مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جاسم المحمد علي
عن الكاتب :
الشيخ جاسم المحمد علي - مواليد ١٩٨٥م في الدمام من أصول أحسائيةrnطالب علوم دينية في حوزة قم المقدسة

ظواهر الانحراف الجديدة في مجتمعنا الإيماني ... هموم وخواطر


جاسم محمد علي المحمد علي
• ظواهر الانحراف المجتمعية .. موجة صاعدة مدروسة
• خطورة الصمت والحياد
• فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيلة لحفظ ونهوضه وتغييره
• أهمية حضور الحس بالمسؤولية الرسالية لدى النخب الدينية تجاه الفساد والانحراف
• مقاومة الانحراف بين مقاصد الإسلام الكبرى والنظرة التجزيئية
• الطليعة الرسالية الواعية .. أدوار ووظائف
• نداء إلى المؤمنين المخلصين

بسم الله الرحمن الرحيم
لَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّة يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا ممَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَ ى بِظُلْم وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117).
• ظواهر الانحراف المجتمعية .. موجة صاعدة مدروسة
يمر مجتمعنا الإيماني العزيز في منعطف خطير وحساس على الصعيد الأخلاقي والروحي والفكري، فهناك مشاريع كبرى لها أجندتها الخاصة تريد أن تحدث تحولات بنيوية كبيرة في عمق هويته الدينية والثقافية والأخلاقية، وتستبدلها بنسق فكري قادر على إضعاف مناعته الدينية الأصيلة، وتحويله إلى بيئة حاضنة للانحراف والفساد والانحلال، حتى تنتهي به الموجة العاصفة والصاعدة إلى ناحية انمحاق شخصيته وإرادته وكرامته، بعد أن كان نموذجًا ناصعًا للالتزام الديني الصارم!
فاليوم ما يشهده مجتمعنا من ظواهر منحرفة تلامس العمق الثقافي والأخلاقي لكياننا الديني، ليست نتيجًا عفويًّا لتغيرات الحياة البشرية المتراكمة بحكم تطوراتها التقنية والتكنولوجية والمعلوماتية فأدت إلى الانجذاب إلى عالم المادة والشهوة ونسيان عالم الآخرة والمعنى، كما أنها ليست حدثًا عابرًا استدعته تفاعلات وقعت على هامش قضايا المجتمع وتحدياته فتغير بعض سطوحه الفوقية، بل هي توليد محترف ومدروس لمخططات فكرية متقنة تستهدف تغيير الركائز الأساسية لبنى المجتمع الروحية والثقافية، بقصد إعادة إنتاج الهوية الثقافية والأخلاقية للمجتمع الإيماني وفق أيدولوجيات فاسدة في منطلقاتها ومساراتها وأهدافها.

 • خطورة منطق الحياد والصمت   1
من الطبيعي وصول الكثير من الناس إلى قناعة بأن إدخال المجتمع الديني في ساحة الانحراف، يتحمل مسؤوليته من خطط له، وأطلقه، وهيأ مناخاته، وشجع عليه، وبلور مبرراته على الصعيد الشرعي والفكري والاجتماعي.
لكن هناك مسؤولية غالبًا لا يلتفت إليها ولا تؤخذ بعين الاعتبار، وهي المسؤولية التي تقع على عاتق الذي ينتهجون منطق الحياد، ويلتزمون خط الصمت، وهم يرون بل يعايشون الانحراف والفساد في بيوتهم ومجتمعاتهم، لكن لا يتخذون
موقفًا واضحًا من مجريات المجتمع وتفاعلاته في شؤونه الحيوية، ويفضلون الجلوس على التل، والاقتصار على تألم النفس من مجريات الواقع، وتحرق القلب على انهيارات المجتمع، رغم قدرتهم على المساهمة في الإصلاح والتغيير؛ اعتقادًا منهم أنهم لا يتحملون مسؤولية، لأنهم لم يشاركوا فيما يجري من فساد وانحراف، أو أن الخوف من ضريبة القيام بمواجهة المنكر قد تملكهم إلى حد فقدان الشعور بأهمية القيام بالتكليف الشرعي تجاه من يمارس دور إضعاف القيم الأخلاقية والروحية في نفوس الناس، لأنه يملك القوة والسطوة.
من الواضح أن هذه خانة الصمت والحياد والاعتزال عن مواجهة التحولات المجتمعية تشكل المساحة الأوسع والأكبر في موقف الناس تجاهها.
وهذا المنهج في غاية الخطورة على قيم الإنسان والحياة والمجتمع، وهو يلعب دورًا أساسيًّا في استشراء الفساد وتفشيه في الجسم المجتمعي بأكمله؛ لأنه لم يواجه من يقف ضده، ويمنع من تمدده وسريانه في الوسط الديني، والمخططات الفكرية الناعمة والمشاريع الثقافية الباردة تعول كثيرًا على صمت الأغلبية الساحقة من المجتمع الإسلامي، وتعتمد على ضعف ذاكرة أبنائه التاريخية ..

• فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيلة لحفظ المجتمع ونهوضه وتغييره
بل السكوت والصمت والاعتزال، يعطي في بعض ألوانه وظروفه وسياقاته شرعيةً للانحراف والفساد، ولذلك ذكر الفقهاء أن الصمت أمام المنكر مع وجود النخب الدينية الواعية التي تلعب دور التوجيه والإرشاد، قد يعد إمضاءً له وتشجيعًا على ارتكابه وممارسته. ( 2)
في هذا السياق، تبرز أهمية تكريس فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتفعيلها الواعي على الصعيد المجتمعي العام، فهذه الفريضة تعبر عن المسؤولية الرسالية والاجتماعية أمام الآخر، وتكشف عن حضور الدين الفاعل في الميدان السياسي والمجتمعي، وصنعه لحركة الإصلاح والتغيير والرقي والتقدم.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فقه الإصلاح الاجتماعي والديني والأخلاقي، هو كاشف موضوعي عن مستوى حياة الأمة منسوب حيويتها ونبض قلبها، وهي جاءت لتحفظ مرجعية الثوابت والمبادئ والقيم وروحها في السلوك الديني والمشروع الإصلاحي، بدل أن تذهب ضحية لمنطق المصلحة وتوازنات القوى، ومنهج الواقعية وفنون الدبلوماسية، التي تتحول في بعض الأحيان إلى رضوخ للفساد، وخضوع للانحراف، وتخدير لهموم المجتمع تجاه همومه
وقضاياه الكبرى.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو وسيلة لحفظ المجتمع من الوقوع في وحول الانحراف، وآلية لنهوضه وانبعاثه نحو الأحسن والأرقى والأفضل.
في هذا الإطار، يتجلى لنا فهم هذه الآية (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهَّ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم منْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( ..
فإن هذه الآية تؤكد أن أفضلية الأمة المؤمنة المسلمة على غيرها من الأمم ليس لذاتها وحد نفسها، بل هي كذلك عندما تنهض بأعباء دورها في ساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتصف بخصوصية الإصلاح الأخلاقي والفكري والسياسي لأبنائها ومجتمعاتها وفق القيم الإسلامية الحية، لتتحرك متصاعدة في مسارات العزة والكمال والسيادة.
يجدر بنا التنويه، إلى أن التأثير المطلوب تحققه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوصفها ظاهرة مجتمعية ليس هو ضرورة الإقلاع عن الفساد والانحراف بعد ممارسة الإصلاح تجاهه بصورة فورية حالية مباشرة؛ إذ نفس وجود هذه الظاهرة الرسالية بصورة حية في الوسط المجتمعي مما يحتمل تأثيرها التدريجي والمستقبلي في الناس، نتيجة الفعل التوجيهي المتراكم في طوال خط حركة المجتمع وعرض جغرافيتها، يكفيها ذلك في توفير عنصر العقلائية الذي يلعب دور الشرط الوجودي لتحقق هذه الفريضة الدينية السامية في مراقبة أوضاع المجتمع وتقويم ظواهره ونشاطاته.(3)

• أهمية حضور الحس بالمسؤولية الرسالية لدى النخب الدينية تجاه الفساد والانحراف
بل هناك من ذهب في عملية التحليل الديني لضرورة هذه الظاهرة الإيمانية وجدوائيتها، بالقول: إن هذه الفريضة يكفي في ضرورة تحققها هو أهمية استمرار الشعور بالمسؤولية الإسلامية لدى المؤمن الرسالي تجاه قضايا المجتمع ومبادئ الدين وقيم السماء حتى لو لم تتحقق استجابة فعلية حاضرة من الآخر المنحرف والفاسد والمفسد؛ لأن ارتهان تحقيق هذه الفريضة القرآنية في حفظ الدين والمجتمع للاحتمال الفعلي المباشر بالنتيجة الإيجابية والفردية والجزئية، يعني أن فقدان التأثير في كثير ممارسات هذ الفريضة ومناشطها يفضي مع مرور الوقت إلى تلاشي هذه الفريضة الدعوية، الأمر الذي يؤدي بصورة تدريجية إلى فقدان حس المسؤولية الرسالية إزاء الانحرافات المجتمعية والأخلاقية والسياسية (4)، والمنطق القرآني يؤكد أن الأصل الأساسي الذي يضمن نجاة المجتمع الفساد، هو هذا الحضور الحيوي للحس بالمسؤولية لدى النخب الدينية من العلماء والدعاة والملتزمين تجاه الدين والإنسان والمجتمع، بحيث يندفعون إلى ناحية محاربة الفساد والانحراف، ويأخذون على عاتقهم قيادة المجتمع الإنساني نحو الحق والخير والفضيلة (لَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّة يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا ممَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ(116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَ ى بِظُلْم وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ).
لكن متى ما تم التزام الصمت والحياد والانعزال عن هموم المجتمع وقضاياه، وبقي الناس دون مدافع أمام عوامل الفساد والانحراف، فإن استشراء الرذيلة والباطل والطغيان حقيقة حتمية تقتضيها سنن التاريخ والحياة.(5)

• مقاومة الانحراف بين مقاصد الإسلام الكبرى والنظرة التجزيئية
من يقرأ الرؤية الإسلامية بنظرة كلية مقاصدية، تبحث عن روحه المقومة لحركته، وتفحص عن قيمه الأساسية، سيجد أن الدين يريد للإنسان أن يعيش في الحياة باستقامة وعزة وفضيلة وكرامة، وسيلمس بوضوح أن الدين يستقبح
الانحراف والظلم والفساد، ويستنكر السكوت عليها، ويحرض المنتمين إلى خطه ومدرسته على ضرورة مقاومته بكل أشكال المقاومة الأخلاقية والروحية والفكرية والاجتماعية، وتقديم التضحيات لأجل حفظ الفرد والمجتمع من الانسياق خلف الرذيلة والانحطاط والشهوة.
فاليوم نجد أن تكرُّس الانحراف والفساد في الوسط المجتمعي، وتجذُر الشعور بالعجز عن مقاومته ومواجهته، هو بفعل النظرة التجزيئية والذاتية والفردية للدين وأهدافه، فهذه النظرة الضيقة تشل حركة النهوض والانبعاث والرفض تجاه كل ما
يسلب المجتمع إيمانه وأخلاقه وكرامته، وتضعف القضاء على منابع الفساد والانحراف، تحت عناوين براقة، مثل: الحكمة، الواقعية والدبلوماسية والمراحلية (6)، الأمر الذي أدى تغلغل هذه المفاهيم في العقل الديني العام إلى الألفة بفساد الواقع، والأنس بانحرافه، والتأقلم على أوضاعه ...

• الطليعة الرسالية الواعية، أدوار ووظائف
اليوم نحن بحاجة إلى الطليعة الإسلامية الواعية، التي تؤمن بالرسالة، وتصدع بقيمها وهمومها وأهدافها، وتعشق الدين ومشروعه في الحياة بكل وجودها وكيانها، بحيث تشكل قمة باسقة في حركة المجتمع (7 )...
هذه الطليعة تنهض بدورها الديني في سبيل تشكيل بناء مجتمعي متماسك وواع وحضاري، بالشكل التالي (8) :
 1 تبث الوعي الإسلامي الكبير، وتساهم في تكوين عقل المجتمع وثقافته وفكره.
 2 تحقق الاستنارة الفكرية في وسط المجتمع، من الارتباط بالحقيقة والقيم الإنسانية الرفيعة، والمنهجية في التفكير والعمل، ورفض التغريب والتبعية والسطحية والجمود في الرؤى والأفكار والمواقف، والتحلي بالبصيرة والشجاعة والجرأة في تحمل المسؤولية الكاملة تجاه قضايا المجتمع والحياة والأمة.
 3التمحور حول الإسلام بوصفه عقيدة في الحياة، ونظام للسلوك، لا يخرج الإنسان عنه في شيء من حياته، وأن يكون كل الوجود انقطاعًا إلى الله، وأن لا يحكم على أفعاله وأقواله غير أداء التكليف الإلهي.
4  إشاعة القيم الحقيقية للإسلام، ومحاصر القيم المادية الهابطة، وبناء الإنسان الذي يساهم في تكوين المجتمع الأخلاقي والروحي.
5 النهوض بالمجتمع إلى أعلى مستويات العزة والفضيلة والإرادة والوعي والكرامة، من خلال التأكيد على محورية الله في الوجود والتفكير والحركة والسلوك، وتجسيد صفاته العليا في مسيرة المجتمع الصاعدة.
6  حمل هموم الأمة، والوقوف معها، الالتزام بقضاياها، والدفاع عنها، ومتابعة مجريات الأمور بكثب ووعي وبصيرة.
 7 مواجهة التحديات الاجتماعية والفكرية والأخلاقية، ونقل المجتمع على الصعيد الثقافي من حالة التمترس والقلق إلى حالة الإنتاج والإبداع.

• نداء إلى المؤمنين المخلصين
أيها المؤمنون المخلصون: في هذه المرحلة الحساسة والعصيبة التي يمر بها مجتمعنا الحافل بالتحديات والرهانات، وهو تتمزق روحه وإرادته بفعل ضربات الانحراف والفساد، نحتاج إلى من يرفع صوته عاليًا في رفض كل ما يعرض هويتنا للتلاشي والانمحاق، ويخرج من بين الثنائيات المحيرة القاتلة: هل أنتظر الظروف تتغير حتى أدافع عن هويتي وقيمي وإيماني، أم أدافع عن قيمي وهويتي حتى تتغير الظروف (9)... عليه أن يخرج من بين هذه الألغام، وينطق بصورة بصيرة عن الحقائق والقيم مراعيًا وجه الله، مستعينًا بحول الله وقوته، فالوضع الأخلاقي والاجتماعي لم يعد يتحمل الصمت والسكوت والحياد، فإذا لم نستفيق ونصحو ونستيقظ سنجد أنفسنا بعد فترة وجيزة في بيئية مختلفة كل الاختلاف عن إرادة السماء وقيم الدين وأهداف الشريعة ... فاليوم أحوج ما نحتاج إلى أصحاب العقول الواعية، والقلوب البصيرة، والهمم العالية، والعزائم الراسخة، لعلنا نستطيع أن نجيب ربنا في وقت لا ينفع مال لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وعمل صالح .
ـــــــــــ
1 . مقالة تحت عنوان: مسؤولية مواجهة الانحراف.
2 . موقع السيد السيستاني، استفتاءات، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
3 . حيدر حب الله، كتاب فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طباعة دار الانتشار العربي.
4 . المصدر السابق نفسه.
5 . تفسير الأمثل، سورة هود.
6 . عبدالوهاب حسين، أسئلة وأجوبة.
7 . محمد مهدي الآصفي، المجموعة الحركية.
8 . عبد الوهاب حسين، أسئلة وأجوبة.
9 . حيدر حب الله، أسئلة وأجوبة، هل نتبع المدارة أم الإفصاح