فجر الجمعة

الشيخ عبد الجليل البن سعد: الذنب عقدة تحلها التوبة

الشيخ عبد الجليل البن سعد
مسجد الإمام الحسين ع بالحليلة في الأحساء
Dec 27, 2024 - ٢٥ جمادى الثاني 1446 هـ

 

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

يأتي كمفاد لمجموعة من الأحاديث: "إن التائب من ذنبه كمن لا ذنب له".
ولكن ماذا تعني التوبة؟
التوبة هي شكل من أشكال الباطنية، وما يهمنا في معالجة موضوعها على اختصار الوقت هو أن نتعرف على بعض أدوارها.

الدور الأول: الإعفاء على الأثر

إن الإنسان إذا عزم وصمم على أن يبدل اتجاهه، وأن يغير انتماءه، وأن يعلن قطيعة مع الهوى ومع الشيطان، فإن من واجبه أن يعفي على جميع الآثار السابقة.

فإذا كان في حياته مظالم، فلا بد أن يردها إلى أهلها.
البعض يقول: يصل بي الأمر أنني أعيش الشك مع نفسي، هل تمكنت من التوبة أم لم أتمكن؟ أريد من يجيب.
وكذلك، لا أستطيع أن أعطي تقديرًا للآخر الذي أعرف أنه كان من أهل المعاصي، واليوم يعلن توبته.
فهل قد تاب أم لم يتب؟

التوبة لا تكون أمرًا خافيًا. التوبة من الحالات الظاهرة.
كيف ذلك؟
حينما يعيش الإنسان التسويف، أو يتجاوز عن تلك الآثار، ولا يهتم بأن يعفي عليها أو يعفو عنها (يعفو عليها كما يقال على ترديد في اللغة)، هنا من حقه أن يشك في تحقق التوبة، أو يجب أن لا يطمئن لتوبته.

التوبة تكون صحيحة حينما تجد من نفسك الهمة في أن تعفي على جميع آثارها.
فيرجع المظالم إلى أهلها الخاصين أو إلى أهلها العامين، وهم الجهات الشرعية، حينما لا يُعرف صاحب تلك الأموال التي دخلت في جيبك بغير حق.
فإنك إما أن تردها إلى أهلها الخاصين، أو إلى أهلها العامين.

هذا هو الدور الأول.


 

الدور الثاني: التوبة هي الطريق لاقتلاع السبب وفك العقد النفسية

الحقيقة أن الذنب، في جوهره، ليس إلا مجموعة من العقد النفسية.
إنها عقد نقص وعقد لإحساس مأزوم.

  • كثير من الذنوب تجاه الآخرين تكون ناتجة عن حس الانتقام.
    الانتقام نفسه عقدة، والإنسان الذي لا يستطيع أن يعفو هو شخص معقد.

     

  • كذلك البخل، وهو الذي قد يجر الإنسان إلى أن يُخلَّ بواجبه الشرعي فلا يؤدي الحق الشرعي، هو عقدة أيضًا.
     

العقد النفسية: قائمة لا تنتهي

العقد ليست عناوين بسيطة تُكتب في قائمة قصيرة؛ بل تُكتب في سجلات طويلة ممتلئة بالأسماء والأشكال والأنواع.
فكل وضعية طبيعية من وضعيات الإنسان قد تقابلها عقدة تجعل منه غير طبيعي في هذا الموضع أو ذاك.

العقدة مرضية في كل الحالات.
رغم كثرتها، يمكن الحديث عن أكثرها شيوعًا وتأثيرًا.

عقدة الفراغ

الفراغ هو أحد أبرز هذه العقد، وهو عقدة من لم يجرّب الاشتغال بالعبادة أو العمل الجاد أو الحق.

  • الحق هنا هو ما يقابل الباطل.

  • الناس الذين جربوا الاشتغال بالحق والجدّ يرعبهم الفراغ.

  • أما من لم يجربوا الاشتغال بالحق وبالأعمال ذات المعنى، فإن الفراغ يمزقهم.

الفراغ، أيها السادة والسيدات، هو سمة مشتركة بين الكثير من أصحاب الهوى والمعاصي.
لهذا السبب، فإن الزهد في الباطل يبدأ بالاشتغال والانصراف عنه.

هذا الزهد ليس حكرًا على المؤمنين فقط، بل حتى غير المؤمنين الذين يعيشون حياة مجدولة ومنظمة، تجدهم كأنهم زاهدون في الأمور العبثية.

الفراغ والمعاصي

الفراغ سمة مشتركة وعقدة لدى أصحاب الهوى والمعاصي.
فكثير من المعاصي تحتاج إلى ملء الفراغ بالوقت قبل توجيه الإرادة.

البعض يسأل: كيف أصرف إرادتي عن الخلل والفساد؟
الإجابة:
ابدأ بصرف وقتك أولًا.

  • واحد من أساليب صرف الإرادة عن المعصية هو صرف الوقت في عمل مفيد.

  • فأنت تحتاج إلى ملء وقتك قبل التفكير في توجيه إرادتك.

 

شكل آخر من أشكال العقد: عقدة الرخاء

الرخاء المعيشي قد يتحول إلى عقدة عند بعض الناس.
كيف ذلك؟

  • هناك من إذا عاش في الرخاء، فرطت من بين يديه الأمور وأصبح خارقًا في تماديه.

  • في المقابل، هناك من إذا عاش الزهد، حتى في أبسط مستوياته، يتمكن من ضبط نفسه.

الزهد المصنوع

الزهد ليس فقط في الفقر أو الحاجة، بل يمكن للإنسان أن يصنع أجواء من الزهد، حتى لو كان ميسور الحال:

  • مثل أن يجوع يومًا ويشبع يومًا بالصوم.

  • أو أن يستغني أحيانًا، لكنه يفرح حينما يكون محتاجًا ولا يحاول أن يكتم حاجته.

إظهار الحاجة للآخرين، ولو بقدر معين، يبعد الإنسان عن حالة الرخاء المستمر، التي قد تجعله ضحية لغروره وتماديه.

أهمية التوازن

  • الإنسان الذي يجوع ويشبع، يستغني ويحتاج، يأخذ ويترك، يمرض ويصحو، يكون حاله النفسي مستقرًّا.

  • أما من يستمتع بالرخاء بصفة مستمرة، فإنه قد يصبح متماديًا في غروره، وربما يضيع نفسه.

مثال تاريخي: بشر الحافي

  • كان بشر الحافي يعيش حالة من عقدة الرخاء.

  • الذي صدمه بحقيقة عقدته هو الإمام أبو الحسن الكاظم (عليه السلام).

  • انتبه بشر إلى أن الرخاء لا يناسبه، وأنه يمثل عقدة يجب فكها.

كيف حل بشر عقدة الرخاء؟

  • حلها بالتوبة.

  • تحول إلى حياة أهل الفاقة والحاجة، وصار يمشي حافيًا تعبيرًا عن تركه للرخاء.

كما يقول الله تعالى:
"بل الإنسان على نفسه بصيرة"
فالإنسان هو الأدرى بما يناسب حاله وما يجب أن يغيره في نفسه ليصلح أمره.

 

شكل من أشكال العقد: عقدة الاستصغار

هذه العقدة، وللأسف، من أكثر العقد انتشارًا بين المؤمنين الخطّائين.
كيف تظهر؟

  • البعض يكتمها، والبعض الآخر يظهرها.

  • سواء اعترف بها أو لم يعترف، فإنها تتمثل في استصغار أفراد معينين أو شرائح بشرية معينة.

ضرورة فك العقدة

هذه العقدة لا بد من فكها، لا بد من حلها.
وسبيل حلها هو التوبة، لكن التوبة الحقيقية هي التي تحلها بعمق وصدق.

قصة عبد الله بن رواحة

  • عبد الله بن رواحة، أحد الصحابة المنتجبين بكل ما تحمله كلمة "منتجب" من معنى، كان لديه أمَة سوداء تخدمه.

  • هذه الأمة آمنت بالله عز وجل.

موقفه معها

  • في يوم غضب عليها، فلطَمها على وجهها.

  • لكنه تألم في قلبه من اللطمة أكثر مما تألمت هي منها.

  • شعر أن اللطمة جرحته أخلاقيًّا، أكثر مما جرحتها جسديًّا.

شكواه لرسول الله (صلى الله عليه وآله)

  • ذهب عبد الله شاكياً نفسه إلى رسول الله، يحكي له ما حدث.

  • أراد رسول الله أن يُذكي هذا الألم في نفسه، لكنه أراد أن يجعله ألم صحوة.

حوار عبد الله مع رسول الله

بدأ رسول الله يخاطبه بأسلوب مؤثر:

  • قال له: "هي تشهد أن لا إله إلا الله؟"

    • قال عبد الله: نعم.

  • قال: "وتشهد أن محمدًا رسول الله؟"

    • قال: نعم.

  • قال: "تصلي؟"

    • قال: نعم.

  • قال: "تصوم؟"

    • قال: نعم.

رد فعل رسول الله

  • بدت ملامح الحزن الشديد على وجه رسول الله حتى كاد يبكي.

  • اختصر كلامه وقال لعبد الله:
    "إنها مؤمنة".

  • هذه العبارة البسيطة، مع الحزن البادي على وجه رسول الله، زادت ألم عبد الله بن رواحة وأيقظت ضميره.

حل العقدة

  • عبد الله أدرك أنه استصغرها لأنها أمَة، وشعر أنه لا بد أن يُعوِّضها عن هذا الموقف.

  • ما الحل؟

    1. ذهب إليها وأعتقها، قائلاً لها: "قفي، لقد أعتقناك، أكرمناك".

    2. لكنه شعر أن هذا وحده لا يكفي لحل عقدته.

    3. قال لها: "هل تقبلين بي زوجًا؟"

نتيجة التوبة الحقيقية

  • تزوجها كحرة، لا كأمة، وأعطاها جميع الحقوق.

  • بهذه الطريقة، تخلص عبد الله من عقدة الاستصغار، وأثبت توبته بالعمل.

ختام الكلام

خير الكلام هو الصلاة والسلام على نبي الأنام، محمد وآله الطيبين الكرام.


 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد