مقالات

لماذا خرج الإمام الحسين (ع) بأهله وعياله؟

الشيخ محمد جواد مغنية

 

قامت المرأة بدور مهمّ في وقعة الطّفّ، وكان لها أبعد الأثر في الكشف عن مخازي الأمويّين، وانهيار حكمهم، وتألّب النّاس عليهم، فمن النّساء من دفعت بابنها أو زوّجها إلى القتل بين يدي الحسين عليه السلام تقربًا إلى الله، والرّسول (صلى الله عليه وآله)، كما فعلت أمّ وهب وزوّجته، ومنهنّ من حملنّ السّلاح للدّفاع عن نساء النّبيّ وأطفاله، ومنهنّ من تظاهرنّ ضدّ حكّام الجور الّذين قتلوا ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورشقن جيش الطّغاة بالحجارة هاتفات بسب يزيد وابن زياد.

أرسل الحسين عليه السلام رسولًا إلى زهير بن القين ليأتيه، ولـمّا دخل عليه الرّسول وجده مع قومه يتغذون، وحين أبلغه رسالة الحسين عليه السلام طرح على كلّ إنسان ما في يده، وجمد حتّى كأنّ على رأسه الطّير، فالتفتت امرأة زهير، وقالت: يا سبحان الله! أيبعث إليك ابن رسول الله، ثمّ لا تأتيه؟! فذهب زهير إلى الحسين، وما لبث أن جاء مستبشرًا مشرق الوجه، وقال: قد عزمت على صحبة الحسين لأفديه بنفسي، وأقيه بروحي، ثمّ التفت إلى زوّجته، وقال لها: أنت طالق، الحقي بأهلك، فإنّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير، وأعطاها ما لها، وسلّمها إلى بعض أهلها. فقامت إليه، وبكت وودعته قائلة: «كان الله عونًا ومعينًا لك، خار الله لك، أسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جدّ الحسين» (1).

 

لقد دفعت هذه الحرّة المصونة المؤمنة بزوّجها إلى سعادة الدّارين، ونالت الدّرجات العلى عند الله والنّاس، فما زال اسمها يعلن على المنابر ويدوّن في الكتب مقرونًا بالحمد والثّناء إلى يوم يبعثون، وهي في الآخرة مع جدّ الحسين وأبيه وأمّه، وحسن أولئك رفيقًا، وهكذا المرأة العاقلة المؤمنة تدفع بزوّجها إلى الخير، وتردعه عن الشّر ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.

وكانت امرأة من بني بكر بن وائل مع زوّجها في أصحاب عمر بن سعد، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على أطفال الحسين، ونساؤه هاربات حاسرات، يستغثن ويندبن، ولا مغيث، اسودّ الكون في وجهها، وفار الدّم في قلبها وعروقها، وأخذت سيفًا، وأقبلت نحو الفسطاط منادية: يا آل بكر أتسلب بنات رسول الله؟! لا حكم إلا لله! يا لثارات رسول الله! فأخذها زوّجها، وردها إلى رحله (2).

وليس من شك أنّ ثورة هذه السّيّدة النّبيلة قد بعثت الاستياء والنّقمة على الأمويّين، وملأت النّفوس عليهم وعلى سلطانهم حقدًا وغيظًا، وكلّ ما حدث في كربلاء، وفي الكوفة، وفي مسير السّبايا إلى الشّام كان من أجدى الدّعايات وأنفعها ضدّ الأمويّين.

 

أمر ابن زياد أن يطاف بالرّأس الشّريف في أزقّة الكوفة، ويهدد به كلّ من تحدّثه نفسه بالخروج عن طاعته، وطاعة أسياده، فكان هذا التّطوّف خير وسيلة لنشر الدّعوة العلوية، ومبدأ التّشيّع لأهل البيت عليهم السلام، ولعن من شايع، وبايع، وتابع على قتل الحسين عليه السلام، وسلامُ الله على السّيّدة الحوراء حيث قالت ليزيد: «فو الله ما فريت إلّا جلدك، وما حززت إلّا لحمك» (3).

وبعد الطّواف بالرّأس، أرسله ابن زياد وسائر الرّؤوس إلى يزيد مع أبي بردة، وطارق بن ضبّان في جماعة من أهل الكوفة، ثمّ أمر بنساء الحسين وصبيانه فشدّوا بالحبال على أقتاب الجمال مكشوفات الوجوه، ومعهم الإمام زين العابدين قد وضعت الأغلال في عنقه، وسرّح بهم ابن زياد مع مخفر بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن (4)، فأسرعا حتّى لحقا بالقوم الّذين معهم الرّؤوس، وكانوا إذا مرّوا ببلد استقبلهم أهله بالمظاهرات، والهتافات المعادية، ورشقتهم النّساء والأطفال بالحجارة يصرخون بهم: يا فجرة، يا قتلة أولاد الأنبياء.

سبوا الأطفال، والنّساء، وطافوا بهنّ وبالرّؤوس ليقضوا على مبدأ عليّ وأبناء عليّ، فكان السّبي، والتّطوّاف، ضربة مميتة لهم ولسطانهم، ووسيلة حقّقت الغاية الّتي أرادها الحسين عليه السلام من نهضته، فلقد أثار السّبي الأحزان، والأشجان في كلّ نفس، وزاد من فجائع الواقعة المؤلمة، وكشف أسرار الأمويّين للقاصي والدّاني، وظهرت قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل، واستبان للمسلمين في كلّ مكان وزمان أنّ الأمويّين أعدى أعداء الإسلام يبطنون الكفر، ويظهرون الإيمان رياء ونفاقًا.

 

وبذلك نجد الجواب عن هذا السّؤال: لماذا صحب الحسين معه النّساء والأطفال إلى كربلاء؟! وما كان أغناه عن تعرضهم للسّبي والتّنكيل؟!. لقد صحبهم معه الحسين عليه السلام ليطوفوا بهم في البلدان، ويراهم كلّ إنسان مكشّفات الوجوه، يقولون للنّاس ـ وفي أيديهم الأغلال والسّلاسل ـ: «أيّها النّاس انظروا ما فعلت أميّة الّتي تدّعي الإسلام بآل نبّيكم».

نقل عن السّبط ابن الجوزي عن جدّه أنّه قال: «ليس العجب أن يقتل ابن زياد حسينًا، وإنّما العجب كل العجب أن يضرب يزيد ثناياه بالقضيب، ويحمل نساءه، سبايا على أقتاب الجمال!.. .» (5). لقد رأى النّاس في السّبايا من الفجيعة أكثر ممّا رأوا في قتل الحسين عليه السلام، وهذا بعينه ما أراده الحسين عليه السلام من الخروج بالنّساء والصّبيان، ولو لم يخرج بهنّ لما حصل السّبي والتّنكيل، وبالتالي لم يتحقّق الهدف الّذي رآه الحسين عليه السلام من نهضته، وهو انهيار دولة الظّلم، والطّغيان.

ولو افترض أن السّيّدة زينب عليها السلام بقيت في المدينة، وقتل أخوها في كربلاء فماذا تصنع؟! وأي عمل تستطيع القيام به غير البكاء وإقامة العزاء؟!.

 

وهل ترضى لنفسها، أو يرضى لها مسلم أن تركب جملًا مكشوفة الوجه تنتقل من بلد إلى بلد تؤلّب النّاس على يزيد، وابن زياد؟! وهل كان يتسنى لها الدّخول على ابن زياد في قصر الإمارة، وتقول له في حشد من النّاس: «الحمد لله الّذي أكرمنا بنّبيه محمّد، وطهرنا من الرّجس تطهيرًا، إنّما يفتضح الفاسق، ويكذّب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله»؟! (6) وهل كان بإمكانها أن تدخل على يزيد في مجلسه وسلطانه، وتلقي تلك الخطب الّتي أعلنت بها فسقه، وفجوره، ولعن آبائه، وأجداده على رؤوس الأشهاد؟!.

إنّ السّيّدة زينب لا تخرج من بيتها مختارة، ولا يرضى المسلمون لها بالخروج مهما كان السّبب، حتّى ولو قطّع النّاس يزيد بأسنانهم، ولكنّ الأمويّين هم الّذين أخرجوها، وهم الّذين ساروا بها، وهم الّذين أدخلوها في مجالسهم، ومهدوا لها طريق سبّهم ولعنهم، والدّعاية ضدّهم وضدّ سلطانهم.

ومرّة ثانية نقول: هذه هي المصلحة في خروج الحسين عليه السلام بنسائه وأطفاله إلى كربلاء، وما كان لأحد أن يدركها في بدء الأمر إلّا الحسين عليه السلام وأخته زينب عليها السلام، عهد إلى الحسين عليه السلام من أبيه عليّ عليه السلام عن جدّه محمّد (صلى الله عليه وآله) عن جبريل عليه السلام عن ربّ العالمين. سرّ لا يعلمه إلّا الله، ومن ارتضاه لعلمه ورسالته.

ـــــــــــــــــــــــــ

1. انظر، تأريخ الطّبري: ٤ / ٢٩٨، مقتل الحسين عليه‌السلام، لأبي مخنف: ٧٤ و ١١٣، روضة الواعظين: ١٧٨، مقتل الحسين للخوارزمي: ٢ / ٤، و: ٤ / ٣٢٠، إعلام الورى: ١ / ٤٥٧، الإرشاد للشّيخ المفيد: ٢ / ٩٥، مناقب آل أبي طالب: ٣ / ٢٥٠، البداية والنّهاية: ٨ / ١٩٣، الأخبار الطّوال: ٢٥٦، تأريخ الطّبري: ٥ / ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

2. انظر، اللهوف في قتلى الطّفوف: ٧٨.

3. انظر، الإحتجاج: ٢ / ٣٦، مثير الأحزان لابن نما: ٨١، مقتل الحسين لأبي مخنف الأزدي: ٢٢٧.

4. انظر، الكامل لابن الأثير: ٤ / ٩٢، ميزان الإعتدال: ١ / ٤٤٩، لسان الميزان: ٣ / ١٥٢، تأريخ علماء الأندلس: ١ / ١٦٦، جمهرة الأنساب: ٢٧٠، اللّباب: ٢ / ٦٩، المحبّر: ٣٠١، تأريخ الطّبري: ٤ / ٣٤٩ و: ٥ / ٤٥٥ ـ ٤٥٦، مثير الأحزان: ٦٥، اللهوف في قتلى الطّفوف: ٦٠، الإرشاد للشّيخ المفيد: ٢ / ١٦٣، الأخبار الطّوال: ٢٥٩، مقتل الحسين لأبي مخنف: ٢٠٤.

5. انظر، تذكرة الخواصّ: ١٤٨ طبعة لكنهو، صورة الأرض لابن حوقل: ١٦١، الكامل لابن الأثير: ٤ / ٣٥، مروج الذّهب للمسعودي: ٢ / ٩١، والعقد الفريد: ٢ / ٣١٣، أعلام النّساء: ١ / ٥٠٤، ومجمع الزّوائد: ٩ / ١٩٨، الشّعر والشّعراء: ١٥١، الأشباه والنّظائر: ٤، الأغاني: ١٢ / ١٢٠، الفتوح لابن أعثم: ٥ / ٢٤١، شرح مقامات الحريري: ١ / ١٩٣، البداية والنّهاية: ٨ / ١٩٧، الطّبري في تأريخه: ٦ / ٢٦٧، و: ٤ / ٣٥٢، الآثار الباقية للبيروني: ٣٣١ طبعة اوفسيت، قريب منه.

6. انظر، الإرشاد: ٢ / ١١٥، إعلام الورى بأعلام الهدى: ١ / ٤٧١، ينابيع المودّة لذوي القربى: ٣ / ٨٧.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد