مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشهيد مرتضى مطهري
عن الكاتب :
مرتضى مطهّري (1919 - 1979) عالم دين وفيلسوف إسلامي ومفكر وكاتب شيعي إيراني، هوأحد أبرز تلامذة المفسر والفيلسوف الإسلامي محمد حسين الطباطبائي و روح الله الخميني، في 1 مايو عام 1979، بعد أقل من ثلاثة أشهر على انتصار الثورة الإسلامية، اغتيل مرتضى مطهري في طهران إثر إصابته بطلق ناري.

المجتمع والقانون

إذا قلنا بأنّ المجتمع موجود حقيقي له واقع خارجي، فلابد من أن تكون له قوانين وسنن خاصة به، وأمّا إذا قبلنا النظرية الأولى في البحث السابق حول ماهيّة المجتمع، وأنكرنا الوجود العيني له، فهو فاقد للقانون بالطبع. وإذا قبلنا النظرية الثانية وقلنا إنّ تركيب المجتمع من الأفراد تركيب صناعي وآلي، فالمجتمع حينئذٍ له قانون وسنّة، إلاّ أنّ جميع قوانينه وسننه تتلخّص في تنظيم الرابطة العلّيّة والمعلولية الميكانيكية بين الأجزاء، والتأثير الميكانيكي بين المجامع المختلفة في المجتمع، من دون أن يبرز للمجتمع آثار خاصة من مظاهر الحياة.

وإذا قبلنا النظرية الثالثة فلابد أن نلتزم ـ أولاً ـ بثبوت قوانين وسنن خاصة بالمجتمع مستقلّة عن الأفراد؛ وذلك لأنّ مقتضى هذه النظرية ثبوت حياة مستقلّة للمجتمع، وإن كان محل هذه الحياة الاجتماعية نفس الأفراد فليس لها وجود مستقل.

 

وثانياً: بأنّ أجزاء المجتمع (الأفراد) ـ خلافاً للنظرية السابقة ـ تفقد استقلالها الذاتي ولو نسبياً، وتحصل لها حالة الانتماء إلى الكل، وفي نفس الوقت تحفظ استقلالها النسبي، فإنّ حياة الفرد ومواهبه الفطرية ومكتسباته من الطبيعة لا تنحل نهائياً في الحياة الاجتماعية. فالواقع أنّ مقتضى هذه النظرية أنّ الإنسان يعيش بحياتين وروحين ونفسين: حياة وروح ونفس فطرية إنسانية ناشئة من الحركة الجوهرية في الطبيعة، وحياة وروح ونفس اجتماعية ناشئة من التمدّن والحياة ضمن المجتمع. والحياة الثانية حالة في الحياة الفردية؛ وعليه فالإنسان محكوم بقوانين علم النفس، كما أنّه محكوم بقوانين علم الاجتماع. وأمّا بناء على النظرية الرابعة فالإنسان، بما هو إنسان، محكوم بنوع واحد من القوانين والسنن، وهي القوانين الاجتماعية.

 

ولعلّ أول مَن صرّح من علماء المسلمين، باستقلال القوانين والسنن الحاكمة على المجتمع عن السنن والقوانين الحاكمة على الأفراد، وقال باستقلال المجتمع في شخصيّته وطبيعته وواقعيّته هو (عبد الرحمن بن خلدون التونسي) حيث بحث عنه بإسهاب في مقدمته على تاريخه.

وأول مَن حاول اكتشاف السنن الحاكمة على المجتمعات من بين علماء العصر، هو مونتسكيو الفرنسي من علماء القرن الثامن عشر الميلادي.

 

قال ريمون آرون بشأن مونتسكيو: (إنّ هدفه التفسير الصحيح للتاريخ ودرك معطيات التاريخ. فإنّ معطياته المعروضة ليست إلاّ ظواهر مختلفة، غير متناهية تقريباً من التقاليد والعادات والأفكار والقوانين والعوامل الاجتماعية. وهذه المختلفات غير المترابطة ـ حسب الظاهر ـ تشكّل نقطة الشروع للبحث والتحقيق. وبعد تكميل الدراسة لا بد من تأسيس نظام وقانون ليخلف هذه المختلفات غير المترابطة. فمونتسكيو يريد كما أراد (ماكس وير) أن يتجاوز المعطيات التاريخية غير المترابطة إلى النظام المعقول. وهذه هي سيرة علماء الاجتماع).

ومحصّل ما ذكره وراء الظواهر الاجتماعية المختلفة التي تظهر وكأنّ كلاًّ منها أجنبي عن الآخر نظام موحّد يكشفه العالم الاجتماعي، وكل هذه الظواهر مظاهر ذلك النظام والقانون.

 

وقد حكي عن كتاب (أسباب عظمة الروم وسقوطهم) ـ حول استناد الظواهر الاجتماعية المتشابهة إلى علل متشابهة ـ قوله: (إنّ العالم لا تتحكّم فيه الصدفة. وهذه الملاحظة يمكن أن نبحث عنها في تاريخ الروم، حيث كانوا ناجحين في سياستهم عندما كان لهم تخطيط في القيادة. ولـمّا تركوا مخطّطهم القيادي وسلكوا سبيلاً غيره أُصيبوا بفشل بعد فشل. وهكذا كل نظام ملكي يسير صُعُداً لأسباب جسمية أو أخلاقية، وتستقر مكانها لأسباب، وتنزل نحو السقوط لأسباب أُخرى، فكل الحوادث تتبع أسبابها. ولو تهاوت دولة وسقطت من جرّاء حرب أو أيّة صدفة أُخرى خارجة عن سلسلة العلل، فلابد أن تكون هناك علّة كلّيّة تسبّبت في ضعف الدولة حتى سقطت بسبب حرب واحدة. والخلاصة: إنّ المسار العام هو السبب للحوادث الجزئية).

 

والقرآن الكريم يصرّح: بأنّ الأُمم والمجتمعات من حيث إنّها أُمم ومجتمعات (لا مجرّد أفراد المجتمع) لها سنن وقوانين تخصّها، وكل اعتلاء وسقوط يتبع تلك السنن والقوانين، ولولا سنن المجتمع لم يكن لأفراده مصير مشترك. قال تعالى بشأن بني إسرائيل: (وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً).

 

المستفاد من الآيات الكريمة: أنّ الله تعالى قد قضى على بني إسرائيل في أحد الكتب السماوية أنّكم ستفسدون في الأرض مرّتين، وتطغون طغياناً كبيراً. فإذا حلّ وقت الانتقام من الطغيان الأول بعثنا عليكم عباداً لنا أُولي بأسٍ شديد، فيدخلون عليكم بيوتكم ويجوسون خلال الديار، وكان وعداً حتميّاً مفعولاً، ثم تندمون وترجعون إلى سويّ الصراط فنسلّطكم عليهم ونمدّكم بالمال والعدد، فتزيدون عليهم من حيث العِدَّة والعُدَّة. وبوجهٍ عام، كلّما أحسنتم فقد أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلأنفسكم أيضاً، يعني: أنّ سنّتنا وقانوننا ثابت لا يتغيّر، ففي حالة نمنح أُمّةً القوّة والقدرة والعزّة والاستقلال، وفي حالة أُخرى نسوقها إلى المذلّة والانحطاط. وإذا حلّ وقت الانتقام من طغيانكم الثاني بعد عودكم إلى الفساد سلّطنا عليكم عباداً أُخر أقوياء وأشدّاء في الحرب ليسوءوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرّة، وليبيدوا كل ما تسلّطوا عليه شر إبادة. ولعلّ الله يرحمكم إذا عدتم إلى الصراط المستقيم، وإن عدتم إلى الفساد عدنا إلى العقوبة وتسليط الأعداء عليكم. فقوله تعالى وإن عدتم عدنا بلحاظ خطابه إلى القوم والأُمّة دون الأفراد؛ يدل على أنّه قانون وسنّة عامة للمجتمعات.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد