هناك حب وهمي وحب حقيقي. وتقسيم الحب إلى حب مجازي وحب إلهي ليس دقيقًا. فالحب كله إلهي. الذين تحدّثوا عن الحب المجازي وقصدوا به أنّه ليس بالحب الحقيقي، وإنّما هو مجاز إلى الحب الإلهي الذي هو الحب الحقيقي ربما لم يعرفوا ما هو الحب، أو لأنّهم جربوا الحب الإلهي ومن شدته وقوته أضحى حب ما سواه كلا شيء.
فالحقيقة هي أنّك إمّا أن تحب حقًّا أو لا تحب. لا يوجد شيء بينهما. لكن الحب الحقيقي درجات، وذلك يكون بحسب من تحب. قوة حضور المحبوب هي التي تحدد درجات الحب. ولا يكون للمحبوب حضور إلا بصفاته وخصائصه الحقيقية.
كل حب حقيقي هو رشحة أو تجلٍّ من الحب الإلهي. ويمكن أن نقول بأنّ أي درجة من الحب هي بمثابة تذوُّق للحب الأعلى. إنّه الطعم نفسه لكن المحب قد يذوق وقد يأكل وقد يشبع وقد يغرق ويذوب.
لذلك إن استطعنا أن نحب شيئًا ما أو شخصًا محددًا حبًّا حقيقيًّا، نكون قد أدركنا الحب الإلهي؛ وسوف نقول بعدها ما أجمل أن نستغرق في هذا الحب ونضمحلّ فيه.
وإذا كان هذا الشخص المحبوب ناقصًا أو محدودًا، فعلينا أن نخاف على هذا الحب من أن يقيّده، كما يحصل لمن نال رزقًا فاستغنى بدل أن يشكر ويطلب المزيد. ومن استغنى عن الرازق افتقر.
تدفعنا مخاوفنا والأنانيات إلى الاستغراق في درجة الحب الأولى. ربما نخاف أن نخسر هذه اللذة الفريدة والتجربة الممتعة، فلا نسمح لقلوبنا أن تتوسع على تجارب أعلى وأعمق. وقد تكون النتيجة أن نخسر تلك الدرجة أيضًا. في الرزق يُعبَّر عن هذه الحالة بسوء الظن.
حين نذوق رحمةً، ونظن أنّنا لن ننال مثلها أو ما هو أعظم وأعلى منها، نكون جاهلين بالإله الذي وسعت رحمته كل شيء، أو أنّنا نسيء الظن به، وهو يقول: {وَاسْألُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه}،[1] ويقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُمْ}.[2]
فالحب يتكامل ويتعاظم. وما كانت تلك الدرجة منه سوى مقدّمة لدرجات أعلى. فالله يسمح لبعض القلوب الصادقة أن تذوق حقيقة الحب حتى يشتعل فيها الشوق إلى أعلى درجاته. حبنا للمخلوقات مقدمة لحب الله، كما أنّ من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق.
هناك قلوب تكون مستعدة لتجربة الحب الصادق وأخرى بعيدة جدًّا عنه. كل الناس يفقدون هذا الاستعداد عبر ترسيخ الأنانية في قلوبهم. قبل تفتُّح الحب يتم تغذية حب الذات في النفوس. حب الذات هنا بالمعنى الوهمي لا حب الذات بالمعنى الحقيقي.
لو كنّا نحب ذواتنا بما هي ذوات لكنّا قاب قوسين من حب الله. وكما تحصل الغربة عن الذات، فإنّ حب الذات الحقيقية يصبح بعيد المنال. هنا قد نتصور أنّنا نحب ذواتنا وفي الواقع الأمر ليس كذلك.
ذواتنا تتشكّل في تصوُّراتنا وفق تجربة الحياة. كل واحد منّا يرسم تصوّره عن ذاته بحسب تجاربه التي تبدأ من التربية الأولى. معظم الناس ينسجون ذواتهم على أساس الأعراف والثقافات السائدة. ولأنّ هذه الأعراف تكون أبعد ما يكون عن حقيقة الذات، فإنّ تصوّرنا لذواتنا يصبح بعيدًا جدًّا عن الحقيقة.
في التصوّر الإسلامي ذات الإنسان هي الحقيقة المتّصلة بالله، {وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي}.[3] ولو أدرك الإنسان ذاته الحقيقية لأدرك الله. ولا يعني هذا الكلام أنّه سيحيط بالله. لكن ذلك العلم والشعور بحضور الله ـ بكل ما يعنيه هذا الحضور ـ يصبح واضحًا وجليًّا.
لا يمكن للإنسان أن يُدرك ذاته الحقيقية ولا يُدرك الله. وكذلك، لا يمكن لمن أدرك ذاته وأدرك الله ألّا يدرك مخلوقات الله. فنحن كبشر نعلم أكثر الأشياء (إن لم يكن كلّها) بالمماثلة. لو لم يكن هناك مثيل لِما نعرفه لما عرفناه (وهنا ينقطع الخطاب).
وهكذا يكون الحب. فنحن إن أحببنا ذواتنا الحقيقية فإنّنا سنحب كل ما يماثلها. إنّه عالم الأرواح الذي ما تعارف منه ائتلف. وهو أمرٌ حتمي.. يمكن للبشر أن يشعروا بدرجة ضعيفة من هذه الحقيقة في ذلك الشعور الإيجابي تجاه بعضهم بعضًا، خصوصًا إذا كانوا في حالة من الوحدة أو العزلة. لو اضطُرّ إنسانٌ ما إلى العيش في جزيرة نائية وحده، فإنّ أكثر ما سيتوق إليه هو إنسانٌ مثله. ولو وجده بعد حين فربما يبكي من شدة الفرح. هذا قبل أن يعرفه حق المعرفة.
إن عرفنا موانع الحب الحقيقي قد نصبح مستعدين لخوض هذه التجربة بطريقة صحيحة. إنّ الأنانية (التي هي عبارة عن التعلُّق بغير الحقيقة التي هي الروح المشتركة عند البشر عمومًا)، وكذلك الحب لما هو اعتباري ووهمي (والذي أطلقت عليه الأعراف والثقافات الضعيفة كلمة الأنا والذات)، كل ذلك يمنعنا من أن نجرّب الحب الحقيقي أو نذوق طعمه ولو مرّة واحدة.
كثيرون هم الذين لا يمتلكون أيّ استعدادٍ للحب، ومع ذلك يبحثون عنه دومًا. إنّ ذلك يعكس تلك الغربة التي تجعل الإنسان مستوحشًا دائمًا وهو يريد الرجوع إلى وطنه الأصلي لكنّه لا يدركه. فمن لم يجد نفسه الحقيقية كيف يمكن له أن يخرج من هذه الغربة؟!
لأجل ذلك كان علينا أن ندرك هذه الذات الاعتبارية والأنا التي اصطنعتها أوهام الثقافات الدنيوية، حتى نتمكن من تجاوزها؛ وهذا ما يُطلق الناس عليه عنوان التضحية والإيثار.
استعدادنا لإيثار أنفسنا (التي هي الأنا الوهمية) لمصلحة الآخرين هو الذي يجعلنا جاهزين لتجربة الحب الواقعي. حين نكون مستعدّين للتخلّي عن كل تلك الاعتباريات التي نسجناها حول ذواتنا وجعلناها عنوان الأنا والهوية، فسوف نصبح لائقين للحب مهما كانت درجته. كلما كان المحبوب أعلى شأنًا ويستحق التضحية، وكانت التضحية أعلى وأكبر، كان لنا فرصة الفوز السريع بهذه الحالة.
الحب يدور حول التخلّي عن الأوهام والاعتبارات. بعض هذه الاعتبارات يكون مستحكمًا إلى درجة نظن معها أنّ علينا أن نبذل الكثير وأن نضحي. لكن بعدها سنكتشف أنّنا لم نضحِّ بشيء، بل كنا نتخلص من وهم، ونلقي في القمامة اعتبارٍ وقشر.
أولئك الذين يتصوّرون أنّ الحب هو أخذ وحصول، ما أبعدهم عن هذا الحب! فالحب ينبع من العطاء. ولأنّنا في الواقع لا نعطي ما نمتلكه حقًّا، فإنّه يدور حول التخلُّص والتحرُّر.
ما دمتُ أبحث في الحب عن الحصول على الأمن والاستقرار والمتعة واللذة والأُنس، فإنّ هذا سيجعلني أكثر أنانية؛ فكل هذه الأمور تدور حول ذاتي أنا.
الحب هو الاستعداد لنضحي بأمننا وقرارنا ومتعاتنا ولذّاتنا من أجل الآخر. وحين نصبح كذلك يتفتح القلب على تجربة الحب؛ وسرعان ما يجد المحبوب ماثلًا أمام عينيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. سورة النساء، الآية 32.
[2]. سورة إبراهيم، الآية 7.
[3]. سورة الحجر، الآية 29.
الشيخ باقر القرشي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
عدنان الحاجي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ شفيق جرادي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد حسين الطبطبائي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
ضرورة التربية
بين عليّ (ع) وبعض أبنائه
الفتنة الغالبة (1)
شعبان ورمضان: شهرا التجلي والمعنويات
سرّ أسلوب مذاكرة الدّروس الفعّالة
(فضول الفنّ) معرض للفنّانة الواعدة زمان الغريافي
مهرجان تراثيّ في تاروت بمناسبة القرقيعان
لسان القرآن
آيات القرآن الكريم القاطعة في الإخبار بالغيب
الوصول إلى الحبّ الحقيقيّ