن نهزّ ضمائرنا، فنحاول نفسيّاً أن نفترض أنّ هذا العذاب الذي نزل هو من تقصيرنا ليكون ذلك دافعاً لنا للنهوض والعودة إلى الله تعالى مجدّداً، ولكنّ هذه بأجمعها سياقات نفسية لخلق الأمل أو الندم، وليس على المستوى العقلي إمكانات سهلة لاكتشاف واقع القصد الإلهي، إلا على سبيل الظنّ في الغالب. وهكذا الحال عندما نقول بأنّ هذا العذاب نزل لكي يطهّرنا الله من ذنوبنا ويكفّرها في الدنيا عنّا، أو نزل لكي يزيد من صبرنا وإيماننا.
وخلاصة القول: إنّ الحدث الواحد - وهو العذابات والمصائب، وكذلك الخيرات والمسرّات - يمكن أن يفسّر بقصود وغايات متعدّدة في الفعل الإلهي، ومن الصعب عقليّاً اكتشاف القصد وتعيينه، لكنّ النصوص الدينية تدفعنا - نفسيّاً - لافتراض الاحتمال الذي يساعدنا على المستوى الإيماني بحسب الحالة التي نحن فيها. هذا ما أفهمه بضمّ مجموعات النصوص إلى بعضها بعضاً والعلم عند الله.
حيدر حب الله
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الحكيم
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ جعفر السبحاني
عدنان الحاجي
السيد محمد باقر الصدر
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان