مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد الريشهري
عن الكاتب :
ولد عام 1365ﻫ في مدينة الري جنوب طهران. بدأ بدراسة العلوم الدينية في مسقط رأسه، في سافر إلى قم عام 1380ﻫ لإكمال دراسته الحوزوية، وبعد انتصار الثورة الإسلامية سافر إلى طهران، واستقرّ بها حتّى وافاه الأجل، مشغولاً بالتأليف والتدريس وأداء واجباته الدينية. من مؤلّفاته: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنّة والتاريخ، ميزان الحكمة، موسوعة الإمام الحسين (ع) في الكتاب والسنّة والتاريخ، موسوعة العقائد الإسلامية، المنهج السياسي للإمام علي (ع).

حقيقة العلم

إنّ حقيقة العلم نور يرى به الإنسان العالم كما هو، ويجد موقعه في الوجود بسببه، ولنور العلم درجات، أرفعُها لا يكتفي بتعريف المرء على طريق تكامله، بل يقتاده في هذا المسار، ويبلغ به المقصد الأعلى للإنسانيّة. لقد تحدّث القرآن الكريم عن هذا النور بصراحة، فقال: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِّنْهَا) (1)؟!

 

وبعبارة أُخرى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) (2)؟! قال الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عن هذا النور وأهمّ خواصّه التي هي إيصال الإنسان إلى المقصد الأعلى للإنسانيّة "في وصف السالك الطريق إلى الله": "قَد أحيا بعَقله، وأماتَ نَفسَهُ، حَتّى دَقَّ جَليلُهُ، ولَطُفَ غَليظُهُ، وبَرَقَ لَهُ لامِعٌ كَثيرُ البَرقِ، فَأبانَ لَهُ الطَّريقَ، وسَلَكَ بِهِ السَّبيلَ، وتَدافَعَتهُ الأبوابُ إلى بابِ السَّلامَةِ، ودارِ الإقامَةِ، وثَبَتَت رِجلاهُ بِطُمَأنَينةِ بَدَنِهِ في قَرارِ الأمنِ وَالرّاحَةِ، بِمَا استَعمَلَ قَلبَهُ، وأرضى رَبَّهُ". (3).

 

إنّ الآيات والأحاديث التي تعدّ نورانيّة الإنسان مقدّمة لحركته الصحيحة في المجتمع تلقاء الكمال المطلق، أو تفسّر العلم بالنور، أو ترى أنّ العلم ملازم للإيمان بالله ورسالة الأنبياء، مقترناً بالصفات المرضيّة والأعمال الصالحة، إنّما توضّح في الحقيقة جوهر العلم وحقيقته.

 

ودليلنا على أنّ هذا النور هو لبّ العلم، وجميع العلوم الرسميّة قشرٌ له، هو أنّ قيمة العلوم المذكورة مرتبطة به. إنّ جوهر العلم هو الذي يهب العلم قيمة حقيقيّة، أي يجعله في خدمة الإنسان وتكامله وسعادته، وبغيره لا يفقد العلم مزاياه وآثاره فحسب، بل يتحوّل إلى عنصر مضادّ للقيم الإنسانيّة.

 

ولهذا نقول إنّ قيمة جوهر العلم مطلقة، وقيمة العلوم الرسميّة مشروطة، وشرط قيمتها أن تكون في خدمة الإنسان، ولا يمكنها أن تصبّ في خدمته إذا جُرّدت من جوهر العلم، بل إنّها ربّما استخدمت ضدّ الإنسان.

 

النقطة المهمّة اللافتة للنظر هي أنّ العلم عندما يفقد جوهره وخاصّيّته، فلا يساوي الجهل فحسب، بل يصبح أشدّ ضرراً منه؛ إذ يعجّل في حركة الإنسان نحو السقوط والانحطاط.

 

إذا فقد العلم جوهره واتّجاهه الحقيقيّ، فإنّه يُصبح كالدليل الذي يسوق المرء إلى هاوية الضلال، بدل أن يهديه إلى سواء السبيل، من هنا كلّما تقدّم العلم، كان خطره أكبر على المجتمع الإنسانيّ.

 

إنّ الخطر الكبير الذي يهدّد المجتمع البشري اليوم هو أنّ العلم قد ارتقى كثيراً، بَيْد أنّه فقد جوهره وخاصّيته واتّجاهه السديد، واستُخدم باتّجاه انحطاط الإنسانيّة وسقوطها.

 

ويمكن أن ندرك بتأمّل يسير، الآفات التي فرضها العلم على المجتمع البشريّ في واقعنا المعاصر، ونفهم ماذا تجرّع الإنسان من ويلات حين قبضت القوى الكبرى على سلاح العلم، ونعرف كيف تعاملَ الناهبون - الذين استغلّوا العلم لسلب الإنسان مادّيّاً ومعنويّاً - بقسوة، ولا يرحمون أحداً.

 

قال برشت "الإنسان المعاصر متنفّر من العلم؛ لأنّ العلم هو الذي أوجد الفاشيّة وفرضها على البشريّة، والعلم هو الذي وسّع رقعة الجوع لأوّل مرّة، بحيث غدا اثنان - من كلّ ثلاثة في العالم – جياعاً" (4).

 

هل يمكن أن نسمّي وسائل النهب، والجوع، والقتل، والفساد علماً؟! أهو علم ونور هذا الذي يسوق المجتمع شطر الفساد والضياع، أم هو الجهل والظلمة؟

 

هنا يستبين معنى الكلام النبويّ الدقيق، إذ قال (صلى الله عليه وآله): "إنَّ مِنَ العِلمِ جَهلا" (5). يثار هنا سؤال يقول: كيف يصير العلم جهلاً؟ ألا يعني هذا تناقضاً في الكلام؟ بيد أنّنا إذا تأمّلنا فيه تبيّن لنا أنّه ليس تناقضاً في الكلام، بل هو كلام دقيق ذو مغزى.

 

عندما يفقد العلم جوهره وخاصيّته، فهو والجهل سواء. ولذا قال الإمام عليّ (عليه السلام): "لا تَجعَلوا عِلمَكُم جَهلاً" (6). أي لا تتصرّفوا تصرّفاً يُفقد العلم خاصّيّته، ويسلب منه اسمه الصحيح.

 

لقد مُني العلم اليوم بهذا المصير المشؤوم بعد فقده جوهره واتّجاهه المستقيم السديد، فأصبح كالجهل قاتلاً، مُفسداً، مدمِّراً، بل أصبح أشدّ ضرراً من الجهل!

 

ما أروع كلام الإمام عليّ (عليه السلام) وما أدقّه! إذ قال: "رُبَّ عالِم قَتَلَهُ جَهلُهُ، وعِلمُهُ مَعَهُ لا يَنفَعُهُ" (7). إنّ المصير المؤسف للعالِم الذي يهلك من جهله عجيب حقّاً، فعندما حدّث سعد بن أبي وقّاص رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرّةً، بما جرى له في سفره، قال له مصوّراً جهل القوم المرسل إليهم: أتيتك من قوم هم وأنعامهم سواء! فقال له (صلى الله عليه وآله): "يا سَعدُ، ألا أُخبِرُكَ بِأعجَبَ مِن ذلِكَ؟ قَومٌ عَلِموا ما جَهَل هؤلاءِ ثُمَّ جَهَلوا كَجَهلِهِم" (8).

 

إنّ هذا الكلام يعبّر لنا عن مصير العلم في واقعنا المعاصر، فالعالَم المتحضّر ذو العلم اليوم يعاني من الجهل حقّاً، وهو ضحيّة جهله! وهكذا فعلم البشريّة يغزو الفضاء ويصل إلى القمر لكنّه عاجز عن أداء أقلّ دور في حركة الإنسان نحو الكمال المطلق ووعي الإنسانيّة وتكاملها!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 . الأنعام : 122 .

2 . الزمر : 9 .

3 . نهج البلاغة : الخطبة 220 ، بحار الأنوار : 69 / 316 / 34 .

4 . تاريخ وشناخت أديان ( بالفارسية ) : 34 .

5 . راجع : ج 2 ص 487 " العالم بلا عمل جاهل " .

6 . راجع : ج 2 ص 488 ح 3243 .

7 . راجع : ج 2 ص 488 ح 3245 .

8 . راجع : ج 2 ص 487 ح 3241 .

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد