فجر الجمعة

السيد حسن النمر : من يحبهم الله ومن لا يحبهم (4)

السيد حسن النمر
مسجد الحمزة ع بسيهات
Dec 27, 2024 - ٢٥ جمادى الثاني 1446 هـ

 

 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق وأشرف الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.

لا يزال حديثنا عن معرفة من يحبهم الله ومن لا يحبهم.
وقد سبق أن تناولنا فريقًا من المحبوبين وهم المحسنون.

ولنقف الآن بإيجاز عند فريق لا يحبه الله، وهم المفسدون.
فما هو الفساد؟ ومن هم المفسدون؟
أما الفساد، فهو خروج الشيء عن طبيعته وما يجب أن يكون عليه.
فالثمرة المأكولة توصف بالفاسدة إذا خرجت عن صلاحيتها للأكل.
والإنسان الفاسد هو الخارج عن الشرع في نظر المتشرعة، والخارج عن القانون في أعراف الدول.
فالمرتشي فاسد؛ لأنه يتلقى مالًا بطريق غير مشروع لتحقيق غاية غير مشروعة.
وشارب الخمر فاسد؛ لأنه يخرج عما فرض الله على الناس أن يراعوه فيما يحل شربه وما لا يحل.
والموظف المقصر في أداء مهامه فاسد؛ لأنه يخرج عن مقتضى عقد الإجارة الذي أمضاه مع جهة توظيفه.
وقد قال الإمام الصادق عليه السلام:
"إظهار الشيء قبل أن يستحكم مفسدة له".

والأمثلة على الفساد كثيرة، وكل فساد، أيها المؤمنون، قبيح لدى الناس جميعًا.
حتى أن الدول تتفاخر بأنها تكافحه وتجتهد في اجتثاثه.
وهو محظور شرعًا، فقد قال الله عز وجل:
"ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولى، سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد".

 

وهاتان الآيتان الكريمتان تفصلان لنا حال فريق فاسد من الناس، وبعضًا من أشكال فساده من خلال مؤشرين:

المؤشر الأول:
هو أن الفاسد يعمد إلى تحسين سمعته بين الناس على خلاف ما هو عليه، وذلك أنه يتخير من الكلام ما يعجب الناس ويستحسنونه.
والفاسد إنما يعتمد ذلك لأنه واحد من الناس الذين يعرف بعضهم بعضًا بما يظهر منهم، وأهم ما تعارف عليه الناس طريقًا من طرق التعريف بأنفسهم هو الكلام. لذلك فإن الفاسد يحرص على انتقاء الكلمات الدالة على حسن الحال.

المؤشر الثاني:
هو أن الفاسد ذو قلب خاصم للحق وأهله.
ولا بد من التنبيه إلى أن هذه المخاصمة للحق وأهله ليست بمستوى واحد، وإنما هي مراتب، والفاسدون طبقات.

  • فثمة فاسد بمستوى الكفر بالله والمجاهرة بذلك.

  • وفاسد آخر بمستوى الكفر بالله دون المجاهرة بذلك، وهو المسمى بالمنافق.

  • وثمة فاسد ثالث بمستوى ارتكاب المعاصي الكبيرة والكثيرة.

  • وفاسد رابع بمستوى اقتراف بعض المعاصي الكبيرة.

  • وثمة فاسد خامس بمستوى اقتراف المعاصي الصغيرة بكثرة وإصرار، وهؤلاء يوصفون بالفسق.

  • وثمة فاسد سادس بمستوى اقتراف المعاصي الصغيرة دون إصرار عليها.

وما تناولته الآية بالذم والتحذير هو الفاسد الذي إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل. وهذا نحو من الفساد يبتلى به شريحة من الناس أتيحت لهم الفرصة بأن تكون لهم ولاية على غيرهم دون أن يكونوا أهلًا لها.

فهؤلاء لا يكتفون بأن يكونوا فاسدين على مستوى ذواتهم، بل يتحولون إلى مفسدين تضج الأرض ومن عليها، من حرث ونسل، منهم ومن فسادهم.

ولما كان الله تعالى كاملًا في ذاته وفعله، وكان مريدًا لخلقه الكمال، وقد أنزل عليهم كتابًا يهدي للتي هي أقوم، وهو مع ذلك قد أكمل دينهم وأتم نعمته عليهم، فإن من الضروري أنه لا يحب الفساد.

وإذا كان الفساد مبغوضًا عند الله، فلا بد أن يكون المفسد مبغوضًا له، لأن قبح الفعل يدل على قبح الفاعل غالبًا.
ومما يدل على أن المفسد مبغوض لله تعالى قوله:
"وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين".

وهذه الآية ترشد إلى أمور:

الأمر الأول:
أن الإنسان قد يمنّ الله عليه بمال وفير، فكيف ينبغي أن يتعامل معه؟
تجيب الآية بأن عليه لزومًا أن يبتغي به الدار الآخرة، بمعنى أن ينفقه فيما يعود عليه بالنفع الأخروي، وليس أن ينفقه في شؤون الدنيا البحتة.

الأمر الثاني:
ألا ينسى ما قدّره الله له من النصيب الدنيوي، من قبيل حاجات البدن من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، في حدود ما فرضه الله وأباحه.

الأمر الثالث:
أن يتأسى بالله ويتخلق بأخلاقه، فقد أحسن الله إليه، فينبغي له أن يكون من المحسنين، بأن ينفق شيئًا من ماله في المبرات والخيرات، بصلة أرحامه ورفد المعوزين وسد حاجات المحتاجين.

الأمر الرابع:
أن يتجنب الفساد كله، كبيره وصغيره، ظاهره وباطنه، كثيره وقليله، لأنه إن وقع في ذلك صار مفسدًا، والله عز وجل لا يحب المفسدين.

 

ولنستعرض معًا، أيها المؤمنون، نموذجًا للفساد والفاسدين، أو نماذج للفساد والمفسدين، مما ذكر في القرآن الكريم، سعيًا منا في مجانبة ذلك.

أما النموذج الأول فهو ما بيّنه الله تعالى في سورة غافر من قوله:
"الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتًا عند الله وعند الذين آمنوا، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار".

فهذا فريق من الناس، مكابر متجبر، يُعرض عليه الحق البيّن، وتُلقى على مسامعه آياته الدالة عليه، فيأبى أن يُذعن له، بل يجادل بغير سلطان ولا حجة.
ذلك أن ذاته منتفخة، وعناده متجذر، والتواضع عنده مفقود.

فمثل هذا الإنسان غير محبوب لله، بل هو ممقوت أشد المقت عنده.
فالواجب على الإنسان أن يروض نفسه على طلب الحق والإذعان له، فإن الله تعالى يقول في سورة الزمر:
"والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى، فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب".

والإنابة إلى الله تحتاج إلى يقظة في العقل، وصحوة في الضمير، وفقه للنفس، وعزم في الإرادة.
ومن افتقد ذلك قد يكون ممن قال تعالى عنهم:
"ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين. وهم ينهون عنه وينأون عنه، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون. ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نُرد ولا نُكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين".

 

وأما النموذج الثاني للفاسدين والمفسدين الذين أبغضهم الله وأهلكهم، فهو قارون، الذي حكى الله تعالى لنا في القرآن بعض حاله ليعتبر الناس بما جرى له، ولكيلا يكونوا مثله، ولكيلا يغتر أهل الغرور بأمثاله. قال عزّ من قائل في سورة القصص:

"إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين. قال إنما أوتيته على علم عندي. أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعًا ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون. فخرج على قومه في زينته، قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقاها إلا الصابرون. فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين. وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا، ويكأنه لا يفلح الكافرون. تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، والعاقبة للمتقين. من جاء بالحسنة فله خير منها، ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون".

هذا هو المفسد قارون، وهذا هو فساده، وهذا ما آل إليه حاله.

فإنه كان بعيدًا عن الهدى والهادين. وقد رُوي أنه كان ذا رحم قريب لموسى عليه السلام، لكنه أصمَّ سمعه عن هداه، واتّبع هواه، وشغلته أمواله عن ذكر الله، فأسلم نفسه للشيطان فأفسده، حتى نسي الله وإنعامه، فأنساه نفسه، وظن أن ما هو فيه من صنعه، فقال عما أُوتي من المال: "إنما أوتيته على علم عندي".

الكِبر والغرور أدّيا به إلى الشرور.

وقارون هذا ككثير من الناس عبر التاريخ، أُوتي مالًا وفيرًا ضاقت به الخزائن الكثيرة، حتى إن أولي القوة من الرجال كانوا عاجزين عن حملها أو حمل مفاتيحها. وهذا ما دفع بقارون إلى الفرح والبطر، فنهاه العقلاء من قومه عن ذلك، لئلا يبغضه الله. نصحوه بأن يكون من المحسنين، وأن ينأى بنفسه عن الفساد والمفسدين، فإن الله لا يحبهم ولا يحبه.

لكنه خالفهم وتمادى في غيّه وبغيه، فتلقفه الشيطان الغرور، ووقع في الفتنة، ولم يتّعظ بمصير من سبقه من البغاة والمفسدين، ممن كانوا أشد منه قوة وأكثر جمعًا.

وقد تعدّى فساد قارون ذاته، حتى صار بممارساته وسلوكياته الظاهرة مفسدًا للناس، فقد كان يتباهى بالنعمة، ويبغي العدوان والفتنة، حتى استحق أن يخسف الله به وبداره الأرض.

 

وأما النموذج الثالث للفساد والمفسدين، فهو ما حذر الله تعالى منه المؤمنين في سورة الصف، من مخالفة الفعل للقول، حيث قال:

"يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".

فهذا الفريق الفاسد من الناس يعلو صوته بالكلام الحسن والشعارات الجيدة، بزعم الانحياز إلى الخير، ولكن إذا جدّ الجدّ وحان وقت العمل، خفت صوته وخمد شعاره.

فهذا أيها المؤمنون نموذج من الفساد الذي يبغضه الله، ومن الفاسدين الذين لا يحبهم الله. فلنتجنب كل فساد، ظاهرًا كان أو باطنًا، ولنحذر أن نكون من المفسدين.

وإن الصلاة من أهم ما يدفع الفساد ويرفعه. فقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام، أنه قال في بيان الحكمة من تشريع الصلاة:

"إن علة الصلاة أنها إقرار بالربوبية لله عز وجل، وخلع الأنداد، وقيام بين يديه جل جلاله بالذل والمسكنة والخضوع والاعتراف، والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض خمس مرات كل يوم إعظامًا لله عز وجل. وأن يكون العبد باكرًا غير ناسٍ ولا بطرٍ، خاشعًا متذللًا، راغبًا طالبًا للزيادة في الدين والدنيا. مع ما فيها من الإيجاب والمداومة على ذكر الله عز وجل بالليل والنهار، لئلا ينسى العبد سيده ومدبّره وخالقه، فيبطر ويطغى. ويكون في ذكره لربه وقيامه بين يديه زجرًا أو زاجرًا له عن المعاصي، مانعًا له عن أنواع الفساد".

وهذا مأخوذ من قوله تعالى:
"وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر".

جعلنا الله وإياكم ممن يحبهم الله، وممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

اللهم صل على محمد وآل محمد.
اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كل ساعة، وليًّا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليلًا وعينًا، حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتّعه فيها طويلًا.

اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واخذل الكفار والمنافقين.
اللهم من أرادنا بسوء فردّه، ومن كادنا فكِدْه.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقرائنا، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا.
ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم.

وصلّى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد