علمٌ وفكر

أبعاد الوجود في الرّؤية الكونيّة الإسلامية (1)

 

الشهيد مرتضى مطهري ..

تمهيد

تتميّز الرّؤية الكونيّة الإسلاميّة عن بقية الرؤى والتصوّرات في نظرتها إلى الإنسان والعالم ومبدأ العالم وخالقه، وفي غيرها من القضايا الكثيرة. إلا أنّ معرفة هذه القضايا الأساسية تعطينا فكرة واضحة عن واقع هذا التمايز وكيفية المقارنة بين المدارس والمذاهب الفكرية والعقائدية المختلفة.

ماهيّة الإنسان

للإنسان قصّة عجيبة في النّظرة الإسلاميّة للعالم. لم يكن إنسان الإسلام حيوانًا مستقيم القامة، له أظافر عريضة، ويمشي على قدمين ويتكلّم فقط، إنّ هذا الموجود ـ في نظر القرآن ـ أعمق وأكثر غموضًا من أن يمكن تعريفه بهذه الكلمات.

فقد مدح القرآن الإنسان وأثنى عليه كثيرًا (والمدح هنا كان للنماذج الإنسانية التي وصلت إلى مقامات الولاية)، وذمّه ووبّخه أيضًا (والذمّ كان لمن لم يستفد من نعم الله)... فأسمى المدائح وأسوأ المذام هي ما قالها القرآن بحقّ الإنسان. فقد فضّله على السّماء والأرض والملائكة، ووضعه عن مستوى الأنعام. فالإنسان ـ في نظر القرآن ـ موجودٌ له القدرة على تسخير العالم والعروج إلى أعلى عليين، ويمكن أن ينزل إلى أسفل سافلين.

وهذا هو الإنسان الذي عليه أن يقرّر مصيره النّهائيّ. ونبدأ حديثنا على مدح الإنسان في القرآن تحت عنوان: قيمة الإنسان.

 

قيمة الإنسان

1- الإنسان خليفة الله في الأرض: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.

﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾.

2- إنّ ظرفيّة وسعته الإنسان العلميّة هي أكبر ظرفيّة يمكن أن تكون لمخلوقٍ: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.

3- له فطرة تعرف الله، يعي ربّه في أعماق وجدانه، وإنّ كل الشّكوك والجحود أمراض وانحرافات عن جبلّة الإنسان الأولى، ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾.

4- إنّ في جبلّة الإنسان عنصر ملكوتيّ، إلهيّ بالإضافة إلى العناصر المادّية الموجودة في كلّ الجماد والنّبات والحيوان. فالإنسان مركّب من الطّبيعة ومّما وراء الطّبيعة، من المادّة والمعنى، من الجسم والرّوح: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾.

5- إنّ خلقة الإنسان مدروسة، ولم تكن صدفةً، والإنسان موجودٌ مصطفًى ومنتخب: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾.

6- وله شخصيّة حرّة مستقلّة، وهو أمين الله، وله رسالة وعليه مسؤوليّة، وطلب منه أن يعمّر الأرض بعمله وإبداعه، وأن يختار أحد الطّريقين: السّعادة أو الشّقاء. ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾، ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾.

7- يتمتّع الإنسان بكرامة ذاتيّة وشرفٍ ذاتيّ، فقد فضّله الله على كثيرٍ من خلقه، وهو يتفهّم واقعه ويشعر به عندما يتفهّم هذه الكرامة ويشعر بها، ويعتبر نفسه أسمى من الدّناءات والرّذائل والشّهوات والقيود: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾.

8- يتمتّع بضميرٍ أخلاقيّ، يدرك القبيح والجميل، بحكم الإلهام الفطريّ: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾.

9- لا يهدأ إلّا بذكر الله، ولا نهاية لطلباته، ولا يشبع من أيّ شيء يناله، إلّا أن يتّصل بذات الله الأبديّة اللامحدودة: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.

10- خلقت نِعَم الأرض والسّماء من أجل الإنسان: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾14، ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾.

11- خلقه الله ليعبده ويطيعه، فواجبه إذًا إطاعة أمر الله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.

12- إنّه لا يجد نفسه إلّا بعبادة الله وذكره، وإذا نسي ربّه نسي نفسه، ولا يعرف من هو، ولماذا، وماذا يجب أن يعمل، وإلى أين يذهب، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

13- وعندما يرحل عن هذا العالم، ويُزاح عنه ستار البدن - الذي هو حجاب الرّوح - تتّضح له كثيرٌ من الحقائق التي تكون عليه مخفيّة: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾.

14- لم يُخلَق ليعمل للقضايا المادّية فحسب، ولم تكن حاجات الحياة المادّية دافعه الوحيد، فهو يتحرّك ويتحمّس للغايات السّامية أحيانًا، وربّما لا يطلب من حركته وسعيه شيئًا سوى رضا الله: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾.

﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

وبناءً على ما قيل، فالإنسان الكامل في نظر القرآن موجودٌ مصطفًى من قبل الله، وخليفته في الأرض، نصفه ملكوتيّ ونصفه مادّيّ، له فطرة معرفة الله، حرٌّ، مستقلٌّ، أمين الله، ومسؤولٌ عن نفسه والعالم، مسيطرٌ على الطّبيعة والأرض والسّماء، ملهم بالخير والشّرّ، يبدأ وجوده من الضّعف والعجز، ويسير نحو القوّة والكمال، ويسمو ولا يهدأ إلّا في حضيرة القدس الإلهيّ وبذكره، وسعته العلميّة والعمليّة غير محدودة، يتمتّع بشرفٍ وكرامةٍ ذاتيّة، لا صبغة ماديّة لدوافعه، له حقّ التّصرّف المشروع بالنّعم التي وهبها الله له، ولكن ينبغي أن يكون ذلك لله.

 

عالم الغيب والشهادة

التصوّر، التوحيدي الإسلامي يرى أنّ العالم غيب وشهادة، أي يقسم العالم قسمين: عالم الغيب وعالم الشهادة. وتحدّث القرآن مراراً عن الغيب والشهادة، وركّز على الغيب، واعتبر الإيمان به ركناً من أركان الإيمان الإسلامي: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾، ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾.

الغيب يعني الخفاء، وهو على نوعان: نسبي ومطلق. الغيب النسبي: يعني الشيء الخافي على حواس الإنسان، لبعد ذلك الشيء أو لسبب مشابه. فبالنّسبة لمن يسكن طهران، فإنّ طهران شهادة، وأصفهان غيب. أمّا بالنّسبة للسّاكن في أصفهان، فأصفهان شهادة، وطهران غيب.

في القرآن الكريم، وردت كلمة الغيب بهذا المعنى النسبي أيضاً، كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ﴾.

ومن البديهي أنّ قصص الأُمم الغابرة شهادة بالنسبة إلى تلك الأُمم، لكنّها غيب بالنسبة إلى الأُمم التالية.

غير أنّ القرآن يطلق كلمة الغيب أحياناً على حقائق غير محسوسة بالحسّ الظاهري. وفرق بين حقائق محسوسة غائبة عنّا لبعد المسافة أو ما شابه ذلك، وبين حقائق لا يمكن إحساسها بالحواس الظاهرة بسبب عدم محدوديتها أو عدم مادّيتها.

وواضح أنّ القرآن - حين يصف المؤمنين بأنّهم يؤمنون بالغيب - لا يقصد الغيب النسبي، لأنّ كلّ الناس (مؤمنهم وكافرهم) يقرّون ويعترفون بالغيب النّسبيّ.

كما أنّ الآية الكريمة التي تحصر علم مفاتح الغيب بالله تقصد الغيب المطلق، ولا ينسجم مفهومها مع الغيب النسبي. وحين يرد ذكر الغيب والشهادة معاً، كقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾، فالمقصود بالغيب المطلق منه، لا النسبي أيضاً.

 

ما هي طبيعة العلاقة بين عالمي الغيب والشهادة؟

هل لهذا العالم المحسوس حدود تفصل بينه وبين عالم الغيب؟ من الواضح أنّ تصوّر وجود حدّ مادي يفصل بين العالمين، هو تصوّر ساذج، إذ لو تصوّرنا مثل هذا الحدّ، لكان كلّ طرف من طرفي الحدّ شهادة وعالماً مادّياً جسمانياً. لا يمكن توضيح الارتباط بين عالمي الغيب والشهادة بتعبير مادّي وجسماني. ونستطيع أن نمثّل لهذه العلاقة - من أجل تقريبها إلى الذهن - بأنّها مثل علاقة الأصل بالفرع، أو علاقة الشخص بظلّه، أي إنّ هذا العالم انعكاس لذلك العالم. يُستنبط من القرآن أنّ كل ما في هذا العالم إنّما هو "وجود نازل" عن موجودات العالم الآخر: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾.

وحتى معدن الحديد، يتحدّث عنه القرآن بأنّه منزل: ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾.

بديهي أنّ المقصود بالتنزيل والإنزال ليس هو الانتقال من مكان إلى مكان. كل شيء نراه في هذا العالم إنّما نرى "ظلّه" وفرعه ومرتبته النازلة، أمّا "حقيقته" و"أصله" و"كنهه" ففي عالم آخر، هو عالم الغيب.

القرآن الكريم يطرح تحت عنوان "الغيب" نوعاً من التصوّر الإسلامي والإيمان بشأن الكون، كما يبيّن ذلك أحياناً تحت عناوين أُخرى، مثل الإيمان بالملائكة، والإيمان برسالة الرسل، والإيمان بالوحي: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾.

في هاتين الآيتين، ورد ذكر الإيمان بكتب الله بشكل مستقلّ، ولو كان المقصود من هذه الكتب هو الكتب السماوية النازلة على الأنبياء لكفى ذكر الإيمان بالرسل، وهذه قرينة على أنّ المقصود بالكتب هو حقائق غير حقائق عالم الشهادة. وفي القرآن ورد ذكر حقائق خفية غيبية تكراراً، باسم ﴿الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ و"اللوح المحفوظ" و﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾ و"الكتاب المرقوم" و"الكتاب المكنون". والإيمان بهذه الكتب الغيبية جزء من الإيمان الإسلامي.

الأنبياء جاؤوا أساساً للدعوة إلى نظرة عامّة للكون والحياة، فلا ينحصر العالم بموجبها في الأمور الحسّية الملموسة الواقعة في إطار العلوم الحسّية التجريبية. دعوة الأنبياء استهدفت السموّ بالإنسان من المحسوس إلى المعقول، من الجهر إلى الخفاء، ومن المحدود إلى اللامحدود.

وللأسف! فإنّ تيار الأفكار المحدودة المادّية والحسّية التي هبّت من الغرب جعلت فئة من المسلمين يصرّون على إنزال المفاهيم الإسلامية السامية في التصوّر الإسلامي إلى مستوى المحسوسات والمادّيات.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد