الموسم العاشورائي 1446 هـ

الشيخ فوزي آل سيف: السّلامة في الدين

الليلة الثالثة من محرم 1446 هـ
الشيخ فوزي آل سيف
(السّلامة في الدين)
مسجد الخضر بجزيرة تاروت

 

بسم الله الرحمن الرحيم

جاء في دعاء الصباح المروّي عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: "فاجعل اللهم صباحي هذا نازلاً عليّ بضياء الهدى وبالسلامة في الدين والدنيا، ومسائي جنة من كيد العدا". صدق سيدنا ومولانا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه).

حديثنا هذه الليلة يتناول عنوان "السلامة في الدين، وكيف يحصل الإنسان على سلامة دينه؟". في البداية نشير إلى ما هو معروف في الحياة العادية، من أن شعار السلامة أولاً توصلت إليه البشرية من خلال تجارب متعددة على مدى قرون، وجعلت هذا أساساً لكل الأعمال. على سبيل المثال: أنت تريد أن تفتح مصنعاً، الجهة المسؤولة المنظمة تقول لابد من توفير مقومات السلامة من مختلف الجهات، لأن السلامة أولاً باعتبار أنها تتلامس مع حياة الإنسان العامل في ذلك المكان، بل ربما مع المجاورين. لا تستطيع القول: "إني أعمل في المصنع الخاص أو ورشتي الخاصة أو غير ذلك، وبإمكاني العمل بالشكل الذي أراه مناسباً، وإظهار لا مبالاة أو عدم الاهتمام إن لاقت منهجيتي في العمل إعجاباً أو مخالفة من الأطراف الأخرى". هذه المسألة لا تمنع هذا الإنسان من أخذ إجازة تشغيل المكان، لأنه لم يوفر عناصر السلامة. وهذا ضمن تجارب البشر، وقد وصلوا إليه بعد معاناة كثيرة وبعد خبرات متعددة، فجعلوا السلامة أولاً للحفاظ على حياة هذا الإنسان.

 

كذلك عندما تبحث في قضايا البدن، يوصي الأطباء والعارفون بها بمسألة السلامة، وجعل سلامة البدن فوق اللذات. قد تشتهي هذا الطعام أو ذلك الشراب، لكن يقال لك: "هذا يهدد صحتك"، إما في أصله أو في المقدار الذي تستهلكه من هذه المادة. لذلك، لأن سلامتك مهمة، ينبغي أن تترك هذا الطعام المعين أو هذا الشراب الخاص، أو تقلل الكمية التي تتناولها لأن سلامة بدنك وبقاءك سالماً هو الأساس في هذا الأمر. بعد ذلك يترتب عليه سائر الأمور لذاتك، متعك، ذهابك، مجيئك إلى غير ذلك. إذا كان هذا الأمر بالنسبة إلى سلامة البدن، وهو الذي لا يعيش مع الإنسان إلا بالكثير قرن من الزمان، ومع ذلك هذا الاستنفار، هذه القوانين، هذه الأنظمة، هذه التجارب، وهذه التكاليف.

لكي تفتتح لك منشأة، لا بد أن تدفع في قضايا السلامة كذا وكذا من الأموال، ولابد أن تظهرها بطريقة معينة. والحال أن هذا الأمر يرتبط ببدنك، هذا الذي سوف يعيش معك هذه الفترة من الزمان، ويرتبط بهؤلاء العمال الذين ربما يبقون عندك مدة عشر سنوات (أقل أو أكثر). مع ذلك، هذا الاهتمام الكبير. أما قضية السلامة في الدين، أن يكون الدين سليماً وأن تكون على سلامة في الدين، هذا له آثار وأبعاد في غاية الأهمية. أولها الخلود، فإن من كان على سلامة من الدين سيكون خالداً في جنات النعيم جزاءً من الله سبحانه وتعالى. أما من كان على غير السلامة، من كانت مصائبه في الدين، هذا لا سمح الله ولا قدر يكون في ذلك العالم إما مخلداً في نار جهنم وإما معاقباً بعقوبات شديدة جداً. فأول أثر من آثاره الخلود في النعيم أو الخلود في العذاب أو تحصيل العقاب.

 

إضافة إلى ذلك، فإن سلامة الدين تجعل الإنسان في الحياة الدنيا منعماً على الطريقة التي أرادها الله سبحانه وتعالى. والله أعرف بمن خلق وما خلق وما يضره وما يسره. سلامة الدين عند قسم من الناس للأسف الشديد هي في ذيل القائمة، بينما هي الأساس الذي تدور عليه رحى حياة هذا الإنسان. نبينا المصطفى محمد، وهو أشرف الخلق، ويتلوه في الشرف والمرتبة أمير المؤمنين (عليه السلام). على الأقل المنقول الموقفان كلاهما فيه تأكيد على سلامة الدين.

الموقف الأول:

في بدايات أو في منتصف حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدعوية، ولعله في أوائل هجرته إلى المدينة، تنقل الرواية هكذا: أنه خرج أمير المؤمنين برفقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبدأ رسول الله يعلمه ويخبره. ومن جملة ما أخبره، أخبره بما يقع عليه من الأذى والظلم والاضطهاد بعد رحيل رسول الله. سوف يحصل كذا وكذا عليك، فأنت عليك أن تصبر. أمير المؤمنين (عليه السلام) سأله سؤالاً واحداً فقط. عادة لو أن إنساناً أخبره أحد بأنه ستصيبه مشاكل، في الغالب يريد أن يعلم التفاصيل: ما الذي سيحصل؟ كيف ومتى؟ لنفترض ذاك البعيد قال لك الدكتور: "لديك بعض المشاكل في بدنك يمكن أن تحدث في المستقبل"، فأنت تقوم بالتحاليل اللازمة لتعرف ماهية المشاكل وخطورتها عليك.

هكذا أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما يجري عليه من المصائب سأله سؤالاً واحداً فقط:

قال أمير المؤمنين: "أوفيه سلامة من ديني؟"

قال النبي: "نعم، فيه سلامة من دينك".

قال أمير المؤمنين: "إذاً لا يهمني".

لم يجب بكيف، أين، ومتى؟ كل هذا ليس له أهمية ما دام فيه سلامة من ديني. وهذا درس لنا بالتأكيد، وإلا أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو قسيم الجنة والنار والذي بحبه تنال الجنة. لا داعي أن يسأل حتى يتأكد: "أوفيه سلامة من ديني؟" وإنما لكي يعلمنا كيف ينبغي أن يفكر الإنسان المؤمن. لا يركز جل تفكيره بما سيحل به، وكيف، بل هل فيه سلامة من الدين أم لا؟ هذا مورد.

المورد الآخر، ولعلكم سمعتموه مراراً، في أواخر خطب رسول الله في شهر شعبان. قال: "ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ قال: الورع عن محارم الله". ثم بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له علي: "ما يبكيك يا رسول الله؟" قال: "أبكي لما يُستحل منك". في مثل هذا الموقف أيضاً قال أمير المؤمنين: "أوفيه سلامة من ديني؟" قال: "نعم". فأجاب: "إذاً لا يهم". النبي بعد ذلك يشرح ويقول: "كأني بالأشر من عاقر ناقة ثمود قد ضرب قرنك فخضب شيبتك من دم قرنك". هذا الأمر الذي أمير المؤمنين يوليه الأهمية الكبرى، أنه السؤال الرئيسي: هل فيه سلامة من الدين أم لا؟

مثلي وأمثالكم من الضروري أن نتعلم ونتفكر في أي شيء يعرض علينا. العادة ما هي؟ العادة أفكر وأقول: "الراتب كم؟ زاد عن السابق أم أقل؟ بعيد أم قريب؟ ما هي الزيادة فيه؟ لو أقل، المفتروض أن الإنسان حتى إذا لم يفكر هكذا، أول شيء يفكر فيه هو هذا: أوفيه سلامة من ديني؟

 

ذهابي أو وجودي في المكان الفلاني، هل يتناقض مع ديني أم لا؟ لأنه بالفعل قد يكون الإنسان مغترباً ومتواجداً في الدول الغربية، كما سيأتي بعد قليل... قد يحصل راتب عظيم وأموال طائلة، رفاه وغير ذلك، لكن ينتقص من دينه وإيمان أهله وأولاده. هنا علماؤنا يحرمون هذا الشيء. يحرم على الإنسان المؤمن الهجرة والسفر إلى غير البلاد الإسلامية إذا كان ذلك مؤدياً إلى نقص دينه أو نقص دين من معه. لا يجوز له الذهاب، صحيح الجو بارد وألطف ومال أكثر وترقية في الدرجات، لكن أهم شيء هو الدين. سلامة الدين عندما تهدد، آنذاك لا شيء يشفع للإنسان عند الله (عز وجل) لذلك ترى التأكيد عليه.

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأئمة الهدى (عليهم السلام) يؤكدون على السلامة في الدين. راجعوا دعاء أسحار شهر رمضان: "أسألك اللهم السعة في الرزق، والسلامة في الدين". دعاء الإمام الحسين أشرنا إليه في ليلة مضت أيضاً، من جملة فقراته هذه الفقرة في دعاء عرفة: "اللهم إني أسألك السعة في الرزق والسلامة في الدين". وهكذا في دعاء ليلة النصف من شهر شعبان عن الإمام السجاد (عليه السلام).

وفي المقابل، نعوذ بالله إذا أصيب الإنسان في دينه، سليم البدن، أمواله حسنة، راتبه جيد، شغله ممتاز، ولكن دينه غير سليم، دينه فيه نقص. قسم من الناس يشعر بذلك، والقسم الآخر لا يشعر به. هناك شعر يُنسب إلى مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) يفصل فيه بين الناس. يقول لابنه الحسن:

"أبني إنّ من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر

فطن بكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر".

يوجد قسم من الناس هو في واقعه بهيمة. البهيمة قد لا تستشعر بنقص الدين فهي غير واعية لهذا الأمر. هذا الإنسان قد يكون بهيمة، ولكن صورته ممتازة، شكل جميل وتمام أعضاء في صورة الرجل السميع المبصر. إذا يوماً من الأيام السهم الفلاني نقصت قيمته مثلاً خمسة ريالات أو دولارين، جداً حاذق وذكي وفاهم، بسرعة يذهب يعوضها ويشتري فلان سهم. هذا لا بأس به، أصلاً يكون شاطراً في رزقه، ولكن إذا أصيب بدينه لم يشعر. في الوقت الذي كان دينه وإيمانه فيه ينقص، عوامل الشهوة عنده تزداد، معرفته بالله تقل، عبادته تقل، ذاك البعيد ارتكابه للذنب أصبح سهلاً وسلساً وسريعاً. إصابات هذه خطيرة في الدين، وإذا أصيب بدينه لم يشعر!

 

لهذا كان نبينا المصطفى محمد، وهذا موجود في مصادر مدرسة الخلفاء وموجود أيضاً في مصادرنا، وبالإضافة إلى ذلك في مصادرنا مذكور أنه كان يدعو به في ليلة النصف من شهر شعبان وهي ليلة مباركة. إذ كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يجلس مجلساً فيقوم منه حتى يدعو مع أصحابه. قال لأصحابه ادعوا أيضاً: "اللهم اجعل لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك، واقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك". إذا أقبلنا على معصية اجعل خشيتك مانعة لنا، وحائلة عن المعصية، ومن طاعتك أيضاً اقسم، ومن طاعتك ما تبلغنا به رضوانك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا. أصابتنا مصيبة، ألم من الآلام، نقص صحة أو نقص مال، يا رب اقذف فينا يقيناً نسلّم فيه أن الأمور كلها بيدك، وأنك لا تختار لنا إلا ما يصلحنا، وأنك لا تؤخر عنا إلا ما يضرنا. لنجعل هذا اليقين لدينا، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، ولا تجعل اللهم مصيبتنا في ديننا.

ما الضير في أن أصاب بمصيبة؟ لابد أن يكون عندي يقين أن الله سبحانه وتعالى لا يفعل بي إلا الخير، وإذا أصابته مصيبة في الدين، يقول: "لا، هذا ليس خيراً، الله لا يريد بي خيراً!". لدينا في الحديث أن الدنيا لهوان على الله، يعطيها البرّ والفاجر. ترى مليارديراً وقد يكون على دين الإسلام ملحداً أو على مناهج دينية خاطئة. هذا عطاء دنيوي فيعطيه الله سبحانه وتعالى لكل خلقه: "كلّا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا". حسناً، إذا أحد عمل بالقواعد المعينة في أمر المال وأصبح ثرياً، هنا إعطاء المال من الله (عز وجل) ليس ميزة لأنه يعطيه البر والفاجر والمؤمن والفاسق. لكن من الجيد الالتفات هنا إلى ما جاء في عدد من الأحاديث أنه "لا يعطي الدين إلا لمن أحبه". إذا أعطاك الدين فمعناه أنك إنسان محبوب من الله عز وجل وهو يريد بك الخير، فأنت من أهل جنته. وفقكم الله لذلك.

 

اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا. فيحتاج الإنسان أن يلاحظ كما يلاحظ قواعد السلامة في المصنع. يرتدي الخوذة إذا كان يعمل في مكان فيه خطورة، حماية لرأسه. الكهرباء من اللازم أن تكون بطريقة معينة، طريقة العمل مع الآلات لابد أن تكون بشكل خاص. هذه كلها من أجل أمور السلامة في الدنيا. لكن الأهم من ذلك، بل أكبر من ذلك، أن يكون عند الإنسان حرص على سلامة دينه.

إذا ارتفع حجاب المرأة عن شعرها لا تقول: "ماذا يعني ذلك؟ هل ستنقلب الدنيا رأساً على عقب؟ وهل أنا الوحيدة التي تقوم بذلك؟". كلا، هذه مصيبة في دينها لا تشعر بها، ولو مثلاً خدشت سيارتها بالجدار لشعرت بذلك، وقد يكلفها تصليحها 300 أو 400 ريال. تتأسف، تتألم وتوثق الحادثة وتنقلها كأنه حدثت مصيبة عندها. انحسار الحجاب عن موضعه، وارتخاء الكم إلى نصف الذراع أمام الأجنبي، مصيبة، وهذا ضرر كبير ليس في حادثة السيارة بل إنما ضرر في الدين، ضرر في القلب، ضرر في الإتباع لمحمد وآل محمد. إمامنا الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) إذا أصيب بشيء يحدث لهم أذى. الإمام الصادق جره المنصور العباسي من المدينة إلى الحيـرة إلى الكوفة وبقي هناك سنتين، الإمام الكاظم يأخذه إلى سجن هارون، وأمثالها مصائب أخرى غير الحرمان المالي من حقوقهم الأصلية. الخمس الذي جعله الله لهم حرموا منه طيلة ما بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذه أموال طائلة وهائلة.

إذا حدثت مصيبة لهم أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يقولون كما قال الإمام الصادق: "اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني". الباقي أمره هين، وكما قلت وأعيد وأكرر، هذا تعليم لنا وتربية لنا. وإلا الإمام، لعصمته واصطفائه من الله (عز وجل)، لا يصاب في دينه، لكن أنا وأنت من أتباعهم نحتاج أن نتعلم أن المصيبة في الدين هي أمر عظيم جداً.

 

كيف نحافظ على السلامة في الدين؟

نسأل الله سبحانه وتعالى مع كل صباح، إذا قرأنا دعاء الصباح: "فاجعل اللهم صباحي هذا نازلاً عليّ بضياء الهدى وبالسلامة في الدين والدنيا". قدّم الدين على الدنيا. أول أمر من الأمور، كما أشرنا أثناء الحديث، أن يكون الدين مقياساً لكل شيء عند الإنسان.

مثلاً، تريد السفر، بدلاً من التدقيق في قيمة التذكرة من هذه الجهة أو من تلك الأرخص، يجعل الإنسان يحسب ويدقق في الموازين المعروفة: الطقس، الضمان الاجتماعي، وسائر الأمور الأخرى. إذا أردت أن يسلم دينك أولاً، اجعله المحور: المكان الذي أقصده، هل سينتقص ديني أو دين أبنائي؟ غداً لا سمح الله إذا التحق ابني وبنتي إلى الروضة في تلك الأماكن وعلموه قضايا الشذوذ وأنها طبيعية، وبعد مدة من الزمان ارتكب هذه الأمور، هنا أكون قد أسلمت أهلي وولدي إلى الهاوية.

يتعجب الإنسان من مبادرة كثير من الناس الآن. تلاحظوا مثلاً في كل يوم الأخبار، 100 شخص غارقين في البحر. لماذا؟ لأنهم ذاهبون بشكل غير سليم إلى بعض الدول في الخارج من أجل أن يعيشوا هناك! هذا الإنسان الذي يريد أن يسافر هنا وهناك ينبغي أن يفكر في دينه. هل دينه ينتقص وينتهي طريقه إلى الذنوب ويصبح أسرع أم لا؟ أسرته تضيع؟ أبناؤه يضيعون من عنده أم لا؟ إذا اطمأن أنه لا، أنا أختار بلداً فيه أجواء مسلمين، وفيه مراكز تابعة لأهل البيت، ويحرص على أمر تربيتهم، فلا إشكال في ذلك. ومرة أخرى، لا، لا يطمئن لذلك. إذا لم يطمئن بأنه سيسلم هو وزوجته وأبناؤه وممكن أن تزل أقدامهم وينحرف عن هذا الدين، أو دينهم ينقص، دينه أو دينهم، هنا علماؤنا يحرمون السفر. يقولون لا يجوز السفر إلى تلك البلاد الغربية إذا اطمأن الإنسان بأنه سيفقد دينه أو أن أحداً من عياله معه سيفقدون دينهم. لا يجوز له لأنه مثل الشخص الذي يأتي بأهله ويرميهم في نار جهنم.

 

لكن بعد مدة من الزمان، أولاً لا بد أن يكون الدين هو المقياس الأصلي في كل حركات الإنسان وسكناته. مشوارك الذي تروحه حتى في داخل بلدك، هل ينتقص من دينك؟ يضيع دينك عليك أم لا؟ الحمد لله في بلادنا الإسلامية هذا الأمر غير موجود، ولكن لو فرضنا فرضاً أن الأمر كان كذلك، ينبغي أن ينتهي الإنسان عن الذهاب إلى هذا المشوار أو المشاركة في ذلك العمل أو الأمر، لأنه ينقص ذلك من دينه. فالأساس، المحور، المقياس ينبغي في حركات الإنسان وسكناته، سفره وحضوره أن دينه يبقى أو يفنى؟ دين أهله يبقى أو يفنى؟ هذا أحد الأمور.

الأمر الآخر أن يتأكد باستمرار من سلامة اعتقاداته الدينية عند أهله. كما أن الإنسان يدرس الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعة ويكون جاداً فيها، ونعم ما يصنع ذلك، لابد أيضاً أن يكون بنفس الجدية في تعلم الدين وفي تعليم أهله ومن يرعاه الدين المبين. ليس معذوراً هذا الإنسان إذا أمضى عمره هنا وهناك، وإلى الآن لا يعرف ربّه، ولا يعرف نبيه، لا يعرف وليه، لا يعرف أئمته، ولا يعرف عقائده الدينية. ماذا كنت تصنع في هذه المدة من الزمان؟ لماذا في الأصل أنت جئت إلى هذه الدنيا؟ "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". وطريق العبادة والمعرفة العقائدية السليمة، ذاك البعيد، من الممكن أن تراه يمتلك تخصصاً في أدق الأمور ومعرفة، ولكن مسائل دينية من العقائد، من العبادات، قد لا يعرفها.

 

ماذا كنت تصنع في هذه المدة؟ ينبغي أن يدخل الإنسان نفسه في دورات، أن يحرص على التعلم الديني، أن يقرأ الكتاب الديني، إلى غير ذلك. وأن يكون مسؤولاً عن أهله وعياله. أنت تذهب إلى العمل وتنفق ثماني ساعات من يومك من أجل أن تجلب القوت لأهلك والملابس والطعام والشراب والسكن، ونعم ما تصنع، هذه مسؤولية أنت تتحملها بكفاءة ونعم ما تصنع. حسناً، الدين لا يحتاج له نصف ساعة في اليوم. فالمؤمن يشتغل على نفسه وعلى أهله وعلى عياله. أنا أشبع بطن أهلي وأعرّض أكتاف أولادي، ولكن قلوبهم خالية من الهدى، خربة لا تحمل الدين، لا تحمل العقيدة، لا تحمل الشريعة، وأنا قادر على ذلك، إما مباشرة أعلمهم، أثقفهم، أدربهم، أو إما أبذل شيئاً من هذا المال الذي عندي من أجل أن يتعلموا هنا وهناك، وأن يتدربوا على أمور دينهم. ومثل ما أن الإنسان بين فترة وأخرى، لا سيما في مثل العمر المتقدم، يعمل له تحليل الكولسترول، الدهون الثلاثية، نسبة السكر والتراكمي ونسبة كذا وكذا... أيضاً يحتاج أن يعرض قلبه ودينه على المقياس والمعيار. لدينا كولسترول في عقائدنا؟ نعوذ بالله، عندنا دهون ثلاثية في شريعتنا؟ أنا في قلبي المعنوي، قلبي سليم "إلا من أتى الله بقلب سليم"، مسلم لله ومسلم لرسوله وأهل بيت نبيه أم لا؟ وهكذا بالنسبة إلى أفكار الإنسان، سلامة الأفكار، لأنه يأتي زمان كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً، تتغير المفاهيم، تتغير الأفكار، الحق يصير باطلاً والباطل يصير حقاً!

لا بد أن أشتغل على نفسي وأشتغل على من أعول، وأفضل ما يمكن للإنسان أن يصنعه في هذا الجانب هو أن يربط نفسه وأهله بمسجد وإمام ناصح مخلص. لا يقدر الإنسان مع انشغالات الحياة كلها أن يقوم بكل الدور، لكن المسجد يقدر على هذا الشيء. اربط ابنك، اربط ابنتك، ارتبط وارتبطي بمسجد وبناصح مخلص عارف بالدين. المسجد فيه طاقة روحية استثنائية تؤثر في الإنسان، فإذا ابنك تعوّد من صغره على هذا المسجد، نما معجوناً ببركة الله وبركة بيت الله، وسمع خلال هذه المدة المسائل الشرعية والعقائد الدينية والنصائح الإرشادية التي أنت لانشغالك لا تستطيع ذلك، وأنتِ لا تستطيعين ذلك. أحسن ما يمكن أن يقوم به الإنسان تجاه نفسه أولاً وتجاه أهله ثانياً لتحصيل سلامة الدين هو أن يرتبط بمسجد وبإمام في صلاته، صلاة الجماعة التي فيها ذلك الثواب العظيم.

 

في بعض الأحيان يجب أن نؤدي صلاة الآيات، وهي صلاة واجبة شرعاً. وإذا لم يؤدِّها الإنسان من غير عذر شرعي (كالدورة الشهرية بالنسبة إلى النساء) لا بد أن يقضيها فيما بعد. وإذا لم يقضها، فمن اللازم أن يوصي فيها. لا يعلم هذا الإنسان لأنه في الغالب الذي يرتبط بالمساجد والإمام، إمام الجماعة، يعلم: غداً يوجد صلاة آيات أو مناسبة كذا وما إلى آخره. توجد الواجبات وتوجد المستحبات في تصحيح العقائد وفي معرفة المسائل. أفضل شيء للإنسان أن يقوم به هو هكذا حتى يكون محشوراً في من رضيهم الله له. الله رضي لنا بيوته مساجداً، ورضي لنا أيضاً أئمة الهدى (صلوات الله وسلامه عليهم)، وهم رضوا لنا أئمة الجماعة العدول. يقال لك: من اللازم إمام الجماعة عادل لأنه طريقك إلى الله (عز وجل). تشديد الفقه الشيعي على عدالة الإمام لأنه هو الذي يقودك إلى الله. فإذا لا سمح الله هذا خان الأمانة لعدم عدالته، فقد أغوى جيلاً من الناس. يقول مولانا الحسين (عليه السلام): "رضا الله رضانا أهل البيت. نصبر على بلائه فيوفينا أجور الصابرين". أنت ابحث عن هذا المنهج الذي يكون رضاه ورضا قادته ورضا السائرين على هداهم هو رضا الله سبحانه وتعالى.