علمٌ وفكر

نظريَّة المعرفة عند كارل بوبر (3)


د. جاسم العلوي

ويختلف كارل بوبر مع المشكلة الاستقرائية في صورتها التقليدية، والتي ترتكز على أنَّ المستقبل شبيه الماضي. وبهذه الطريقة، يتحوَّل الاستقراء إلى قياس يكون صغراه الحوادث التي تم اختبارها، وكبراه مستمدة من هذه الكلية التي ترى المستقبل يشبه الماضي في الحوادث المتماثلة والخاضعة لنفس الظروف. لكن بوبر يختلف مع أصل فكرة التشابه بين الماضي والمستقبل. كما أنَّ بوبر يرى أنَّ العقلَ البشريَّ لا ينتج القوانين بطريقة استقرائية. الاستقراء عنده ليس منهجًا بل وسيلة للكشف عن كذب نظرية ما. يذكر بوبر في كتابه “منطق الكشف العلوم” (the logic of scientific discovery) أنه لا توجد نظرية منجزة كما هي نظرية نيوتن في الجاذبية، وربما لن تكون نظرية منجزة مثلها في المستقبل. ومع ذلك فإنَّ نظرية آينشتاين في الجاذبية جعلتْ من نظرية نيوتن محض فرضية. هذا الأمر دعا كارل بوبر للتفكير مليًّا والنظر المتأمل فيما يردده هؤلاء الذين يؤمنون بالصيغة التقليدية للاستقراء من أمثلة أضحت تقليدًا عند مناقشة الاستقراء.. وهي:
– الشمس تشرق وتغرب مرة كل أربعة وعشرين ساعة.
– الكائنات مصيرها الموت.
– الخبز يغذي الجسم.

هذه الأمثلة التي تدل على أنَّ العقل البشري يمارس منهجية الاستقراء ليستنتج قوانين عامة هي غير صحيحة. فكلُّ هذه القضايا تم تكذيبها؛ فالأولى كذبت عندما اكتشف أنَّ الشمس تظهر في منتصف الليل في البحر المتجمد. والثانية كذبت عندما اكتشف أنَّ البكتيريا لا تموت لأنها تتوالد بالانقسام. وتكذب الثالثة لأن تناول الخبز تسبب في تسميم قرية فرنسية. “رغم اختلافنا مع كارل بوبر إلا أننا نستعرض آراءه هنا”. فكيف تمكَّن كارل بوبر -كما يدعي هو- من التوصل لحل المشكلة الاستقرائية في شكلها التقليدي، وبهذا كما يذكر في كتابه تمكن من يحل عدد من المسائل الفلسفية أخرى .
يُقارب بوبر المشكلة الاستقرائية من خلال الفيلسوف ديفيد هيوم. ديفيد هيوم كان مهتمًّا بالسؤال المتعلق بالأسباب الكافية التي تبرر معتقداتنا؛ لذلك أثار مشكلتين يرتبطان بالاستقراء صاغهما بطريقتين؛ الأولى: المشكلة الاستقرائية المنطقية، والثانية: المشكلة الاستقرائية السيكولوجية. فأما المشكلة الاستقرائية في صورتها المنطقية، فتتلخَّص في أنه: هل نملك المبررات الكافية التي تجعل الحوادث المتكررة في الماضي متكررة في المستقبل؟ ويجيب عن هذا السؤال بالنفي. هذه الصيغة المنطقية هي ذاتها الصيغة التقليدية للمشكلة الاستقرائية، وهنا يتفق كارل بوبر مع ديفيد هيوم في الجواب على هذا الشكل المنطقي للاستقراء. ومقصودهما من هذا النفي هو أنه لا يوجد حل منطقي للاستقراء. مما يعني أنَّ المعرفة التي نحصل عليها عن طريق التكرار والاستقراء هي معرفة غير مُبرَّرة منطقيًّا وهي محض اعتقاد مبني على العادة. أما الصيغة الثانية للاستقراء في صورتها السيكولوجية، فتتلخص في أنه لماذا يكون لدينا توقعات بثقة عالية في أن المستقبل سيكون شبيه الماضي؟ ويجيب ديفيد هيوم عن هذا السؤال بأنَّ العادة الذهنية هي المسؤولة عن مثل هذه التوقعات. ديفيد هيوم يرد الترابط بين القضايا والاقتران المطرد بينها ليس للضرورة السببية بل للعادة الذهنية. فإذا ارتبطت (أ) و(ب) ليس لأنَّ هناك ضرورة سببية تلزم من وجود (أ) وجود (ب)، بل لأن الذهن اعتاد أن يرى التعاقب المتكرر بين (أ) و(ب)؛ فيستنتج من ذلك السببية بينهما، ويستنتج أنه في المستقبل سيتكرر هذا الارتباط. وبهذا يرد ديفيد هيوم المعرفة البشرية إلى السيكولوجية البشرية؛ وبالتالي هو ينفي عنها صفتها العقلية. يرى بوبر في هذا الجواب أن ديفيد هيوم تحول من العقلانية إلى التشكيك، كما أنَّ الفيلسوف برتراند رسل يرى في جواب ديفيد هيوم مثالًا للفلسفة المفلسة في القرن الثامن عشر.

كارل بوبر يقارب المشكلة الاستقرائية أولًا بإعادة صياغة المشكلة الاستقرائية المنطقية من خلال ثلاثة صيغ وثانيًا يضع قانونًا يسميه قانون التحويل الذي يجعل من حل المشكلة المنطقية للاستقراء هو ذاته الحل للمشكلة الاستقرائية في جانبها السيكولوجي.
لكن كارل بوبر يُعيد صياغة المشكلة الاستقرائية في صورتها المنطقية، بعد أن يقوم بتغيير كافة المصطلحات التي تعكس الجانب الذاتي من المعرفة إلى مصطلحات تعكس الجانب الذاتي من المعرفة؛ فمثلًا بدل كلمة الاعتقاد belief يستخدم كلمة النظرية الكونية المفسرة (explanatory theory Universal)، وبدل كلمة انطباع (impression) (وهي الكلمة التي استخدمها هيوم في بيان فلسفته في المعرفة) يستخدم كارل بوبر كلمة قضايا مجربة بمعنى تم فحصها واختبارها. فالقضايا المجربة عند بوبر هي جميع الأحداث التي تدخل في نطاق خبرتنا العملية. وأما الأحداث التي لا تدخل في نطاق خبرتنا فيسميها نظريات علمية مفسرة.

ويضع بوبر المشكلة الاستقرائية المنطقية في شكلها الأول بالسؤال التالي: هل أنَّ الادعاء بأن صحة قضايا مجربة يكون سببًا كافيًا يبرر صدق نظرية كونية مفسرة؟ وجواب بوبر لهذا السؤال هو بالنفي. ومعنى جوابه هذا أنه لو افترضنا أننا قمنا باستقراء عدد من القضايا في المختبر، ولو فرضنا الصدق في هذه القضايا، فإنَّ ذلك لا يكفي ولا يعني بالضرورة صدق النظريات المفسرة لها على نحو الإطلاق.
ثم يفترض بوبر أنه لو أجاب عن هذه الصيغة بـ”نعم”، فإن ذلك يعني أن القوانين المؤسسة على الاستقراء قائمة على الانتظامات في الطبيعة، لكن بوبر يرى أن حظوظنا من اكتشاف انتظامات حقيقية في الطبيعة هي ضعيفة؛ وبالتالي فإنَّ نظرياتنا ستكون ولو جزئيًّا خاطئة. وهذا يعني أن الجواب الإيجابي للصيغة الأولى يحمل نقيضه؛ لذلك لابد أن يكون خطأ. وبالتالي؛ فإنَّ جميع القوانين والنظريات عند بوبر هي محض تخمينات أو فرضيات.
ويُعيد بوبر صياغة المشكلة المنطقية للاستقراء بتعديل طفيف على الصيغة الأولى؛ فيسأل السؤال التالي: هل إن الادعاء بصحة أو صدق قضايا مجربة يكون سببًا كافيًا يبرر صدق أو كذب نظرية مفسرة؟ وجواب بوبر على هذه الصيغة بـ”نعم”. والمعنى المقصود هو أنه لو قمنا باستقراء عدد من القضايا المجربة، فإنْ كانت هذه القضايا صادقة، فإن ذلك يعني أن النظريات المفسرة لها يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة (بمعنى صحيحة أو خاطئة).

وهذا الجواب يُعطي الاستقراء وسيلة للكشف عن كذب النظريات المفسرة وليس منهجًا تستخدمه العلوم في صنع القوانين والنظريات.
ولكن ماذا يحدث لو أننا وقفنا إمَّا عدد معين من النظريات، وكان علينا أن نختار من بينها. في هذه الحالة يقوم بوبر بتعميم المشكلة المنطقية للاستقراء في صيغتها الثانية، ويضع المشكلة في صيغتها الثالثة، وهي أنه: هل نملك التبرير العملي الكافي الذي يجعلنا نختار بعض النظريات على غيرها من حيث الصدق أو الكذب؟ وجوابه على هذه الصيغة أيضا بـ”نعم”.
والمعنى أنَّه إذا كان لدينا عدد من النظريات، وكان علينا أن نختار من بينها، فإننا حينئذ ننظر إلى القضايا المجربة، ونرى كيف أنَّ هذه القضايا الداخلة في نطاق خبرتنا تكذب بعض النظريات؛ وبالتالي فإنَّنا نأخذ النظريات التي لم يقم الدليل بعد على تكذيبها.

هذا بشكل موجز جواب بوبر على مشكلة الاستقراء.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة